عرفت الجزيرة العربية حرفة الدباغة التي كانت - على ما يبدو - اكثر شيوعاً وازدهاراً من سائر الحرف، إذ كانت لها محترفاتها المتخصصة، كما كانت تتم في المنازل. ولبّت هذه الحرفة الكثير من حاجات العرب في العصر الجاهلي، في مساكنهم ولباسهم ونعالهم وآنية مائهم وطعامهم وأسلحتهم ورحال مطاياهم، وكانت مصدر الخامات التي استعملها الخرّازون والأساكفة صنّاع النعال، حتى كادت الدباغة والخرازة والسكافة ان تكون حرفة واحدة. ويتضح من الشعر الجاهلي، ومن سائر المصادر، ان ازدهار الدباغة في الجزيرة كان عاملاً عظيم الأثر في تكيّف البدو مع بيئتهم الفقيرة القاسية، ومظهراً أساسياً من مظاهر تحضّر الحضر وترفهم. ولم يكتف الشاعر الجاهلي بالحديث عن الجلود المدبوغة، بل سجل في شعره مصادر الجلود ومواد الدباغة وتقنياتها، الى جانب تقنيات الخرازة والسكافة وآلاتهما، بمقدار ونحو يساعدان على الإلمام بهذه الحرف ومعرفة الكثير من تفاصيلها وبراعة من احترفوها من الرجال والنساء. وساعد على ازدهار الدباغة في الجزيرة العربية توافر الخامات، سواء ما كان منها جلوداً أو ما كان مواد دباغة، علاوة على ما وفّره الحدّاد والنجّار من عدة استعملها الدبّاغ او الخرّاز والإسكاف. وعلى رغم ترابط الدباغة والخرازة والسكافة، لا يملك الباحث إلا ان يدرسها كلاً على حدة، بحكم تمايزها من حيث الخصائص والتقنيات، وإن أدت جميعاً الى إنتاج سلعة جلدية، وعلى ذلك ندرس الدباغة من حيث مواطن احترافها ومن حيث خاماتها، ومن حيث تقنياتها وعدتها. الدباغة لغة ومستوى إنتاج لم تحتج المصادر اللغوية الى الإسهاب في شرح معنى الدباغة، ذلك ان "الدّبغ معروف"، و"الصناعة الدباغة، والدّبّاغ فعّال"، والدباغة، التي هي الحرفة، تدل أيضاً على "ما يُدبغ به الأديم"، و"المدبغة" هي: "موضع الدّبغ" أو "موضع الدِّباغ" جمهرة اللغة ولسان العرب. ومن أسماء الدباغة "الأباءة"، ففي حاشية بعض نسخ "الصحاح" للجوهري: "أبأت أديمها: جعلته في الدباغ". وربما سُمّي الجلد "إهاباً" و"أَفيقاً" وأكثر اسمائه استعمالاً "الأديم" وهو "الجلد ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ" اللسان. وقد استعملوا الجلد مدبوغاً وغير مدبوغ، وغير المدبوغ عندهم يسمّى "القِدّ" أو "الصليب"، وشاهد الأول قول جبار بن جزء يصف كلاب صيد: مُقلَّداتِ القِدِّ يَقْرونَ الدَّغَلْ. وشاهد الثاني قول علقمة بن عبدة: بها جَيفُ الحسرَى فأما عظامُها فَبيضٌ، وأما جِلدُها فصَليبُ. والظاهر ان "القد" اسم للجلد المدبوغ، كما هو اسم للجلد غير المدبوغ، بدليل انهم سمّوا القيود الجلدية "قِدّاً"، فلو كانت غير مدبوغة لأنتنت وتقطعت، فيما يخبرنا ربيعة بن مقروم ان الأسير ربما أمضى وقتاً طويلاً وهو يعالج هذا القد في يديه فلا