صورة سورية في الإعلام الغربي ارتبطت منذ استقلالها بالصراع العربي - الإسرائيلي، فكانت صورة الدولة بحكامها وسياستها الخارجية وخطابها الإيديولوجي تطغى على كل ما عداها في هذا البلد الغني بتنوعه الاجتماعي والثقافي والطائفي. وشكلت زيارة البابا فرصة سانحة للمرجعيات الدينية المحلية وللشعب السوري على السواء لتعريف العالم بالوجه الحضاري والتاريخي لهذا المجتمع الذي طالما بقي مغيباً ومحكوماً عليه بالصمت وبالعزلة عما حوله. لكن، كان كافياً للمتصيدين في الماء العكر أن ينتهزوا بعض الغموض الذي تضمنه كلام الرئيس السوري بشار الأسد في إشارته الى الممارسات الإسرائيلية، حتى يقيموا الدنيا ولا يقعدوها، ليس فقط على صاحب هذه الكلمات ولكن على البلد بأكمله. وإذا كان الرئيس السوري بشار الأسد لم يذكر صراحة اليهود في كلمته الترحيبية التي ألقاها في حضرة البابا يوحنا بولس الثاني يوم وصوله العاصمة السورية، فإن كلامه عن معاناة السيد المسيح وعن الذين حاولوا ان يغدروا بالنبي محمد، فهم على أنه إدانة لليهود كطائفة، لاسيما في إشارته الى أن "معاناة وعذاب السيد المسيح على أيدي الذين وقفوا ضد المبادئ الإلهية والإنسانية والقيم التي نادى بها السيد المسيح" وقوله: "إن هناك من يسعى دائماً لتكرار رحلة الآلام والعذاب مع كل الناس فنرى إخوتنا في فلسطين يقتلون ويعذبون ونرى أن العدل ينتهك. فتحتل أراض في لبنان والجولان وفلسطين ونسمعهم يقتلون مبدأ المساواة عندما يتحدثون عن أن الله خلق شعباً متميزاً عن الشعوب الأخرى. وهم يحاولون قتل كل مبادئ الديانات السماوية بنفس العقلية التي تمت بها خيانة السيد المسيح وتعذيبه بنفس الطريقة التي حاولوا بها أن يغدروا بالنبي محمد". هذا الكلام، حمّال الأوجه، أثار عاصفة من الردود الغاضبة والمستنكرة في إسرائيل والعواصم الغربية، التي اعتبرت أقوال الرئيس السوري معادية للسامية وتستهدف أتباع الديانة اليهودية كافة. وإذا كان الرئيس الشاب في وداعه البابا حاول الرد بشكل غير مباشر على هذه الاتهامات بقوله: "للأسف لا يزال هناك في هذا العالم من يخاف من مجرد ذكر الحقائق التاريخية والقرارات الدولية ويتهمنا نحن الساميون بمعاداة السامية"، فإن البعض اعتبر رده هذا غير كاف، بل ان مراسل صحيفة "واشنطن بوست" هوارد شنيدر الذي قدم الى العاصمة السورية من أجل تغطية هذا الحدث اجتزأ الفقرة الأولى من كلامه هذا، والتي يقول فيها: "للأسف لا يزال هناك في العالم من يخاف من مجرد ذكر الحقائق التاريخية"، وقام بنشرها بتاريخ 9/5/2001 على لسان الأسد كرد على منتقديه، بحيث بدا كأن الرئيس يؤكد صحة الاتهامات التي وجهت له. وفي ضوء ما تمخضت عنه هذه الأزمة، يتمنى الكثير من المراقبين على الرئيس السوري ان يقول للعالم في أقرب فرصة وبعبارات صريحة وواضحة، حقيقة مواقفه من أتباع الديانة اليهودية، خصوصاً أن في سورية عدداً من أبناء الطائفة اليهودية يعيشون بعيداً من أي اضطهاد أو قمع يستهدفهم كطائفة دينية. لكن، يبقى أن نتائج هذه الحملة الإعلامية لم تركز على شخص الرئيس فقط كما فعلت جريدة "نيويورك تايمز" في افتتاحيتها المنشورة بتاريخ 9/5/2001، بل تعدته