حياة عادية محمد صالح الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة 2000 تتحرك القصيدة التي يكتبها الشاعر المصري محمد صالح في الحيّز الذي باتت ترتاده تجارب شعرية مصرية وعربية كثيرة، ويتبدّى ذلك في اكتفاء القصيدة بعالمها الصغير وانسانها الهامشي والمغمور، وبانشغالها بالمفردات المباشرة والعوالم القريبة التناول. والقصيدة، في هذا المعنى، تصبح مساوية لطموحاتها اللغوية والشعرية، حيث كل شيء منتقى بعناية وشفافية ليليق بنصّ وذي تأليف خاطف. لا توجد أفكار كبرى داخل نصوص كهذه، ولا مجال فيها لمحمولات ايديولوجية وفلسفية ورؤيوية. والقارئ لا يعثر، غالباً، سوى على مزاج شعري شخصي يحاول ان يبني العالم على صورة الفرد العادي المطحون والوحيد والمتخلّي عن المشاريع الضخمة والأحلام الفضفاضة. وهذا ما ينعكس، تلقاءً، على طريقة كتابة القصيدة التي تبدو، بدورها، من دون عبارات ضخمة أو مناخات فضفاضة. ما يبدو فيها، أكثر من اي احتمال آخر، هو تصور شعري بسيط لمشهد من الحياة. انه بسيط لأنه يكتفي بطبقة واحدة من التعبير أو بإيحاء مباشر له. أما امتلاكه السمة المشهدية فيعود الى استعداد شعري يجرب ان يرسم الحال بالكلام، كأن يتكون الايحاء الشعري من تكوين تشكيلي أو فوتوغرافي في الأساس ثم يتفرع أو يتشظّى بكيفيات مختلفة ولكنها تظل محتفظة بطابعها الفوتوغرافي. "هذه السيدة/ لا تتصور نفسها وحيدة بدونه/ تموت رعباً/ لأنه يهمل صحته/ ويسرف في التدخين/ وتلاحقه بوصاياها/ حتى يختفي في بئر السلم/ ثم تجري الى الشرفة/ قبل ان يستدير هو حول البناية/ لتراه في الشارع/ من ظهره هذه المرة/ يبدو ذاهلاً وأكثر نحولاً/ وعندما يميل وتلتقي عيناهما/ يرى دموعها هناك/ في مكانها/ على قوس الخد". الأرجح ان نصاً كهذا يصلح مثالاً لكل التوصيف السابق عن هذه الكتابة التي تظهر كمشهد وتتوالى فيها السطور وكأن كل سطر يضيف لمسة تصويرية خاصة ويفتح عدسة الكاميرا ليتسع المشهد ويكتمل. كتابة تحتفل بالأشياء والتفاصيل وشؤون العيش العادي، ولذلك لا نرى فيها لغة مجنحة أو أثيرية بل هي لغة مادية وملموسة ومحددة ودقيقة لا تفسح مجالاً للبلاغة التقليدية أو لصوت اللغة العالية وايقاعاتها المضبوطة وزنياً. بالعكس، ان معظم قصائد كتاب "حياة عادية" وهي المجموعة الرابعة للشاعر مصنوعة من السرد والحكي والثرثرة والنثر وليس من الاهتمام الشديد في شكل العبارة أو بالصقل اللغوي أو الانفعال الدرامي. لا يوجد انشغال بالأداء الخارجي للجملة الشعرية. انها كتابة ذات بعد أحادي، على رغم أهميته، فلا تتعدد فيها الأصوات ولا يكون الشاعر ناطقاً باسم أحد سواه. ولذلك تكثر مفردات الحياة اليومية في الكتاب: "كان البشر الحقيقيون/ يبدون غرباء/ وهم يتدافعون بين نوافذ العرض/ ودكاكين الصرافة/ واسماء الوكالات التجارية/ وفي الجو/ تنتشر تلك الرائحة/ التي اعتاد ان يشمها في ما بعد/ ولا يستطيع تمييزها". وتكثر، أيضاً، تراكيب الكلام اليومي المستعمل والمكرور، ويلاحظ ذلك في عناوين القصائد مثلاً وفي شيوع مفردات انكليزية فيها. الأرجح ان محمد صالح يكتب بأسلوب أقرب الى اسلوب الوجود في الحياة، وتكاد القصيدة تكون ترجمة شبه حرفية لهذا الوجود، حتى ان بعض قصائد الكتاب تقدم وصفاً دقيقاً لشخص محاصر بالعزلة التي تشبه بطريقة أو بأخرى، شخصاً يكتب وحده أو يعيش وحده: "أكون قد نسيته/ تكون قد مرت سنوات/ على آخر مرة التقيت به/. ويكون قد مات/ حتى دون أن أعرف/ لكن شخصاً ما يأتي/ ويهمس لي/ بخبر مصرعه/ ويكون علي ان ارتدي كامل ملابسي/ لأرافق الجثة". انها "حياة عادية" كما يقول ذلك عنوان الكتاب بفظاظة توازي الاعتزاز، والأرجح ان الشاعر هو ضحية هذه القصائد أكثر من كونه بطلها من دون ان يعني ذلك أية تراجيديا. أما القصائد فهي اقرب الى يوميات كائن صغير ومنسي يحتفل بحياته العادية ويرثيها.