ما الذي يحدث حين ينام الانسان على صوت الرصاص ويصحو على ما خلّفه من آثار في الجسد والشجر والحجر؟ ما الذي يحدث حين يتعرض الانسان للإهانة والإذلال على مدار الساعة ويعايش الدمار الاقتصادي من حوله وفي قعر بيته؟ ما الذي يحدث حين يصبح للحياة مذاق الموت؟ ما تأثير ذلك كله في أفراد شعب أطفالاً ورجالاً ونساء يعيشون منذ زمن بعيد في قلب البؤس والفقر والقمع والإحباط في ارض لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومتراً حرمت من اخصب مناطقها، في ارض انطلقت منها شرارة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الاولى التي استمرت سبع سنوات؟ في قطاع غزة هناك نحو 70 في المئة من سكانه لاجئون، بفعل نكبة الشعب الفلسطيني... وبعد مرور اكثر من سبعة شهور على "انتفاضة الأقصى" اختلف نسق الحياة وايقاعها: العيادات النفسية اصبحت تستقبل زائرين اكثر من اي وقت مضى. عدد الشبان الذين يرتدون الأكفان البيض ويجوبون الشوارع في التظاهرات معلنين استعدادهم للقيام بعمليات انتحارية أو استشهادية يزداد يوماً بعد يوم. الآباء والأمهات يقفون لا حول لهم ولا قوة، محبطين إزاء وضع حد للاضطرابات النفسية التي يعانيها اطفالهم. في قطاع غزة، ينشغل الجميع في إحصاء عدد الشهداء والجرحى والأسرى، اذ اتسعت دائرة من يعانون الاضطرابات النفسية الى حد بات فيه الأطباء النفسيون يشعلون الضوء الأحمر. ويستدل من نتائج ابحاث اجراها "برنامج غزة للصحة النفسية" الذي يديره الدكتور أيّاد السراج ان ارتفاعاً حاداً تجاوز الضعف طرأ على نسبة الحالات النفسية التي يعانيها افراد المجتمع الفلسطيني، مقارنة بتلك التي سادت في الانتفاضة الاولى في نهاية العام 1987، بما في ذلك حالات الاكتئاب ومستوى الأعراض السيكوماتية وأعراض الوسواس القهري والقلق والبارانويا. وأوضح السراج ان تراكم مقدار كبير من اليأس والشعور بالإحباط لدى الشباب الفلسطيني اكثر من 60 في المئة من الفلسطينيين اعمارهم تحت سن الثامنة عشرة خلال السنوات الاخيرة التي لم يرَ هؤلاء الشباب فيها اي بوادر لحياة افضل، هو من بين الأسباب التي تقف وراء الارتفاع المستمر لاستعداد الشباب الفلسطيني للقيام بعمليات انتحارية - استشهادية. فالاغلاق كان يفرض قبل الانتفاضة من حين لآخر ليبقى المجتمع ككل في سجن كبير، هذا اضافة الى الجمود في العملية السلمية. فالمحادثات طوال تسع سنوات لم تتوصل الى شيء جوهري في حياة المجتمع الفلسطيني، والسبب الاول الذي اورده السراج هو "الرسالة التي ترسلها السلطات الاسرائيلية على انهم لا يستحقون الحياة". وتصل هذه الرسالة بطريقة مباشرة من خلال تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين ونظرتهم الدونية للفلسطينيين، او من خلال الاهانة والاذلال اللذين يقوم بهما الجيش على المعابر وفي المطار ولدى ذهاب العمال صباحاً الى اعمالهم وعند عودتهم مساءً، إذ يمرون بخطوات مهينة تبلغ ذروتها بادخالهم عبر ما يشبه "مسالخ الدجاج". وتشير الابحاث التي اجراها مركز الابحاث في "برنامج غزة للصحة النفسية" الى ان 55 في المئة من الاطفال شاهدوا ضرب احد افراد الاسرة من جانب الجيش الاسرائىلي وأن 50 في المئة منهم تعرضوا للاهانة و 85 في المئة تعرضوا للمداهمة الليلية. وما يثير القلق ان 20 في المئة من الاطفال يعانون اعراض "الخبرة الصادمة" و 30 في المئة من الراشدين التي من اهم ملامحها استمرار معايشة الشباب للعنف والخبرات، اضافة الى الإحباط واليأس المتراكمين نتيجة قلة الفرص المتاحة وهبوط المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وأوضح السراج ان الانسان قد يتحمل الاحباط بما يثيره من توتر، ولكن وصول الاحباط الى درجة عتبة الاحباط Threshold يستدعي تغييراً في السلوك وينقلب الى عنف. ويشير في هذا السياق الى