جددت ترسيمة "الإسلام دين ودولة" التي أعادت الحركة الإسلامية المعاصرة، ممثلة بجماعتها الأم الإخوان المسلمين صوغها، منذ أن تشكلت نهاية عشرينات القرن الماضي في صيغة "الدولة الإسلامية"، الجدل عن اشكالية العلاقة ما بين الدين والدولة في المجال الفقهي السياسي الاسلامي. يشير تتبّع هذه الاشكالية في التاريخ الاسلامي، الى انها تظهر في لحظات التحول المصيرية الكبرى، او في اوقات الازمات الخانقة في العالم الاسلامي على حد تعبير رضوان السيد. وليست هذه التحولات او الأزمات في منظور الفترات التاريخية المستدامة او الطويلة الأمد، إلا من نوع التحولات التي يربط فيها بعض فلاسفة التاريخ ما بين فكرة التاريخ وبين فكرة المصير الفاجع او الكياني او الكارثي الذي تتعرض له الجماعة. يمكن القول في ضوء ذلك ان هذه الاشكالية صيغت في شكل "ترسيمة" مكثفة محكمة، قابلة للتوالد الذاتي، في اطار التحول العاصف من حقبة الخلافة الراشدة الى حقبة الخلافة الأموية وتحديداً في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، من خلال الحديث الشهير الذي يقول: "تكون الخلافة ثلاثين عاماً، ثم يكون ملك عضوض". ويكشف هذا الحديث عن رؤية تاريخانية اسلامية مبكرة يقوم محورها على الوعي الاسلامي الفاجع بالتاريخ، اي بمفهوم الجماعة الاسلامية عن تاريخها، والتسليم المسبق بأيلولة "خلافتها" "الشوروية" الى "ملك عضوض" اي سلطة قهر وتغلب "وراثية". وإذا ما وضعنا هذا الحديث الذي يقرأ مسبقاً المصير وتحولاته، في سياق رزمة اخرى من الاحاديث التي تسلّم بعودة الاسلام غريباً كما بدأ، وبافتراق الجماعة، فإن الرؤية التاريخانية الاسلامية الفاجعة لتاريخ الجماعة الاسلامية تتضح هنا. ونحن نعي بالطبع بالتاريخانية الاسلامية تلك الرؤية التي ترى ان التاريخ مجموعة احداث موضوعية تكشف في شكل مسبق عن مغزى او حكمة. ان التاريخ هنا غائي بالضرورة. يكمن الطابع الفاجع في هذه الرؤية التاريخانية، في أنها تنطلق من التسليم الإيحائي المسبق بأن التاريخ الإسلامي يسير في شكل تقهقري عن الأصل الذهبي المؤسس الأول او "الكامل" وهو هنا حقبة الخلافة الراشدة. تقوم هذه الرؤية على انتزاع حقبة الخلافة الراشدة من تاريخها الفعلي الذي كان الاضطراب والفرقة والفتنة من وجوهه التاريخية السياسية، وإعادة أسطرتها في شكل مثال أسمى كامل، يشكل معيار التمييز بينه وبين ما تلاه من "ملك عضوض" اسلامي يحمل عنوان "الخلافة" من دون مضمونها. تتضمن الخلافة هنا المُلك إلا انها تسمو عليه. انها تسبغ الشرعية الاسلامية العامة عليه بحكم انه ينطلق مرجعياً من الإسلام إلا أنها تنزع فعلياً شرعية تطابقه مع الخلافة الراشدة. تغدو الخلافة هنا في التاريخانية الإسلامية تبعاً لفهمها الغائي للتاريخ ولتسليمها بالرؤية النبوية المسبقة عن تحولها الى "ملك عضوض" نوعاً من طوبى ينفيها التاريخ نفسه. يعاد هنا بناء الخلافة الراشدة على غرار بناء الجماعات لأصولها الكبرى المؤسسة في شكل أصل