يقوى على قطعه، قال: وقاظَ ابنُ حِصنٍ عَانِياً في بُيوتِنا يِعالِجُ قِدّاً في ذِراعَيْهِ مُصْحَبَا، ومعناه: "قاظ: أقام القيظَ كُلَّه. العاني: الأسير. القِدُّ: السَّيْر من الجلد، وقَدٌّ مصحب: عليه صوفه أو شعره أو وبره". وربما كانت متانة القدّ متأتيةً من ضفْره، كما يفهم من قول الشمّاخ بن ضرار في حمار وحشي: إِذا هو وَلَّى خِلْتَ طُرَّةَ مَتْنِهِ مَرِيرَةَ مَفْتُولٍ من القِدِّ مُدْمَجِ، فالمريرة: "الحبل المفتول على أكثر من طاق، وهو إذا كان كذلك كان شديد الفتل. والقدّ هنا: السير المضفور من جلد غير مدبوغ". والثابت أن الجلد المدبوغ عند العرب متين لا محالة، وأنه عالي الجودة لا محالة، بدليل انهم استخدموه رقّاً للكتابة، ومن الشعر الكثير الذي ذكر ذلك قول معقل بن خويلد: وإنِّي كما قالَ مُمْلِي الكِتَابِ في الرِّقِّ إذ خَطَّهُ الكاتِبُ كما يشهد على هذه الجودة انهم جعلوا في الجلد توشية مذهبة، وهذا قول بشر بن أبي خازم مشبهاً أطلال منازل صاحبته: أطْلالُ مَيَّةَ بالتِّلاعِ فَمُثْقَب أَضحَتْ خلاءً كاطّرادِ المُذهَبِ فهو "يشببها، وقد خلت من أهلها، بقطعة جلد فيها الخطوط المذهبة". وحسبنا دليلاً على جودة الجلود العربية ومتانتها انهم صنعوا منها كير الحداد. ومن أسماء الجلد المدبوغ "الأرندج" أو "اليرندج"، ومنه صنعوا الأحذية وسروج الخيل، وبعض اجزاء رحل الناقة، قال المتلمس في مدح قيس احد سادات اليمن، واصفاً جملاً: لهُ جُدَدٌ سُودٌ كأَنَّ أَرَنْدَجاً بِأَكْرُعِهِ وبالذِّرَاعيْنِ سُنْدُسُ فالأرندج: "اليرندج، يقال هو الدَّارش أي جلد أسود يكون للأساكفة". مواطن انتشار الدِّباغة انتشرت الدباغة في الحاضرة والبادية على السواء، وكانت في الحواضر اكثر انتشاراً وازدهاراً، وإلى جانب المدابغ المستقلة المتخصصة دبغ العرب الجلود في منازلهم، واشتغل بذلك الرجل والمرأة. وأشهر الحواضر في هذا المضمار: الطائف، فهي كما يقول الهمداني "بلد الدِّباغ، يدبغ بها الأُهُبُ الطائفية المعروكة الصفة، وذُكر أنَّ مدابغها كانت كثيرة، وأنَّ مياهها كانت تنساب الى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية" البلدان. ويستفاد من شرح لأحد أبيات حسان بن ثابت أن أهل الطائف كانوا يشترون مادة دباغ من أهل مكة، قال حسان يهجو هشام بن المغيرة: أَطَبْخُ الإِهالَةِ أمْ حَقْنُها فأَنفُكَ من رِيحِها وارم؟ فالإهالة: الوَدَكُ، تؤخذ عظام النُّسُكِ التي بمنىً "فيكسرونها ويأخذون الودك فيبيعونه من الدباغين"، وكان "يشتريه أهل الطائف يدهنون به الجلود الطائفية". ومن الجلود المشهورة: الجلود الغرفية، أي التي دبغت ب"الغَرْف"، وكان منها "جلود يمانية وجلود بحرانية" المفصل لجواد علي: 7/539، واليمن مشهورة بالدباغة وبتصدير الجلود نفسه، ص 538، ومنها "الأدم الجرشي"، أي الذي دبغ في جرش اليمنية، وكانت صعدة في اليمن "موضع الدباغ في الجاهلية" كما ذكر الهمداني. والمكّيُّون الذين باعوا الإهالة في الطائف دبغوا الجلود أيضاً وتاجروا بها، وشاهد ذلك ما أنشده ثعلب في "لسان العرب"، وإن كنّا لا نعرف اسم الشاعر أو عصره: إذا جَعَلْتَ الدَّلوَ في خِطَامِها حَمْراءَ منْ مَكَّةَ، أو حَرَامِها، أوْ بعضَ ما يُبْتاعُ من آدَامِهَا. ويبدو أن العرب كان يخزنون مواد الدباغة في منازلهم لوقت الحاجة، وربما استعارها بعضهم من بعض. وروى الأصمعي ان امرأة بعثت بُنيّةً لها الى جارتها "فقالت: تقول لكِ أمي اعطيني نفساً أو نفسين امعس بها منيئتي فإني أَفِدَةٌ أي مستعجلة لا أتفرغ لاتخاذ الدباغ من السرعة، أرادت قدر دبغة أو دبغتين من القرظ الذي يُدبغ به" لسان العرب. ومن شواهد الدباغة في البيوت، وما يصدر عنها من روائح كريهة، قول أبي كبير الهذلي: فَدَخَلْتُ بَيْتاً غيرَ بَيْتِ سَنَاخَةٍ وازْدَرْتُ مُزْدَارَ الكَرِيمِ المِفْضَلِ "يقول: ليس ببيت دباغ ولا سمن"، و"السناخة: الريح المنتنة والوسخ وآثار الدباغ" اللسان. ومن طريف ما في شعرهم ما قاله حميد بن ثور في امرأته التي "أصابت مرآة وهي عجوز، فنظرت في وجهها وهي تظن أنّها على شبابها"، قال حميد مقارناً بين امرأته وامرأة حسناء: إذا أنتِ باكَرْتِ المَنِيئَةَ بَاكَرَتْ مَدَاكاً لها، من زَعْفَرانٍ، وإِثْمِدَا، وهو يعني: "إذا أنت باكرتِ المنيئة، أي دباغ الجلود، باكرت هي الى الطِّيبِ والمداك ... والاكتحال" تهذيب إصلاح المنطق، ص 215. مصادر الجلود في شرح بيت ربيعة بن مقروم، المتقدم ذكره، عن تقييد الأسير، أنَّ القِدَّ المُصْحَب هو الذي "عليه صوفه أو شعره أو وبره"، بكلمات عيَّن شارح "المفضليات" مصادر عدة للجلود: الأغنام والماعز والإبل والأبقار وغيرها، الأمر الذي يتردد كثيراً في الشعر الجاهلي، الى جانب ذكر مصادر اخرى كبعض انواع السمك، والسلاحف، والأرانب، والكروش، وهذه كلها مصادر متوافرة في شبه جزيرة العرب لذلك العهد، وكان الحصول عليها يسيراً، عن طريق القطعان المستأنسة، وصيد الحيوانات الوحشية، إضافة الى الأضاحي في مكةالمكرمة. من جلد الأغنام دبغوا "مسوكاً" وأوانيَ أخرى مختلفة. وفي المسوك أي الوطب يقول الجميح الأسدي: فاقْنَيْ لعلَّكِ أنْ تحْظَيْ وتَحْتَلِبي في سَحْبَلٍ من مُسُوكِ الضَّأْنِ مَنْجوبِ، فهذا جلد ضأن منجوب أي مدبوغ بالقرظ. ومن جلد الماعز صنعوا أشياء كثيرة مدبوغة. ويبدو أن هذا الضرب من الجلد كان ذا قيمة عالية عندهم، حتى جاز للشماخ بن ضرار أن يسلكه مع برود الخال والدراهم ثمناً لقوسٍ عزيزة على صانعها، قال: وبُرْدانِ منْ خالٍ وتِسْعُونَ دِرْهَماً ومع ذاكَ مَقْرُوظٌ مِنَ الجِلْدِ مَاعِزُ. ورأوا في جلود الحيوانات الوحشية نقاءً وصحةً، كما يُستنتج من قول امرئ القيس يصف جواده واعتماده عليه في صيد الحمر الوحشية: ذَعَرتُ بهِ سِرباً نقيّاً جُلودُهُ كما ذَعَرَ السِّرْحانُ جَنْبَ الرَّبِيضِ، فيما أشاروا الى تعذر الإفادة من جلد البقر والإبل الجربى، قال لبيد بن ربيعة: ذهب الذينَ يُعاشُ في أكنافِهِمْ وبَقِيتُ في خَلْفِ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ وجلود البقر بخاصة كانت مفضلة في صناعة الأحذية، وقد سمّوها "لسبت" بعد دبغها بالقرظ، وممن ذكروها: كعب بن زهير، قال يشبه ناقته بحمار وحشي يسوق آتاناً: منَ اللاّتي أَلِفْنَ جَنُوبَ إِيرٍ كأَنَّ لَهُنَّ مِنْ سِبْتِ نِعَالاَ ومن جلود البقر صنعوا التروس للحرب، وإلى هذه التروس يشير صخر الغيّ، في شأن بني خناعة: لو أنَّ أصْحابِي بَنُو خُنَاعَهْ أهلُ النَّدَى والمجْدِ والبَرَاعهْ تَحْتَ جُلُودِ البَقَرِ القَرَّاعَهْ لَنَهْنَهُوا مِنْ هذِهِ اليَرَاعهْ فهو يعني ب"جلود البقر": "الترسة، أي هم يتَّقون بها". كذلك دبغوا جلود الأرانب، وخاطوا منها ثياباً عرفت ب"المرنبانية"، كما في شرح بيت النابغة الذبياني: تَرَاهُنَّ خلفَ القَوْمِ خُرْزاً عُيُونُها جُلُوسَ الشُّيُوخِ في ثِيَابِ المَرَانِبِ. واصطادوا الظباء ودبغوا جلودها، وسمّوا جراباً من هذا الجلد باسم "الظبية"، قال الأعلم أخو صخر الغيِّ الهذليّ: ويَحْسَبُ أَنَّهُ مَلِكٌ إذا ما توسَّدَ ظبْيةَ الأَقِطِ الجُلاَلِ ومعناه: "إذا وجد الأقط والسَّمن حسب نفسه ملكاً، والظبية: جراب من جلد ظبي". كما دبغوا احشاء الحيوان، ولا سيما الكرش، ففي خبر عن اتصال أعشى قيس بسلامة ذي فائش في اليمن، أن سلامة منحه لقاء مدحته، في ما منحه، كرشاً مدبوغةً مملوءة عنبراً". ومن جلد حيوان البحر دبغوا جلد السلحفاة المسماة "الأطوم"، ونسب الى الشماخ، وإلى كعب بن زهير هذا البيت في تشبيه جلد الناقة بجلد الأطوم: وجِلدُها من أَطُومٍ ما يُؤَيِّسُهُ طِلْحٌ كَضَاحِيةِ الصَّيْدَاءِ مهْزُولُ وقال ابن منظور ان جلود الأطوم كانت "تتخذ منها الخِفاف للجمّالين وتنحصف بها النعال". موادُّ الدباغة كثرت مواد الدباغة عند الجاهليين العرب، وتنوعت بين مواد حيوانية ومواد نباتية، وأشار إليها الشعر كما أشارت إليها المصادر اللغوية، على نحو يستفاد منه أن العرب ألَمُّوا، عن طريق التجربة، بالآثار الكيماوية لمواد الدباغ هذه. تعددت تسميات الجلد المدبوغ اشتقاقاً من اسم مادة الدِّباغ، أو من دون أية صلة اشتقاقية، فالمقروظ مثلاً: "المدبوغ بالقرظ"، فيما "السِّبت" الجلد المدبوغ بالقرظ أيضاً. وللقارئ أن يرجع الى المعاجم للاطلاع على تسميات مثل: مُظَيَّن وأرندج وغيرهما. وفي الشعر أن المُظَيَّنَ: المدبوغ بالظيّان