ما أن قبضت الشرطة المصرية على مجموعة من الشباب قبل أكثر من اسبوع، في احد المنازل العائمة على نيل القاهرة، حتى انهالت الأخبار غير المحققة حول انتمائهم الى ما يسمى بعبدة الشيطان. وهذا الأمر كان تكرر أكثر من مرة وفي أكثر من دولة مشرقية، إذ يطلق على كل شاباً أطلق شعره، أو ثبتت مثليته هذا الاتهام، أو في الحد الأدنى هو مرشح لأن يصاب به. ومجموعة ال55 شاب في القاهرة قيل انها مجموعة من الشباب المثليين كانوا يشاركون في زفاف شابين من اصدقائهم، وقيل أيضاً انهم تعارفوا وبنوا علاقاتهم عبر شبكة الانترنت. ومن بين الأخبار غير المدقق في صحتها انهم ابناء اثرياء، وانهم من قوم لوط، وراح بعضهم يقول ان لهم علاقة باسرائيل. كل هذه الأخبار على تناقضها ومبالغتها لا تدل على انهم من اتباع هذا المذهب. كما ان سيل الشائعات وتقاطعها حول هذا الموضوع يخفي معلومات ويبرز أخرى شأن الكثير من الحوادث المشابهة. هنا محاولة لإلقاء الضوء على حادثة ال55 شاباً، وكادر توضيحي حول من هم عبدة الشيطان: في آذار مارس عام 1999 قامت الدنيا حين ضمن أحد أساتذة الجامعة الاميركية كتاب "الخبز الحاف" للأديب المغربي محمد شكري في قائمة قراءاته الخارجية، فالكتاب يتعرض لتجارب جنسية شاذة. وتدخل وزير التعليم العالي الدكتور مفيد شهاب لتهدئة الأمور، وللتأكيد على مبدأ رفعة الأخلاق ورفض كل ما هو شاذ، ولم تقعد الدنيا إلا برفع اسم الكتاب من القائمة، بل ورفع الكتاب نفسه من مكتبة الجامعة. وفي الشهر نفسه من العام التالي 2000، تعرضت إحدى السفن الراسية في نيل القاهرة لحملة من رجال الشرطة بعدما ترددت لديها معلومات أن السفينة ملتقى للرجال الشذاذ. وفي الشهر التالي من العام نفسه، تكررت قيامة الدنيا، لكن في شكل أوسع حين ألقي القبض على رجلين شاذين في مدينة الزقازيق، أقدما على توثيق علاقتهما بعقد زواج، فكان نصيبهما الحبس، وبدأ المصريون يهمسون في ما بينهم عما حدث، لتظهر بوادر الحديث عن "الشذوذ الجنسي"، هذا الشيء الحرام والعيب والمحظور الحديث عنه، وقعدت الدنيا بعض الشيء حين أصدر القضاء حكماً ضدهما. وفي حزيران يونيو من العام 2000 أيضاً، عادت الهمسات تطفو بعض الشيء في شأن الشذوذ الجنسي، حين قتل سائح أوروبي شاباً في شقة مفروشة بعد مقابلته لشاب مصري في ميدان التحرير في وسط القاهرة، لكن أحد أطراف "الفضيحة" هذه المرة كان أجنبياً ما رفع الحرج بعض الشيء في الحديث عن أحد الأجانب الشاذين وعنصر مصري فاسد "انجذب إلى الفساد القادم من الغرب". والتقط الجميع الأنفاس لوهلة، وانشغلوا في عناصر "إلهاء" أخرى غير الشذوذ الجنسي، من تقويم مسلسلات التلفزيون اليومية إلى مهاجمة "التفتح الزائد في إعلانات الأفلام المصرية المنشورة في الشوارع والتي يبثها التلفزيون، والإشادة باللحوم المصرية الخالية دائماً وأبداً من جنون البقر والحمى القلاعية، ومخاطر "البوكيمون" وعما إذا كانت ملامسة أقراصه الورقية تسبب سرطان الجلد. وعاد الشذوذ الجنسي مجدداً في شباط فبراير عام 2001 ليجذب العيون والآذان والأقاويل، وهذه المرة كان البطلان سامي وجميل، شابان مصريان صمما موقعاً على شبكة الانترنت للعرض والترويج لصور الشذوذ الجنسي بين الرجال. وكانت الدنيا مستعدة لأن تقوم، فهما "أساءا استخدام الثورة التكنولوجية للإقدام على عمل مخل يسيء إلى كل المصريين". في الوقت نفسه، كان أحد المواقع المماثلة على