اخترت أربعة مشاهد أو مواجهات ثقافية عربية جرت ثلاثة منها في مصر على مدى القرن العشرين، لبلورة الأطروحة التي ذهبتُ إليها حول الطبيعة العقائدية للفكر الإسلامي المعاصر، فكر الذاتية والهوية، وعلاقة وعي الهوية برؤية العالم، والإمكانات الأخرى التي تفتّح عليها المشهد في تسعينات القرن العشرين. المواجهة الأولى بين فرح أنطون ومحمد عبده في مطلع القرن. والمواجهة الثانية بين رشدي صالح ومحمد البهي أواخر الخمسينات. والمواجهة الثالثة بين سيد قطب وشيوخ الإخوان المسلمين المصريين في الستينات والسبعينات. والمواجهة الرابعة بين الإحيائيين الإسلاميين القائلين بإسلامية المعرفة، والليبراليين الجدد الذين يعتبرون الثقافة الغربية نهاية المطاف. كانت الإشكالية في المواجهة الأولى مسألة التقدم، وما هي السبيل الفضلى لتحقيقه؟ كان فرح انطون اللبناني المتمصّر يرى متأثراً في ذلك بالمسار الفرنسي، وبإرنست رينان على الخصوص، أن السبيل الفضلى لتحقيق التقدم تتمثل في فصل "السلطة المدنية" عن "السلطة الدينية"، ذلك أنه "لا مدنية حقيقة ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. ولا سلامة للدول ولا عز ولا تقدم في الخارج إلا فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية". فيرد عليه محمد عبده بأن هذا الأمر غير ممكن في كل الأديان، وفي الإسلام على الخصوص. ثم يتجه لعرض صورة مشرقة عن علاقة الدين بالدولة في التاريخ الإسلامي، وصورة أخرى قاتمة عن تلك العلاقة في التاريخ المسيحي الوسيط، ليصل في النهاية الى أنه لا ضرورة لفصل الدين عن الدولة في الإسلام من أجل التقدم، في حين كان ذلك ضرورياً في أوروبا للخصومة بين الكنيسة والعلم، والكنيسة والمُلك في العصور الوسطى والحديثة. ولا يقف فرح أنطون مكتوف اليدين أمام هذا الحِجاج، فيورد أمثلة للاضطهاد الديني في التاريخ الإسلامي أبرزها مَثَل ابن رشد، ليؤكد في النهاية انه ليس ضد أي دين، لكنه ضد ان تسطو المؤسسات الدينية على أمور الشأن العام - لما في ذلك من إضرار بالمواطنين وبخاصة في المجتمعات المتعددة الأديان. فالحكومة الدينية - كما يقول - سوف تنحاز الى أهل دينها، بينما الحكومة المدنية تنظر الى الجميع نظرة واحدة! وهنا يحشُرُ محمد عبده فرح أنطون في زاوية المسيحي المعتدي على الإسلام فيجادله في أن أصول المسيحية وليس الكنيسة فحسب معادي للعلم وللعقل وللتقدم - فيجيبه فرح أنطون بما معناه إنه لا يريد الدخول في نقاش ديني، بل إنه يحتكم الى العقل في الأمر المدني، ويترك للبشر الأفراد ان يتديّنوا بالدين الذي يشاؤون. وبعكس ما يبدو لأول وهلة، فإن الذي حوصر في النهاية محمد عبده وليس فرح أنطون. ذلك ان الواقع انه كما لم تكن مرجعية فرح انطون مسيحية، فإن مرجعية محمد عبده لم تكن - في مسألة التقدم بالذات - إسلامية. جُلّ ما كان عبده يقصده أن المسلمين يمكنهم أن يتقدموا بالمقاييس وبالأنماط الأوروبية، من دون ان يقف الإسلام عقبة في سبيل ذلك. فالمثال الأوروبي القائم في نظر الرجلين على العقل والعلم مرجعية مشتركة، لكن عبده لا يرى احتذاءه بحذافيره، وبخاصة ما تصل منه بمصارعة الدين، لكنه عندما اضطُر الى التفصيل ميّز بين المسيحية والإسلام فسوّغ عداء العلمانيين الأوروبيين للكنيسة بل وللمسيحية، مدافعاً عن إمكان تلاؤم الإسلام بشواهد تاريخية ونصية مع العلم والتقدم والمدنية. وما حُسم النقاش لصالح واحد من المجادلين، ليس لأن الحسم غير ممكن في نقاش من هذا النوع وحسب، بل ولأن الصور التاريخية والنصوص والوقائع، تخضع كل منها لقوانين