ماذا يعني أن يترجم الإسرائيليون أدبنا الى العبرية؟ وماذا يعني أن يتصل ناشرون إسرائيليون بكُتاب وأدباء عرب للحصول على موافقتهم على الترجمة؟ وهل لهذا التوقيت الحرج دلالة في هذا السياق؟ وهل الترجمة هي عملية "نقل" - مجرد نقل - من لغة إلى أخرى أو أنها حوار ثقافي؟ وهل الحوار الثقافي يتبع القرار السياسي أو أنهما منفصلان؟ وهل صحيح ما قيل: "إن إسرائيل تقتل بيد وتترجم بالأخرى؟". في مناقشة هذا الموضوع يجب استبعاد فكرة "الخيانة"" لأن القضية في أقل تقدير "ملتبسة"، والخلاف الفكري - أياً كان - لا يبرر الوصول إلى هذا المستوى المعهود في كثير من خلافاتنا! يؤكد عبده وزان أن فعل الترجمة "حوار مع الآخر ومع نصه وأفكاره"، ويرى أن الإشكال يكمن في طبيعة العلاقة بين الأدباء العرب والناشرين الإسرائيليين، وربما في طريقة الترجمة ومنهجها، ثم إن اللغة العبرية - بحسب قوله وقول محمد البساطي - شبه ميتة. أما جمال الغيطاني فيرى في الترجمة "شكلاً من أشكال القرصنة التي تستهدف استكشاف الشخصية العربية، لكنه الآن يبحث عن شرعية الاعتراف بجدواه، وهذا هو الخطر" على حد تعبيره، ويتفق مع عبده وازن على أن "التوقيت حرج وغريب، ويحمل علامات استفهام عدة حول أهدافه". ويعكس محمد البساطي حال اليأس والإحباط لدى بعض المثقفين حين لا يرى جدوى لوجود أعمال لأدباء مصريين في اللغة العبرية" لأن ذلك "لن يسهم في تبديل أو تغيير صورة الإنسان العربي في اسرائيل ولن يسهم في إرغام اسرائيل على تغيير سياستها الدموية إزاء الشعب الفلسطيني" على حد قوله. إن الهدف من اتصال الناشرين الإسرائيليين بأدباء عرب - من وجهة نظر رشاد الشامي - "إحداث ارتباك في أوساط المثقفين وخلخلة موقفهم في ما يتعلق بالتطبيع". هذه مجمل الاشكالات التي طرحت حول قضية "الترجمة الى العبرية" باعتبارها "تطبيعاً ثقافياً"، وأول ما نلاحظ على تلك الإشكالات أنها تنطلق من مسلّمة أن الترجمة هي تطبيع ثقافي يرتكز على نظرية "المؤامرة"، ونحن نحب في البداية أن نسائل مصطلح "التطبيع الثقافي" قليلاً، وهل تعتبر الترجمة تطبيعاً ثقافياً؟ إن الترجمة عملية "إيصال" و"تبليغ" ثقافية، ضمن سياق معرفي، فهل نحن نخشى من هذا "التبليغ" ذاته أو نخشى من تبعات هذا التبليغ؟ أو نخشى من "التواصل" بين الناشرين الإسرائيليين وبعض الأدباء العرب؟ إن هذا "التبليغ" ما هو إلا محاولة تعريف بالثقافة العربية وإبلاغها داخل المجتمع الإسرائيلي، وليس - كما يرى الغيطاني - "شكلاً من أشكال القرصنة يستهدف استكشاف الشخصية العربية"" لأن ذلك الاستكشاف متاح، بل وحاصل منذ زمن من خلال مراكز الدراسات والأبحاث الإسرائيلية. إن هذا الاستكشاف يتم بسهولة على مستوى مراكز البحث والدراسات ومن دون إذن بالترجمة وليس على نطاق شعبي. وإذا كنا نخشى من تبعات هذا "التبليغ" أو بتعبير آخر من حدوث حراك ثقافي، فإن هذا حاصل من قبل، من جانب السياسيين وأجهزة الإعلام، بل والمفكرين، فهل منعتنا يهودية فرويد من أن نفيد منه، وندرس مدرسته في التحليل النفسي؟ أما إذا كنا نخشى من "التواصل" المخيف بين الناشرين الإسرائيليين والأدباء العرب فإن هذا فيه نوع من المبالغة والتعمية" فمحاولات النشر هذه تمت في مجملها من خلال "قرصنة" من دون استئذان، والأمر نفسه بالنسبة إلى الترجمات العربية، والدار التي استأذنت هي "دار الأندلس" التي قدمت نفسها من خلال رسالة مكتوبة بالعربية، ومن خلال مجموعة من الاسماء الفلسطينية المشاركة والمساندة للمشروع، وبعض اليهود المؤيدين للقضية العربية أو المتعاطفين معها انظر ما كتبه محمد برادة في "الحياة" الخميس 10/5/2001، وبهذا يغدو هذا التخوف غير مبرّر. الأمر الذي نود لفت النظر إليه هو أن الفعل الثقافي "المحايد" كالترجمة لا يدخل في ما يسمى ب"التطبيع"، بل إن المقاومة والاستمرار في النضال يقتضيان توظيف الإمكانات الأدبية والفنية المختلفة لغة ووسائل في عملية الصراع من أجل نيل الحقوق. ثمة تساؤلات ملحة تطرح نفسها: لماذا لم تثر المشكلة حين ترجمت الروايات العبرية إلى العربية كما حدث في "ميخائيل وحنة" لعاموس عوز القاهرة و"الطريق الى عين حارود" لعاموس كينان بيروت و"غبار" ليائيل دايان دمشق و"الهواء الأصفر" و"ابتسامة الجمل" لديفيد غروسمان فلسطين؟ لماذا لم تُعتبر تلك الترجمات محاولة "غزو" ثقافي للمجتمع العربي؟ بل لماذا لم تعتبر الترجمات العبرية للأدب العربي نافذة للتأثير في الوعي المتصهين، ومحاولة لتصحيح بعض التزوير اليهودي للتاريخ العربي؟ لماذا لم تُثر القضية من خلال ترجمة الأدب العربي الى الانكليزية وهي لغة عالمية؟ ألا يمكن الإسرائيليين استكشاف الشخصية العربية من خلال الترجمة الانكليزية؟ وإذا كانت المشكلة المفتعلة مبررة" لأن إسرائيل "مستعمرة"، فنقول: ألم يكن الغرب مستعمراً؟ وإذا كانت السياسات درجت على استخدام مصطلح "تطبيع" مع الآخر الإسرائيلي فقط، ألم يكن الأجدر بالمثقفين أن يتجاوزوا ذلك إلى كل من يعتدي على حقوق الأمة وينهب خيراتها؟ ثم هل الأمر يقتصر على رؤية "عنصرية" حتى يستنكر عدد من الأدباء ترجمة الأدب العربي الى العبرية ولا يستنكرون ترجمة الأدب العبري الى العربية؟ ألم يكن من الأولى بالمثقفين أن يوجهوا ثورتهم هذه نحو التطبيع القائم الآن على مستوى ديبلوماسيين واقتصاديين؟ وهل لنا أن نعتبر تدريس الأدب العبري في الجامعات العربية تطبيعاً؟ ثم لماذا تكون العبرية لغة شبه ميتة في الترجمة، ولا تكون كذلك في التدريس؟ هل يعكس هذا القلق تردداً في أن الثقافة العربية قادرة على تحدي الوعي المتصهين وإحداث تصدعات داخله؟ إن ما قيل حول إشكالية ترجمة الأدب العربي إلى العبرية لا يعدو - في نظرنا - مجرد شكوك تعكس مأزومية بعض المثقفين، وعدم القدرة على اتخاذ موقف حاسم، وربما يتصل ذلك بعجزهم عن مداخلة الفعل السياسي أو التأثير فيه، الأمر الذي يؤكد هذا الاضطراب وعدم وضوح الرؤية، وذلك بالاكتفاء بإثارة الاسئلة "المفتعلة"، وربما تكلف تأويلات محتملة لعملية ترجمة "بسيطة" لا تحتمل كل هذه التأويلات والتهويلات التي وقع فيها كل من جمال الغيطاني ومحمد البساطي وعبده وازن انظر مقولاتهم في "الحياة" 10/5/2001. إنها مجرد انفعالات رهينة للأثر النفسي، وبخاصة في هذه المرحلة الحرجة. والواقع أن هذه المرحلة الحرجة ليست للترجمة، لأن الترجمة كما ذكرنا بدأت في ثلاثينات القرن الماضي، وإنما هي حرجة بالنسبة الى رد الفعل تجاه الترجمة، فمثلاً يعبّر محمد البساطي بأنه "لا يتخيل أدبه في لغة دولة تحتل أراضي عربية"، وبأن ذلك "أمر يدعو إلى الخجل"، بينما تكتفي سلوى بكر بالقول: إن الرفض "موقف بديهي". إن هذا الموقف هو موقف نفسي مأزوم لا يستند إلى مبررات معرفية أو حتى واقعية. * كاتب سوري مقيم في القاهرة.