وهو: "ياسمين البر"، وشاهده قول أبي ذؤيب الهذليّ: يا ميَّ لا يُعْجِزُ الأَيّامَ ذُو حِيَدٍ بِمُشْمخِرٍّ من الظَيَّانِ والآسِ وأشهر مواد الدباغ على الإطلاق "القرظ"، وفي المصادر حكايات طريفة بشأنه يضيق عنها المقام، وحسبنا الإشارة الى ما قرروه من أن بلاد القرظ في اليمن، وقد مرَّ بيت الشماخ بن ضرار في الجلد المقروظ واشتراطه ان يكون جزءاً من ثمن قوس. وربما خلطوا بين القرظ والسَّلْم، ففي "اللسان": "سلمت الجلد أسلمه ... إذا دبغته بالسلم ...، والسَّلْم: شجر من الغصاة وورقها القرظ الذي يدبغ به". ولكن ابن منظور ينقل عن بعض رواته انَّ السلم شجر آخر غير القرظ. ومن شجر الدباغ "الأرطى" واحدته "أرطاة"، وهي شجرة "منبتها الرمال، لها عروق حُمْرٌ يُدْبغ بورقها أساقي اللبن فيطيب طعم اللبن فيها" الصحاح، وهي مذكورة في الشعر كثيراً، ومن ذلك قول امرئ القيس يصف ثوراً وحشياً: وباتَ الى أرْطاةِ حِقْفٍ كأَنَّها إذا أَلْثَقَتْها غَبْيَةٌ بيتُ مُعْرِسِ ودبغوا ب"الألاء"، وهو "شجر وَرَقُهُ وحَمْلُهُ دِباغ"، وشاهد وجوده قول ابن عنمة الضبيّ: فَخَرَّ على الألاءَةِ لمْ يُوَسَّدْ كأَنَّ جَبِينَهُ سَيْفٌ صَقِيلُ ودبغوا ب"النجب"، والجلد المدبوغ به "منجوب"، قال حميد بن ثور: يُطِفْنَ بِجَعْجَاعٍ كأنَّ جِرَانَهُ نَجيبٌ على جالٍ مِنَ النَّهْرِ أَجْوَفُ وقيل إن "النجب": "سوق الطلح"، وقيل إنه قشر شجرة يدبغ به، وهو قول شارح ديوان عنترة العبسي في قوله يصف زقّاً منجوباً: ومنْجوبٍ لهُ مِنْهُنَّ صَرْعٌ يَميلُ إذَا عَدَلْتَ بهِ الشِّوَارا. ومما كان حيوانياً عضوياً، ذكرنا الإهالة وبيت حسان بن ثابت في هجاء هشام بن المغيرة عند الحديث عن شيوع الدباغة في الجزيرة. ومن هذا الدباغ الحيواني "رُبُّ السمن والزيت"، وشاهده قول عمرو بن شأس الأسدي: فَإِن كُنتِ مِنّي أو تُريدينَ صُحبَتي فكوني له كالسَّمْنِ رُبَّ لهُ الأَدَمْ ولم يكتفوا بدبغ الجلود، بل صبغوها بعد الدباغ، كما نفعل اليوم، وأشهر مواد الصباغ عندهم "الصِّرف"، وهو "صبغٌ أحمر تُصْبَغُ به الجلود". عُدَّةُ الدَّبَّاغ وتقنيات الدباغة وإلى جانب مواد الدباغة، استعمل الدّبَّاغ عدّةً بعضها من صنع الحدّاد وبعضها من صنع النّجار، واعتمد تقنيات ربما كانت واحدة عند الدباغين، فأول ما يفعله الدباغ "كَشْطُ الإهاب" اللسان، ثم تعريته من ظاهرٍ وباطنٍ، وهو التحلئة والبَشْر، وأما تحلئة الجلد فهي "ما قشره الدَّابغ منه" من جهة ظهره جمهرة اللغة واللسان. وأما البَشْر فاختُلِفَ فيه، فهو في رأي البعض قشْر البشرة "التي ينبت عليها الشعر. وقيل: هو أن يأخذ باطنه بشفرة" اللسان. والشفرة حين يقطع بها الجلد قطعاً ربما سميت إزميلاً، قال عبدة بن الطبيب يصف ناقةً: عَيْهَمَةٌ يَنْتَحي