اسطوري مؤسس وارث للأمم وفق النهج الإبراهيمي، اي في شكل الاسطورة او التاريخ المؤمثل الذي يعنيه علم العقليات والعلوم الاجتماعية اليوم. ففي الصورة الاسطورية المؤمثلة تحضر "الخلافة الراشدة" بوصفها الحقبة الشعرية الزاهية في حين يحضر ما تلاها من "ملك عضوض" بوصفه الحقبة النثرية. هناك الشعر والاتساق والانسجام وهنا النثر والانفصام والاغتراب. وتغدو "الخلافة" الحقة المطابقة للنموذج المؤمثل طوبى ينفيها التاريخ. وربما هذا ما يفسر في بعض الوجوه انشداد المسلمين الوثيق الى ماضيهم، وتعلقهم به، وإسباغهم الكمال عليه. غير انه يمكن القول ان ادراك الوعي ب"الفجيعة" او "الفجوة" ما بين المثال المؤسس الكامل "الشعري" وبين الواقع التاريخي المشخص "النثري" هو سمة جميع الجماعات الإيديولوجيات العقائدية في التاريخ، سواء كانت تعتبر اصولها المؤسسة "سماوية" أم "دنيوية" اي بما في ذلك الجماعات التي يصنفها مؤرخو الأديان اليوم تحت اسم "الأديان البديلة". وبالتالي ينطبق على المسلمين هنا ما ينطبق على غيرهم، مع ملاحظة انهم يعتبرون انفسهم الأمة الحاملة للوحي الإلهي التي اختصها الله بتجسيد وحيه في التاريخ، وفي أن تكون وارثة الأمم وختامها. ومن هنا يفرض اندراج الأمة المصطفاة الحاملة للوحي الإلهي في التاريخ، ذلك التناقض ما بين "الشعر" و"النثر" بمعنييهما الفلسفيين انه من نوع الاندراج "الفاجع" الذي سمّاه هيغل ب"سخرية التاريخ" ويتلخص في ان الأبطال والجماعات التي تصنع الأحداث الكلية الكبرى تستيقظ لتكتشف ان ما صنعته ليس هو الذي كانت تريده. هذا هو بعض "مكر التاريخ" اذا شئنا ان نستوحي فلسفة هيغل التاريخانية للتاريخ. ان اندراج المثال الأعلى "الشعري" او "الكامل" في التاريخ يفرض دوماً هذا التوتر، مع اننا نسلّم - في ضوء منهجنا - ان هذا المثال الأعلى هو من نتاج التاريخ نفسه. ان آليته تقوم على الانخلاع عنه، والتسامي فوقه، إلا انه لا يفسّر الا به. وحين تتمأسس "الدعوة" في "دولة" او في شكل أدق في "سلطة" تمثل تجسيداً للدولة، فإن الفجوة في نمط الجماعات الإيديولوجية تكون مستمرة وكبيرة دوماً ما بين "الدعوة" و"الدولة". وتميز الاجتماع الاسلامي في لحظة تحوله المصيري الثاني مع بدء الحقبة السلجوقية فالمملوكية فالعثمانية، بهذا الاستقطاب ما بين "الدعوة" و"الدولة"، او ما بين "الشريعة" و"العصبية"، او ما بين "اهل الفقه" و"اهل الحكم"، بما يعنيه ذلك من افتراق السياسة عن الشرع. مجال السياسة هنا هو الدولة في حين ان مجال الشرع هو الأمة في مفهومها الاسلامي. فهنا السياسة طغت على الشريعة، تحت تأثير توسع السلطة الاسلامية باستخدام ما سميّ ب"السياسة الشرعية" لغايات السرعة في اصدار الحكم والضبط. واستمر هذا الاستقطاب، واحتدم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ابان تبني الدولة العثمانية لعملية "التنظيمات"، اذ امتنع شيخ الاسلام في الدولة العثمانية، وهو رأس المؤسسة الدينية التي ترسخت استقلاليتها