شبكة الانترنت يتابع تحديث محتواه مع كل تطور سلبي أو ايجابي في عالم الشذوذ أو بالأحرى "المثليين الرجال في مصر". وعلى غرار مواقع شبكات الأخبار العالمية مثل "سي ان ان" و"بي بي سي" وغيرهما، حرص الموقع ذو التصميم المبتكر والمتمتع بتقنية عالية على تقديم كل ما يلزم المثليين من الرجال المصريين أو الأجانب أثناء زيارتهم لمصر. فهو يقدم لهم النصائح الخاصة بالأماكن التي يمكن أن يرتادوها بحثاً عن صديق جديد، وأخرى عليهم اجتنابها، والاسلوب الأمثل للتعرف إلى الأصدقاء. وجاء إلقاء القبض على "مجموعة ال55 شاذاً" قبل أيام في الوقت المناسب لتتبوأ مكانة بارزة في الإعلام المصري، ومن ثم لتكون القصة موضوع حديث كل المصريين، ومصدراً للتكهنات، وفرصة لتحليل أوضاع المجتمع، بل ولتأليف النكات التي يخرج أفضلها إلى النور في مثل تلك المواقف. المكان الذي ألقي فيه القبض على مجموعة الشباب - وهو مركب عائم - سبق لموقع الانترنت ان ذكره ضمن أكثر أماكن تجمع الشواذ شعبية في القاهرة، ثم ما لبث أن أضاف إليه تحذيراً من أن الشرطة المصرية سبق أن داهمته قبل أشهر. وعلى رغم أن المركب الذي يحوي ديسكوتيك يقع في نيل حي الزمالك الراقي، وعلى رغم أن الصحف المصرية وصفت المجموعة في البداية بأنها من أبناء الذوات الأثرياء، إلا أن الحقيقة ليست كذلك تماماً. المجموعة وُصفت بأنها امتداد ل"عبدة الشيطان" الذين كان ألقي القبض على عدد من الشباب والفتيات من بينهم في العام 1997 بتهمة الانتماء الى هذه البدعة. تجدر الإشارة الى أن الشباب والفتيات - وجميعهم من المراهقين من أبناء الطبقة الميسورة في المجتمع المصري - أفرج عنهم في ما بعد، وكانت أدلة الاتهام الموجهة ضدهم في حينها ارتداءهم الملابس السود المرسوم عليها جماجم، واستماعهم إلى موسيقى ال "هارد ميتال" المتاحة في سوق شرائط الكاسيت والأسواق المدمجة في مصر، وجُمد ملف القضية بعد تشويه سمعة المجموعة. وبالعودة الى الشباب المنتمين إلى طبقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، وعلى رغم أن الصحف القومية نفت وجود أي من أبناء المشاهير أو المسؤولين ضمن المجموعة، إلا أن مصادر مطلعة تؤكد وجود حفيدي رجلين أسهما - كل في مجاله - في كتابة جزء من تاريخ مصر الحديث. وإضافة إلى مهندس الكومبيوتر، والأستاذ في كلية الطب، والطبيبين والمحامي والمهندس والمرشد السياحي، فإن الآخرين من الطبقات الدنيا بالمعنى الاجتماعي، هذا إذا كنا ما زلنا مصممين على تصنيف الأطباء والمهندسين والمحامين ضمن الطبقات الثرية. أما أعمارهم، فالغالبية تتراوح بين 23 و25 عاماً. "مجموعة ال 55" تلك فتحت الباب على مصراعيه أمام الكثيرين للحديث عن أشياء لم يكن أحد يجرؤ على التطرق إليها من قبل، حتى ان إحدى المجلات المصرية الاسبوعية بالغة الرصانة نشرت صوراً فوتوغرافية لشابين عاريين في وضع فاضح في بداية تحقيقها عن الحادث، وهو ما أزعج البعض. آخرون أكدوا أن الحديث عن الشذوذ الجنسي جاء متأخراً على رغم انتشاره بين طبقات عدة في مصر، وذلك على رغم غياب أية دراسات أو أبحاث علمية أو حتى اجتماعية في هذا الشأن. وعلى الجانب الآخر، أزاح الحادث الستار عن قدر كبير من الجهل لدى البعض حول تلك الأمور. فيؤكد اختصاصي الطب النفسي الدكتور خليل فاضل أن الكثيرين في مصر - حتى بين المثقفين والمتعلمين - لا يعرفون مثلاً وجود حالات شذوذ بين الإناث، بل إن