ومناهج بحث لا تتطابق. فالصورة التي كانت سائدة يومها عن العصور الوسطى الأوروبية، التي كانت الكنيسة مسيطرة فيها، لا تقف في وجه الصورة المشرقة للعصور الوسطى الإسلامية. لكن من ناحية ثانية فإن الحاضر الأوروبي المتقدم والفاصل للدين عن الدولة شاهد لا يمكن دفعه بالاستشهاد بنصوص إسلامية في الحرية والتقدم. بدأ النقاش إذاً حول التقدم ومستلزماته. وانتهى افتراقاً في قضايا دور الدين في دنيا الواقع، وعلائقه بالدولة والسلطة السياسية، وهي اشكالية ما تزال عالقة في الفكر والواقع العربي على مشارف القرن الواحد والعشرين. أما المواجهة الثانية فكانت بين رشدي صالح الذي أصدر عام 1957 رواية تأويلية عن ابن خلدون عنوانها: "رجل في القاهرة"، ومحمد البهي الذي أصدر عام 1957 أيضاً كتاباً ضخماً عنوانه: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". وخصص في كتابه هذا فصلاً طويلاً عنوانه: "الماركسية في التجديد في الفكر الإسلامي" للرد على رشدي صالح، ومؤلفَين آخرين اعتبرهما ماركسيين مثله هما خالد محمد خالد من هنا نبدأ، ومصطفى محمود الله والإنسان. محاولة رشدي صالح في فهم ابن خلدون محاولة ماركسية فعلاً، تحتذي طرائق جورج برنارد شو في شرح الاشتراكية وتبسيطها لأنصاف المتعلمين. والجديد فيها - فضلاً عن صيغتها الروائية الجذّابة - استلهام شخصية تراثية مشهورة من أجل الدعوة لقيم وتحليلات وممارسات معاصرة. أما محمد البهي الذي كان وقتها مديراً للثقافة بالأزهر، ثم صار مديراً لجامعة الأزهر، فوزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر فأكثر ما أزعجه فيما قال، استخدام ابن خلدون من اجل الدعاية للشيوعية. فالتجديد امر مشروع، والاستلهام للتراثيات مفيد للناشئة، لكن حدود التجديد هي حدود جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لا أكثر ولا أقل. بيد انه عندما يمضي مجادلاً رشدي صالح ورفيقيه المتمركسين من وجهة نظره، يكشف عن سر انزعاجه الحقيقي: الصراع في الثقافة المصرية صراع على الحاضر السياسي، والهوية الثقافية والسياسية لمصر بعد الثورة، والتي لم تكن قد تحددت بعد. وهو مثل محمد عبده من قبل ضد الصليبية، ومثل شيخه المراغي ضد الشيوعية، فهناك غربان مرفوضان: الغرب الماضي الصليبي، والغرب الماركسي، ويبقى الأمر مفتوحاً في ما يتعلق بالغرب الثالث الثاني في الحقيقة، لأن الغرب الأول الذي يهاجمه باسم الاستشراق والصليبية هو غرب متصوَّرٌ له علاقة بتحديد الهوية أكثر مما له علاقة بالواقع. يقرر رشدي صالح على لسان ابن خلدون حتمية التطور، وحتمية الصراع الطبقي، وحتمية انتصار المسحوقين. فيجيبه محمد البهي بحتمية انتصار الإسلام على الشيوعية وعلى الصليبية. إنه صراع على السلطة، أو أنه دعوة من جانب مثقفين في جبهتين متقابلتين لثورة تموز يوليو لاعتناق إحدى وجهتي النظر. والطريف ان مرجعية رشدي صالح الظاهرة إسلامية تراثية، بينما مرجعية محمد البهي اسلامية حديثة. في حالة محمد عبده وفرح انطون كانت الإشكالية ضخمة وموجعة، لكنّ التلاقي على قواسم مشتركة ظل ممكناً. ففرح أنطون الذي هاجر الى اميركا عام 1906، ما لبث ان عاد الى مصر عام 1909 تحت تأثير حدث الدستور العثماني عام 1908. فكما كانت هجرته مثقلة بالرموز، كانت عودته - أملاً بالحداثة العثمانية - رمزية أيضاً. أما مواجهة محمد البهي مع رشدي صالح فهي مواجهة بين مثقفين على طرفي نقيض، ولا إمكان للقاء بينهما على تسوية. وهي تجري على خلفية الحرب الباردة التي نشبت بين الجبارين أواخر الأربعينات، والتي قسّمت العالم