لتتناول بالنقد المجتمع السوري والعيش المشترك بين طوائفه كافة. فعلى سبيل المثال يقول مراسل ال"واشنطن بوست": "هذا البلد حيث يوزع في المواقع الأثرية كتيبات تشرح لماذا لم يكن لليهود دور في بناء الأهرامات المصرية، وحيث المؤرخون يقدمون كتباً من مثل كتاب كنيس داخل الكنيسة الذي يتحدث عن مؤامرة اليهود للسيطرة على الفاتيكان". أما ريتشارد كوهين أحد كتّاب هذه الجريدة فيسمي دمشق وسورية حيث هبطت طائرة البابا ب"قلب التعصب والتزمت"، قبل أن يهاجم الدول الإسلامية كافة مؤكداً في مقاله المنشور بتاريخ 8/5/2001: "إن إعادة المقولة التاريخية المعادية للسامية - اليهود قتلة المسيح - هي أحد الاختراعات الحديثة للبلدان الإسلامية، وربما التطور الغربي الوحيد الذي تبنته هذه الدول بسرعة"، ويتناسى هذا الصحافي الإشارة الى أن العقيدة الصهيونية التي وصلت باكراً الى منطقتنا هي وليدة الغرب والإيديولوجيات القومية المتعصبة التي سادت أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر. وإذا انتقلنا الى الضفة الأخرى من الأطلسي نجد أن الكثير من الصحف البريطانية شنت بدورها حملة مركزة على سورية، فعلى سبيل المثال لم يجد مراسل جريدة "التايمز" في الشرق الأوسط سام كايلي إلا أحداث مدينة حماه بين السلطة والأخوان المسلمين للكتابة عنها، في مقال نشره بتاريخ 8/5/2001 لمناسبة زيارة البابا مدينة القنيطرة التي دمرها الإسرائيليون. بحيث ان أكثر من ثلثي المقال خصص لأحداث حماه والباقي لما سماه الأساطير والبروباغندا التي يتبناها السوريون في ما يخص القنيطرة. أما في فرنسا فإن افتتاحية صحيفة "اللوموند"، وان انتقدت بشدة تصريحات الرئيس السوري، فإنها على الأقل تكلمت عن سورية كبلد "متميز بتاريخه ولباقة حضارته وثقافته المتسامحة دينياً، أما صحيفة "الليبراسيون" فلم تجد كخاتمة لافتتاحيتها المنشورة بتاريخ 7/5/2001 سوى هذه العبارة التي تشمل كل السوريين: "إذا نظرنا ببرود الى الأشياء، سنرى جيداً الأرباح التي حصلت عليها سورية، وسنرى بصعوبة شديدة ماذا يربح السلام من زيارة البابا الى دمشق". ردود الفعل هذه إذا دلت على شيء، فعلى حرص الكثير من وسائل الإعلام الغربية الى اختزال حضارة الشعب السوري وثقافته في خانة ما يسمى الدولة المعادية، واستمرارها في التعامي عن حقيقة ان في هذا البلد مجتمعاً وبشراً عاديين من أتباع الطوائف الثلاث يعيشون بسلام في ما بينهم ويملكون ثقافة وتاريخاً وحضارة مشتركة تستحق ان يتعرف عليها العالم بعيداً من طبول الحرب واتهامات الإرهاب ومعاداة السامية. الشارع المستقيم، أو سوق مدحت باشا، حيث مرّ موكب البابا، ومرّ من قبله بألفي عام القديس بولس. هذا الشارع الذي يعبر مدينة دمشق القديمة داخل الأسوار من غربها الى شرقها ويقع على طرفيه الكثير من الجوامع والكاتدرائيات والخانات والمدارس الأثرية، ورد ذكره في العهد الجديد كما ورد ذكر الحي اليهودي في جنوبه. هذا الشارع لا يزال يجتاز المدينة منذ العهد الروماني، ولا تزال حارة اليهود الدمشقية أو الحي اليهودي ببيوتها وبحراتها وخاناتها ومعابدها تقع جنوبه داخل أسوار المدينة. الزائر اليوم الى هذا الحي، ستصعقه