الخاصة المميزة منذ العهد السلجوقي، ومنع جهاز الإفتاء التابع له، من اصدار اي فتوى في شأن مجموعة القوانين المدنية الاسلامية الصرفة المسماة ب"مجلة الأحكام العدلية"، لأنها اشتملت على بعض التعديلات التي افتقرت الى ما يسندها عند مؤسس المذهب الحنفي. كانت وضعية الانفصال الفعلي ما بين الشريعة والسياسة في الاجتماع العثماني تبعاً لاستقرار الاعتياد عليها مسلّماً بها، إلا ان اخطر مشكلة حدثت في مطالع العشرينات حين أعيد طرح مأسسة هذه العلاقة "التنظيمية" التي لم تخلُ من النزاع في اطار دستوري، حمل اسم "فصل الخلافة عن السلطنة". وما تم فعله تبعاً لذلك في مطالع العشرينات هو في بعض الوجوه الاساسية نقل واقع العلاقة "التنظيمية" القائمة ما بين مؤسسي السياسة والشريعة الى حيّز القانون الاساسي للدولة الكمالية الفتية، غير ان الوعي الذي حكم هذه المأسسة كان وعياً ليبرالياً غربياً كانت لغته وتعابيره ومسوغاته ومستنداته اسلامية، وكانت روح هذه اللغة والتعابير اصلاحية اسلامية. ويستحق ذلك ان نتوقف عنده. ففي عام 1922 نشرت "الجمعية الوطنية" في تركيا وثيقة فقهية شبه رسمية تحت عنوان "الخلافة وسلطة الأمة" وتمثلت وظيفتها الاساسية في شرعنة الفصل القانوني السياسي الممأسس ما بين الشريعة والسياسة تحت اسم الفصل ما بين الخلافة والسلطنة، في شكل يضطلع فيه الخليفة بالوظائف الدينية الخاصة لعموم المسلمين. ويكون خليفتهم جميعاً بغض النظر عن حدودهم السياسية، وبين السلطنة بوصفها تعني ولاية الأمة على نفسها عبر الشكل الجمهوري. تنطلق الوثيقة في ضوء منهج "اهل السنّة والجماعة" من ان "مسألة الخلافة هي من المسائل الفرعية والفقهية وليست من المسائل الاعتقادية، وبالتالي فانها بوصفها من الفروع وليس من الأصول مسألة دنيوية وسياسية اكثر من كونها مسألة دينية، وأن المعنى الذي تفيده كلمة "الإمامة" في كتب الفقه والعقائد هو المعنى المقصود من تعبير الحكومة، بحسب عرفنا واصطلاحنا في زماننا". ان اشكالية الوثيقة تتلخص في الاجابة عن جواز "تفريق السلطنة عن الخلافة" التي شغلت العالم الاسلامي يومئذ. وهي تقول في ضوء واقعة "التفريق" او "التنظيم" ما بين الشريعة والسياسة في المجال الفقهي الاسلامي، ان ذلك جائز واقعاً وتاريخاً وفقهاً ومصلحة. ويبدو واضحاً ان الوثيقة لا تفصل ما بين الدين والدولة، بل ما بين الشريعة والسياسة، ومن هنا فإنها قريبة جداً من روح الفقه الاسلامي في تصوره لتنظيم هذه العلاقة. إلا ان الوعي الخلفي الذي حكم صوغ هذه الوثيقة، وطريقة تقديمها المنهجية للأسئلة وإجابتها المحكمة عليها، كان هو الوعي الاصلاحي الاسلامي الذي لم يكن في بعض وجوهه الا ترجمة اسلامية للوعي الليبرالي في مرحلة "التنظيمات". في مرحلة "التنظيمات" نشأت تحت الضغط الغربي مأسسة الخليفة ك"ذات غير مسؤولة"، وهي فكرة غريبة تماماً عن الاجتماع الاسلامي ونقيضة له. ولعب الضغط الغربي وتمثلاته الاصلاحية الاسلامية، دوراً اساسياً من خلال