حتى أواسط الثمانينات. وحاول ثوار كبار في آسيا وافريقيا الخروج من إرغامات الانحياز لأحد الطرفين بمؤتمر باندونغ وجبهة عدم الانحياز، لكن رشدي صالح ومحمد البهي، كل على طريقته، يرفض عدم الانحياز، ويستصرخ سلطات ثورة تموز أن تنضم لأحد الطرفين المتصارعين في السياسة كما في الثقافة. فالحتميات الثقافية هنا حتميات سياسية، بينما كان من الممكن ايام محمد عبده وفرح انطون ان تكون لك خياراتك الثقافية من دون ان تكون مع السلطة أو ضدها. ويأتي المشهد الثالث ليُفصح عن الخيارات التي ما كانت تحددت اثناء الخمسينات. إنه كتاب سيد قطب: معالم في الطريق، الذي كتبه في السجن، ونظّر فيه للحاكمية الإلهية، في مواجهة حاكمية الجاهلية والطاغوت. كان سيد قطب يخرج من السجن في النصف الثاني من العام 1964 ليعود إليه بعد سبعة أشهر، ثم ليُعدم عام 1966. وكان محمد البهي يُعزل من الوزارة ويوضع في الإقامة الجبرية، بينما كان رشدي صالح وزملاؤه يخرجون من السجون ليتولّوا المؤسسات الصحافية والثقافية، وليشاركوا في تحديد سياسات وخيارات مصر الناصرية. محمد البهي موظف الدولة القديم وضع الغرب الليبرالي، في مواجهة الشرق الشيوعي. أما إسلاميو الإخوان المسلمين فكانت المسألة لديهم اكثر تعقيداً. فطوال الثلاثين عاماً الماضية انصب اهتمام مثقفيهم على نقد مادية الغرب وصليبيته وتآمره على الإسلام والمسلمين. وما اقتصر الأمر على نقد السياسات، بل والثقافة والحضارة أيضاً. لذلك كان الأقرب لتصور فكر الهوية والإحيائية هذا تنصيب نموذج ثالث في مواجهة الشيوعية والرأسمالية معاً: إنه النظام الإسلامي، نظام حاكمية الله في الأرض، الذي لم تدنّسه أوضارُ الشرق أو الغرب. فإذا كانت إشكالية مطلع القرن هي إشكالية كيف نتقدم، وإذا كانت إشكالية الأربعينات والخمسينات: رأسمالية أو اشتراكية، فإن إشكالية الستينات والسبعينات تتحدد بالسؤال: كيف يمكن ان تبقى مسلماً؟! وعلى ذلك يجيب سيد قطب: لا يمكن ان تبقى مسلماً من دون الدولة أو النظام السياسي الذي يحكم بما أنزل الله! فيجيب شيوخ الإخوان في المخطوط الذي تدوول داخل السجون ثم طُبع عام 1977 بعنوان: دعاة لا قضاة بأن المسلم يستطيع ممارسة دينه دونما الحاجة للدولة كما في الصلاة والزكاة وغيرهما. لكنه يستطيع مقاومة تلك الدولة إن حالت بينه وبين أداء دينه على الوجه المُرضي. ولو كانت الدولة الإسلامية من ضرورات الدين لزال الدين يوم زالت الخلافة عام 1924. ولم يعتبر الشيخ يوسف القرضاوي هذه الإجابة كافية آنذاك، ولذلك بدأ عام 1974، إصدار سلسلته المعروفة بحتمية الحل الإسلامي. وهي حتمية تنطلق من أن الإسلام أصلح للإنسان من سائر الوجوه، وأن الله تكفّل بحفظه وازدهاره حتى يعمّ العالم. وإذا كان الشيخ القرضاوي يلتمس للحتمية شواهد في النصوص، وفي "حركة الواقع"، فإن الذي أوصله إليها في الحقيقة أفكار الاشتراكيين حول الحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية. إذ رأى أنه ما دامت الشيوعية حتمية الحدوث على رغم انها مذهب إنساني، فإن الإسلام أولى ان يكون انتصاره حتمياً. وهكذا أطللنا على السبعينات وهناك حتميتان تسودان فكرياً: الحتمية الإسلامية، والحتمية الماركسية. أما الحتمية السياسية المتصلة بالقومية والوحدة، فتراجعت من أفق المشروع الى أفق الأفكار، وبدا أن لا أحد يهتم لهذا التراجع. أما المشهد الرابع، والذي اتخذ من "إسلامية المعرفة" عنواناً له، فيحدث ويسود في الثمانينات من القرن العشرين. إذ عقد المعهد العالمي للفكر الإسلامي المؤتمر الأول للمسألة عام 