الشوارع الخالية والبيوت المهجورة والأبواب المجنزرة، وسيظن ان هناك منع تجول أو أن سكان الحي هجّروا قسراً. لكن القليل من التقصي يكفي من أجل اكتشاف بعض الحقائق التي يتعامى عنها كل من يتهم الشعب السوري بمعاداة السامية. فعلى مدى مئات السنين بقي أبناء الطائفة اليهودية يعيشون في هذه المدينة كجزء من أهلها يتكلمون العربية باللهجة الشامية ويتقاسمون مع أهلها الثقافة الاجتماعية من مأكل وملبس وعادات وفنون، حتى أن أعرق جوقات الطرب الشرقي الأصيل وأهم المطربات الدمشقيات في بداية القرن العشرين كانوا من أبناء هذه الطائفة. وكان معظم أعيان المدينة في تلك الحقبة يمضون الى ذلك الحي للسهر وسماع الموسيقى. وقد اشتهر اليهود الدمشقيون بتجارة الذهب وبإتقانهم الصناعات التقليدية، خصوصاً الحفر على النحاس. كما انتخب أحد وجهائهم وهو يوسف نيادو نائباً في أول برلمان سوري انشئ في عهد الانتداب الفرنسي. وككل أبناء الطوائف الأخرى وجد من اليهود الغني والفقير، وقد شيد أغنياؤهم في ذلك الحي بعضاً من البيوت التي تعتبر الى يومنا هذا تحفاً في العمارة الشرقية. ويكفي القادم الى المدينة اليوم ان يزور بعضاً من بيوتهم في ذلك الحي ليدرك الى أي مدى كانوا متشربين الثقافة المحلية ويشكلون جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والمعماري لمدينة دمشق. بعض هذه البيوت الفارهة التي لا تزال قائمة الى اليوم والمسماة على أسماء أصحابها كبيت فرحي وبيت المعلم وبيت شمعايا وبيت ليزبونا وبيت نيادو، تدل بغناها وجمال عمارتها وحجم الأموال التي استثمرت في بنائها الى أن أصحابها شادوها ليبقوا، لا ليهاجروا كما أراد لهم الصهاينة الأوروبيون في ما بعد. أما دور عبادتهم فهي الأخرى لا تزال قائمة في هذا الحي، ولم يعتد عليها أحد: لا يوم امتدت احداث الفتنة الطائفية في جبل لبنان الى دمشق في العام 1860 وأدت الى إحراق حي باب توما المسيحي، ولا يوم انشئت دولة إسرائيل في العام 1948 وجعلت نفسها الناطق الأوحد باسم يهود العالم، ولا يوم سمحت السلطات السورية في بداية التسعينات من القرن المنصرم للآلاف المتبقين منهم بالهجرة الى الولاياتالمتحدة الأميركية. ولا تزال القلة القليلة الباقية ترعى هذه الدور وتمارس شعائرها الدينية فيها من دون ان يعترضها أحد. والداخل الى أي من أماكن العبادة هذه لا بد من أن يفاجأ بعمارتها الشرقية وبغناها بالزخارف والنقوش والكتابات العربية. وإذا كانت السلطات السورية منذ الاستقلال وضعت شروطاً على بيع اليهود ممتلكاتهم وقيدت من حرية سفرهم الى الخارج، بحيث فرضت على معظم العائلات أن يبقى أحد أفرادها في الداخل عند مغادرة الآخرين الأراضي السورية للسياحة أو الدراسة أو العمل، فإن الهدف من ذلك كان منع هجرتهم الى إسرائيل أو مغادرتهم الدائمة للبلد. وعندما رفع منع السفر فإن معظمهم غادر واستقر في الولاياتالمتحدة لا في إسرائيل. وإذا كان الكثير منهم لا يعود اليوم لزيارة سورية، فذلك عائد بالدرجة الأولى الى خوفهم من أن تنقطع بهم السبل من جديد ولا يعودوا قادرين على مغادرة البلاد مجدداً. خسرت البلدان العربية في الماضي كثيراً، بتبني بعض حكوماتها