البعض أصيب بالصدمة حين ألقي القبض على الشباب المصري، "لأن الشذوذ الجنسي قد يكون موجوداً في الغرب، لكن ليس في بلادنا، وحتى لو كان لدينا، فمن المؤكد أنه يجري في الخفاء". إلا أن كلمة "الخفاء" تلك تبدو سخيفة في عصر الانترنت، فإلى الانترنت يعود الفضل في الترويج للكثير من أفكار تلك الجماعة الشاذة، وإليها أيضاً يعود الفضل في إلقاء القبض عليها. وبعد ساعات من الحادث، أضاف القائمون على أمر الموقع المذكور التماساً يهيب بكل من لديه معلومات حول "المرشدين" الذين أبلغوا الشرطة للقبض على الشباب البريئين أن يراسل الموقع. كما طالبوا بتقديم التماس إلى سفارة بريطانيا لدى القاهرة ؟؟ لمناشدتها التدخل لوقف الظلم الواقع على الشباب الذين تعرضوا للضرب والإهانة. مطالبة أخرى بالتدخل جاءت من أحد المراكز الاختصاصية في تقديم المشورة القانونية، وقال متحدث باسمه إلى "الحياة" إن المركز يبذل جهوداً للحصول على ملفات التحقيقات لتكوين فكرة عن كيفية مساعدة المقبوض عليهم قانونياً. وهو يستنكر الاسلوب الذي اتبعته الشرطة وتتبعه في مثل تلك المواقف وأشهرها "شباب عبدة الشيطان" قبل نحو أربعة أعوام. يؤكد "أن الكثيرين ألقي القبض عليهم بطريقة عشوائية، من جهة أخرى لا يوجد تشريع في القانون المصري يحرم الشذوذ الجنسي. وإلى أن يحوي القانون المصري بنداً خاصاً بالشذوذ الجنسي، علينا أن نشغل أنفسنا بالشذوذ من وجهة نظر اجتماعية ونفسية وثقافية. أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الاميركية في القاهرة جواد فطاير يقول: "إن الموانع الدينية والثقافية والاجتماعية في المجتمعات الشرقية تحول دون تناول مواضيع الشذوذ الجنسي بالطريقة التي تتناولها مجتمعات أخرى، هذا على رغم أن حركة الشذاذ جنسياً من الجنسين اتخذت شكل ثورة في الغرب، لكننا لسنا بصدد تقويم مجتمع أو ثقافة على حساب أخرى، ولا يمكننا القول إن هذا المجتمع أحسن من غيره، بناء على معتقدات يعتنقها، لكن الواقع الاجتماعي يفرض نفسه علينا". ويؤكد فطاير أن الشباب الذين ألقي القبض عليهم قبل أيام شأنهم شأن المراهقين الذين وصفوا ب"عبدة الشيطان" هم "أطفال مشوشون، وهم من الجهل لدرجة أنهم غير قادرين على فهم وجود فروق جوهرية بين مجتمعاتنا ومجتمعات الغرب". ويبدو أن نعت فطاير لأولئك الشباب بالجهل نابع من اقتناعه بأن الشذوذ ليس مرضاً إكلينيكياً، ومن حق المجتمع الذي نعيش فيه أن يرفض أو يوافق على تصرفاتنا، وعلينا أن نحترم ذلك، وإلا لماذا لا تحترم المجتمعات الأخرى آراءنا ومعتقداتنا، وللأسف ان الأجيال الصغيرة والشابة لا تدرج ضمن حساباتها القيود المجتمعية. ويشير فاضل إلى وجهة نظر أخرى في قضية ال55 شاباً، إذ يقول: "هناك ضريبة المبيعات التي فرضت نفسها على المجتمع المصري في الأيام السابقة، وهو ما أوجد الحاجة إلى عنصر جديد يلهي المصريين عن التفكير فيها، لاسيما أننا المصريين لدينا ميل طبيعي إلى الفرقعات الإعلامية". وأضيفت الى قصة الشباب ال55 تفاصيل أخرى متوهمة، فقيل إنهم "يزدرون الأديان، وأن أحدهم يعشق نجمة داوود، وسافر إلى إسرائيل، وتعلم العبرية، وأنهم اعتنقوا ديناً جديداً يروج له في الغرب، وقيل انهم من أتباع عبدة الشيطان، وأنهم يحتقرون النساء ولا يعتبرونهم سوى أوعية للإنجاب، وقيل إنه ألقي القبض عليهم وهم يأتون بأفعال منافية للآداب في حفل تزويج أحدهم لآخر"، وقيلت أشياء أخرى كثيرة.