المعاهدات في اعتبار الخليفة العثماني ممثلاً للمسلمين، وفي اعادة تقديم وظيفته على انها من قبيل الوظيفة الروحانية ل"البابا" الكاثوليكي. ان جماعة الوثيقة نفت على المستوى المبدئي ان يكون الخليفة "روحياً" او "معصوماً"، غير ان وعيها الخلفي بالفصل ما بين "الخلافة" و"السلطنة" في سياق الوعي الكمالي "المعلمن" الناهض، دفع احد ابرز تلاميذ محمد عبده وهو الاستاذ رشيد رضا الى الرد عليها في كتابه الشهير "الخلافة او الامامة العظمى" 1923، واعتبار الخلافة من الأصول وليس من الفروع، وكان رد فعل رضا على الوثيقة، قائم على تلمسه الفعلي لوظيفتها من حيث انها لا تشرعن واقعاً قائماً عبر قرون، ويقوم على الفصل ما بين الشريعة والسياسة، بل من حيث انها تمهد للفصل القومي العلماني الحديث ما بين الدين والدولة. وكانت رؤيته لها صائبة بدقة، في حين عبّر الرأي الليبرالي عن تفاعله مع هذه الوثيقة من خلال كتاب علي عبدالرازق "الاسلام وأصول الحكم" الذي أتى ليشرعن الفصل ما بين الدين والدولة وليس ما بين الشريعة والسياسة. وكي نفهم السياق التاريخي لهذه الوثيقة، فإنه يمكن القول ان وظيفتها تمثلت بتقديم غطاء فقهي لخطوتين اساسيتين تمّتا في شكل متلازم. تمثلت الاولى في الفصل ما بين الخلافة والسلطنة، وجعل وظيفة الخليفة "دينية" مقصورة على ادارة الشؤون الدينية للمسلمين، في حين تمثلت الخطوة الثانية، في إلغاء مركز السلطان نفسه وتحويل وظائفه الى الأمة، ممثلة بالجمعية الوطنية التركية التي انتخبت في عام 1920 في مجرى المقاومة الوطنية ضد جيوش الحلفاء التي احتلت الآستانة نفسها، وجعلت الخليفة من الناحية الفعلية في وضعية "الأسير"، ولعل هذه الوضعية تفسّر في شكل اساسي قرار الخليفة بحلّ الجمعية الوطنية، والهجوم المسلح عليها، واستصدار فتوى من شيخ الإسلام بإعدام أعضائها. في حين ان "الميثاق الملي" عرف باسم ميثاق أنقره، الذي أقرّته هذه الجمعية، وكان يقوم على تحرير المناطق العثمانية التي تقطنها غالبية مسلمة، وتوحيدها تحت سيادة الخليفة. وتحدت الجمعية اجراءات الخليفة واستصدرت من مفتي أنقره فتوى مضادة ب"بطلان فتوى شيخ الاسلام وتدعو لتحرير الخليفة من الأسر". وتبلور ما يمكننا تسميته بازدواجية السلطة ما بين السلطة الشرعية المتركزة حول الخليفة في الآستانة، وبين السلطة الفعلية المتركزة حول "الجمعية الوطنية" في أنقره، وشكل قرار الخليفة من الآستانة، او ارغامه على ذلك، مدخل التئام الجمعية الوطنية في تشرين الثاني نوفمبر 1922، وإصدار قرارها بالفصل ما بين الخلافة والسلطنة، وتحويل وظائف السلطان الى الأمة ممثلة بالجمعية. وتعيين خليفة جديد تقتصر وظيفته على ادارة الشؤون الدينية. غير ان النخبة الكمالية العلمانية المسيطرة على الجمعية، استخدمت شرعنة الفصل ما بين الخلافة والسلطنة كعملية انتقالية لإلغاء الخلافة نفسها في 3 آذار مارس 1924، وإعلان الفصل ليس ما بين الشريعة والسياسة بل ما بين الدين والدولة. * كاتب سوري.