دور الدين التاريخي الثقافي الذي يلعبه في المجتمع الفلسطيني. وفي هذا الاطار تعتبر "الشهادة"، بحسب الدين الاسلامي الذي يشكّل احد اساليب "التوافق"، ذات اهمية كبيرة، بينما الانتحار وفقاً للثقافة الاسلامية والمعايير الاجتماعية يشير الى قتل النفس. اما الاستشهاد فهو يعني الجهاد في سبيل الله بالنفس من اجل ادخال الرعب والفزع في صفوف العدو. ويضيف السراج ان "من يقدم على الانتحار فهو يتخلص من حياته بسبب الاكتئاب او اليأس من الحياة ويقتل نفسه عن قصد، اما من يقدم على الاستشهاد فهو يقوم بالايثار بذاته من اجل ان يحيا غيره، ومصيره الجنة بإذن الله". وزاد انه "عندما توجد وسائل أخرى، يستبعد المناضل العملية الاستشهادية، فمثلاً اذا استطاع ان يفجّر المكان عن بعد فإنه لا يضحّي بذاته لأن المطلوب هو النتيجة". وتشير احصاءات "برنامج غزة للصحة النفسية" الى ارتفاع عدد حالات الاكتئاب والقلق والوسواس خلال الشهور الثلاثة الاولى للانتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر - كانون الاول/ ديسمبر من العام 2000 مقارنة بالشهور ذاتها في العام 1999، إذ سجلت النسبة في حالات الاكتئاب، على سبيل المثال، في العام 1999 27،18 في المئة بينما ارتفعت هذه النسبة لتصل الى 5،22 في المئة للشهور ذاتها في العام 2000. ويستدل من رصد لأبرز الحالات والأعراض النفسية التي يعانيها الاطفال في هذة المرحلة مقارنة بمرحلة الانتفاضة الاولى ارتفاعاً ملحوظاً يعكس الوضع النفسي الصعب الذي يعيشه الطفل في ظل تصاعد العنف الاسرائيلي. وفي هذا الصدد يشير السراج الى ان بيئة العنف السياسي تمثل تهديداً للطفل عندما تضطرب الأمور وتبدأ مسارات النمو تأخذ اشكالاً اخرى. وهؤلاء الاطفال وعلى رغم انهم يفقدون طفولتهم ينمون بسرعة عجيبة. ويشير الى ما ذكرته الباحثة الجنوب الافريقية ستراكر من ان الاطفال في هذه الحال تتفتح عيونهم على الصراع محاولين استكشاف ابعاده. ويكون همّ الطفل في هذه الحال العمل على توفير البيئة الآمنة له، ومن هنا يأتي التفكير في إبعاد الخطر المحيط به الآن في المستقبل، ما يؤثر في نظرته الى المستقبل. وتدل نتائج بحث قام به المركز عقب اتفاق اوسلو على عيّنة من 450 طفلاً تتراوح اعمارهم بين 10-15 عاماً، الى ان 7،73 في المئة من هؤلاء يشعرون بالتفاؤل في ما يتعلق بمستقبلهم. ولكن حال الإحباط التي رافقت السنوات التي تلت اوسلو واكتشاف الاطفال والشباب ان توقعاتهم السابقة لم تكن في محلها، كما أكد السراج، أدّيا الى تدنّي التفاؤل في نظرتهم الى المستقبل. الى ذلك، اصبحت الأمومة والأبوة "صعبة" في المجتمع الفلسطيني، هذا ما يقوله الفلسطينيون بعد ان اهتزت صورة الأب كحامي الأسرة وضامن احتياجاتها، إذ ان 85 في المئة من الاطفال تعرضوا لمداهمات ليلية وشاهد 55 في المئة منهم احد والديه يضرب امامه، أو أنه عاطل من العمل، "فانكسرت" العلاقة الوالدية بتغير السيكولوجية للآباء الذين يعيشون في مناطق التوتر وخصوصاً في قطاع غزة. والأم التي تقف عاجزة عن منح الشعور بالأمان لأطفالها وهي تحتضنهم بينما يتواصل القصف على المكان الذي يقع فيه منزلها، تفتقر هي ايضاً الى هذا الإحساس. ففاقد الشيء لا يعطيه. واضطراب الأب والأم والإحساس بالقلق على مستقبل الاطفال يزيد من صعوبات ضبطهم، لأن الأطفال لا يصغون الى ما يقولون. أكثر ما يقلق القائمين على "برنامج غزة للصحة النفسية"، الذي يعتبر تجربة جديدة في الشرق الأوسط، ان اعراض "الخبرات الصادمة" وتأثيرها في الطفل والمجتمع معاً ستزيد من الصعوبات في المستقبل، هذا اذا لم يسارع الى توفير التدريب المهني على الطرق العلاجية وطرق التعامل مع الأطفال والعائلات... وقبل ذلك كله وقف مسبّبات الأعراض العصابية في شكل كامل... اي وقف العنف الاسرائيلي المتمثل بالاحتلال.