ونخبها السياسية والثقافية الخطاب الصهيوني معكوساً، بمعنى اعتبار كل اليهود العرب متواطئين وشركاء في المشروع الصهيوني، في حين كان من الضروري مساعدتهم على الاحتفاظ بثقافتهم العربية وانتمائهم الى أوطانهم الحقيقية لا إلى ذلك البلد الذي بني على الأساطير التوراتية والإيديولوجيا الصهيونية التي تعتبر أن من حق كل يهودي في العالم الهجرة الى إسرائيل وامتلاك جنسيتها، في الوقت الذي يحرم فيه مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين من العودة الى وطنهم المغتصب وأملاكهم المصادرة. واليوم إذ يصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون أن حرب الاستقلال الإسرائيلية لم تنته بعد، وأن على معظم يهود العالم، من الآن وإلى عشرين سنة، العودة الى إسرائيل، يصبح من الضروري والملح تشجيع أي مبادرة تحاول ان تدحض هذا الخطاب الذي يريد ليهود العالم ان يتماهوا مع دولة إسرائيل. وفي هذا السياق لا يمكن إلا النظر بتقدير وإعجاب الى البيان الذي وقعته في مطلع الانتفاضة ثلة من أبرز المثقفين اليهود الفرنسيين في عنوان "بوصفنا يهوداً" ونشرته صحيفة "اللوموند" الفرنسية بتاريخ 18/10/2000، دانوا فيه دخول شارون الى باحة المسجد الأقصى والقمع الإسرائيلي الذي تبعه، وطالبوا بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وبحق اللاجئين في العودة الى ديارهم، كما أكدوا مواطنيتهم الفرنسية ورفضهم أن يتكلم حكام إسرائيل باسم يهود العالم. "عودة" معظم يهود العالم إلى إسرائيل كما يريد شارون، معناها بلغة الأرقام أن يهاجر الى إسرائيل ما يزيد على 8 ملايين يهودي متوزعين في مختلف أنحاء العالم، وللقارئ ان يتخيل ما يعنيه هذا من كوارث ومآس إضافية للشعب الفلسطيني وللمنطقة بأسرها. ولا عجب بعد ذلك ان يصرح سلائي ميريدور، رئيس الوكالة اليهودية المعنية بهجرة اليهود الى إسرائيل، الى الإذاعة الإسرائيلية بتاريخ 3/5/2001: "أنه بعد وصول 900 ألف مهاجر من الاتحاد السوفياتي السابق و40 ألفاً من اثيوبيا، فإن هذه الخزنات بدأت تنضب، وأنه يجب تشجيع مجيء أفراد من الدول الغربية المتطورة وأميركا اللاتينية الى إسرائيل، فمفتاح النجاح، بحسب رأيه، هو في تمرير رسالة بأن قدوم هؤلاء المهاجرين مرغوب فيه وأنهم سيستقبلون بشكل جيد". الأكيد أن قدوم هؤلاء المهاجرين الى الضفة الغربية وغزة لن يكون مرغوباً فيه من الفلسطينيين، ولا هم سيستقبلون بشكل جيد هناك. لذلك فمفتاح النجاح الذي يتحدث عنه ميريدور لن يفتح على هذه المأساة الجديدة، إلا إذا ازدادت نزعات العداء للسامية في بعض البلدان المرشحة لذلك، والتي لا تزال تضم بين مواطنيها أعداداً كبيرة من اليهود، كجنوب افريقيا 800 ألف يهودي والأرجنتين 200 ألف يهودي وفرنسا 700 ألف، إذا لم نتكلم عن الولاياتالمتحدة الأميركية التي يشكل فيها اليهود أكبر مجموعة في العالم من حيث الأهمية العددية 7،6 ملايين نسمة. وإذا وضعنا الجانب الأخلاقي جانباً وفكرنا بلغة المصالح، فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل من مصلحة العرب تشجيع نزعات العداء للسامية في العالم والتعاطف معها؟ أم العكس هو الصحيح؟ * كاتب سوري.