1982. وتصوره للموقف الراهن للأمة الإسلامية لا يختلف عن تصورات الندوي والمودودي وسيد قطب والقرضاوي: فمنذ القرن السابع عشر الميلادي، اجتيحت ديار الإسلام بالغزوين الاستعماري العسكري، والثقافي الفكري... حتى استطاع هذا الغزو الشامل أن يأخذ مواقعه في عقول الكثيرين من أبناء هذه الأمة، وفي قلوبهم وأفهامهم. واتخذ ذلك الغزو لنفسه بناء على تخطيط دقيق مسربين اثنين: التبديل الثقافي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقطع صلة الأمة بتراثها الإسلامي وتحويله الى مجرد تراث تاريخي يُفتخر به ويُتغنّى بأمجاده. ولذلك رأى المؤتمر ذاك، والمعهد بناء مشروع "إسلامية المعرفة" من أجل إعادة تكوين ثقافة الأمة على هدْيٍ من الموروث الإسلامي الأصيل، استناداً الى فهم صحيح وعميق ومستفيض لتجربة الأمة التاريخية في شتى النواحي من جهة، وفهم نقدي كاشف للسياقات الثقافية والمعرفية والسياسية والاقتصادية التي أحاطت وتحيط بها في الأزمنة الحديثة. فالمطلوب إعادة بناء التصور، أو الرؤية، التي لا تكتفي بأن تحفظ على الأمة دينها وثقافتها الخاصة، بل تطمح إضافة لذلك أو تأسيساً عليه الى الاندفاع في نهضة جديدة مغيِّرة في حياة المسلمين، وبالتالي في مواقعهم في العالم المعاصر. على أنّ هذا المشهد، الذي يستلهم الفكر الإحيائي الإسلامي في التأصيل، لكنه يمضي قدماً خطوات أبعد في البناء، أثار ويثير حفائظ الليبراليين الجدد، الذين خرجوا من الحتمية الماركسية، باتجاه الحتمية الليبرالية. فالأستاذ المعروف الدكتور عزيز العظمة يرى أن رؤية "أسلمة المعرفة" تحتوي خطابين نقائضيين: خطاب سجال، وخطاب إيجاب، الخطاب السجالي ينقض المناهج العلمية العالمية باسم الخصوصية، وخطاب الإيجاب يفسر وقائع التاريخ والمجتمع في بوتقة تصور إسلامي. ولستُ هنا في معرض مناقشة صحة هذا التصور أو ذاك. بل إنني معنيٌّ هنا باستنطاق دلالات هذه الحتميات على رؤية العالم وبالتالي الذات، من اجل فهم الأزمة الفكرية التي راوحت مكانها بدرجات متفاوتة طوال القرن العشرين، الى أن انفجرت في التسعينات المنقضية تعبيراً عن العجز عن مواجهة إشكالية العلاقة بعالم العصر، وعصر العالم. فإحيائيو "إسلامية المعرفة" يرون أن أمتنا تملك مشروعاً معرفياً وحضارياً طمست معالمه أحداث ووقائع الغزو الاستعماري والثقافي الجارية منذ القرن السابع عشر، والتي تفاقمت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حتى صارت مشكلة داخلية، أو أنها أوشكت ان تُلغي ذلك الداخل لصالح الاستعمار والاستلاب الثقافي. والأستاذ عزيز العظمة لا ينكر وقائع ذلك الغزو، لكنه يرى ان الحضارة الغربية صارت حضارة عالمية، وأن الصبغة العالمية تطّرد أيضاً في العلم والثقافة. فالبحث عن الخصوصية بالإحياء النصي أو التاريخي شكل آخر من أشكال الوهم والاستلاب، لا يقتصر ضرره على عدم إمكانه ولا معقوليته، بل إنه يسدّ على المسلمين منافذ الدخول الى الحداثة والعالمية. فإذا كانت رؤية محمد عبده في مواجهة فرح انطون رؤية تاريخية. ورؤية محمد البهي في مواجهة رشدي صالح واليساريين رؤية سياسية، ورؤية سيد قطب والقرضاوي رؤية نضالية، فإن رؤية إسلاميي المعرفة وعزيز العظمة معاً هي رؤية ثقافية، أو عقائدية، تنصبّ على التصارع على المجتمع والدولة في العالم الإسلامي، وإن اتخذت من العالم المعاصر كله مسرحاً لها. * كاتب لبناني. والنص محاضرة ألقيت في مؤتمر "تيارات الفكر الإسلامي المعاصر: إشكاليات الإصلاح والتجديد" في المعهد العالي للدراسات الإسلامية يومي 16 نيسان ابريل و17 منه 2001.