في الأَرضِ مَنْسِمُها كما انْتحى في أَديمِ الصِّرفِ إِزْمِيلُ وقد يُسمَّى قطع الجلد "قَطّاً"، وبه شبَّه المتنخل بن عويمر الهذليّ الطعن في الحرب، فقال: بِضَرْبٍ في الجَمَاجِمِ ذي فُرُوجٍ وطَعْنٍ مِثْلِ تَقْطَاطِ الرِّهاطِ إلى جانب ذلك صقل الدبّاغ الجلد ونقشه، واستعمل في ذلك آلة هي "المِخَطّ"، وهو "خشبة يُصقل بها الأديم أو يُملّس"، وشاهد المخطّ قول النَّمِرِ بن تولب: كأَنَّ مِخَطّاً في يَدَيْ حارِثِيَّةٍ صَناعٍ عَلَتْ مِنِّي بهِ الجِلْدَ مِنْ عَلُ وقد يكون المخطُّ حديدةً لا خشبةً، قال النابغة الذبياني في امرأة: مَخْطوطَةُ المَتْنَينِ غيرُ مُفاضَةٍ رَيّا الرَّوَادِفِ بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ وفي شرحه: "المخطوطة المتنين: التي في متنها خَطّانِ، كما تُخطُّ الجلود إذا زُيِّنت بالحديدة مثل جلود المصاحف وغيرها .... والمخطُّ: حديدة يُصقل بها الجلد"، ومثله "المحطّ" بالحاء المهملة، و"حطَّ الإسكاف الجلدَ صقله أو نقشه بخشبة معدَّة لذلك حتى يلين ويبرق"، وذلك شرح بيت أعشى قيس في مدح رجل من كندة يقال له ربيعة بن حبْوَة: حَطَّتْ لهُ ريحٌ كما حطَّت إلى مَلِكٍ عِيَابُهْ والعياب: جمع عيبة، وهي جراب من جلد. وقد مرّ ان الجلد إذا دبغ وعليه وبره أو صوفه أو شعره فهو "مصحب". والجلد أول ما يكون في الدباغ "منيئة"، ومقدار مادة ما يدبغ به "نفس" وهي تعادل "ملء الكف" ومن قرظ أو غيره، وهو محتاج في الدباغ الى نقع و"معس"، والمعس: التليين، وأصله: "المعك والدّلك للجلد بعد إدخاله في الدباغ"، و"منيئةٌ معوسٌ إذا حُرِّكَت في الدباغ"، والجلد ما دام في الدباغ لم تتمَّ دباغته فهو "أفيق"، حتى إذا تمت دباغته صار أديماً، فإذا "نهكه الدِّباغ" فهو "أديم مفلفل". أما إذا لم يدبغ فهو "محرَّم" كل ذلك من لسان العرب. ومن الجلد المحرم سوط راكب الناقة ومن اسمائه "القطيع"، قال الأعشى في ناقته وسوطه، في معرض مدحه إياس بن قبيصة الطائي ورويت في مدح قيس بن مَعْدِيْكَرِب: تَرى عَيْنَها صَغْوَاءَ في جَنْبِ مَؤُقِها تُرَاقِبُ في كَفِّي القَطِيعَ المُحَرَّما أما إذا فسد الجلد في الدباغ فهو "نَغِلٌ"، وشاهده قول الأعشى يمدح سلامة ذا فائش ويصف الأرض. يَوْماً تراهاَ كَشِبْهِ أَرْدِيَةِ الخِمْسِ ويوْماً أَدِيمُها نَغِلا تلك حرفة الدباغة في مصادر جلودها وموادها الأولية وما اعتمده الدبّاغ من عدّة وتقنيات صُنع، وهي حرفة أخذت بطرفٍ من خصائص الكيمياء، وكانت بذلك قادرة على تقديم جلد جيد افاد به العرب في شتى مجالات عيشهم. إلا أن جهد الدبّاغ كان غالباً في حاجة الى جهد آخر يكمله، هو جهد الخَرّاز والإسكاف، الأمر الذي أفاض الشعر والمصادر الأخرى في الحديث عنه. * باحث لبناني في شؤون التراث الشعبي.