بعيداً عن تتابع السرد وحيل التشويق، في رواية "العسكري الأسود" ليوسف إدريس، فإن تقنية العلاقة بين الراوي والمروى عنه تلفت الانتباه إلى العلاقة بين هذا الراوي والمروى عنه، سواء كان هذا المروى عنه شوقي الذي تبدأ الرواية وتنتهي بمحاولة كشف "السر" المحيّر فيه، ومعرفة "الشيء... المروع" الذي كان يضمّ عليه جوانحه، أو كان هذا المروى عنه هو العسكري الأسود نفسه، عباس محمود الزنفلي الذي هو بعض السر، وبعض "الحادث الهائل" الذي قُدِّر للراوي أن يكون شاهد عيانه. وقد سبق أن قلت إن العلاقة بين شوقي وعباس محمود الزنفلي هي العلاقة بين الضحيّة والجلاد، العلاقة التي يمكن أن تنقلب فيها الأدوار ويلعب فيها الضحية دور الجلاد الذي يمارس على جلاده السابق بعض ما سبق أن مارسه عليه، وذلك على نحو يبدو معه سياق هذه العلاقة سياقاً يجمع بين طرفين، يؤدي كل منهما بالنسبة إلى الآخر دور المرآة في عملية التعرف التي نغدو، نحن القراء، طرفاً فيها. ولذلك يغدو حضور كل طرف من الطرفين المتناقضين ضرورياً في معرفة الآخر واكتشاف "السر" فيه وبواسطته على السواء. ولنلاحظ، أولا، أننا لا نفهم "سر" مأساة شوقي إلا بمعرفة دور عباس الزنفلي الذي يتولى تجسيد الحضور البشع لأجهزة القمع الوحشية التي تركّزت فيه، وأصبح أداتها الحيوانية في تشويه البشر وتدمير إنسانيتهم. وعلى مستوى التتابع السردي في الرواية، لا نقترب من "سر" شوقي إلا بمدى اقترابنا مكانياً، وسياقياً، ومن ثم معرفياً، من العسكري الأسود. ولا يقتصر الأمر، هنا، على أن شوقي لا يعلن عن تأثير التعذيب عليه، وعلى غيره من المعتقلين، إلا وهم في الطريق إلى منزل العسكري الأسود، بل يتعدى الأمر ذلك، مع الاقتراب من المنزل، إلى حدِّ التصريح بأنه كان تلك الضحية التي ظل العسكري الأسود يضربها بوحشية من الصباح إلى المساء، في "الأوضة اللي في الدور التاني بتاع المحافظة اللي قصاد المكتب الطبي على طول". وهو المكتب الذي لم يكن الراوي يفهم سبب رغبة شوقي في العمل فيه قبل مسيرتهم إلى منزل الجلاد القديم. يضاف إلى ذلك أننا لا نرى رؤية العيان لمأساة شوقي الكاملة، وآثار التعذيب الوحشية على جسده، إلا في مواجهة العسكري الأسود المريض الذي أصبح طبيبه يقوم بدور جلاده، في المحاكمة الرمزية التي نشهدها في غرفة المريض المعتمة. وعندما يصل التتابع إلى ذروته، ويتكشف السِّرُ، في اللحظة التي يغدو فيها الضحية السابق جلاداً، فإن الأدوار يتم تبادلها على نحو آني بين شوقي وعباس الزنفلي، ويتجاوب بينهما ومنهما معاً عويل الألم الفظيع نفسه "الألم الذي لا يحتمله بشر، الألم الذي لا تصرخ معه الحنجرة وإنما الصارخ هو الجسد وعظامه وأعصابه، وكأنما يجبرها الألم أن تطلق صرختها الأخيرة". ولا ينتهي تبادل الأدوار إلا بانتقال عباس الزنفلي إلى مرحلة التهام لحمه هو، خصوصا بعد أن تحوّل ضحيته إلى جلاد استيقظ فيه الوحش الحيواني الذي تركه التعذيب في أعماقه. وفي المقابل، وبالكيفية نفسها، فنحن لا نعرف سر عباس الزنفلي إلا بمعرفة سر شوقي، وكلما اقتربنا من أغوار شوقي اقتربنا من عباس الزنفلي الذي يقبع فيها كالجرح الذي لا برء منه ولا دواء. وعندما يصل شوقي إلى منزل عباس، ويقف، أولاً، في مواجهة امرأته التي تنوب بحضورها عنه، تتداعى المعلومات الخاصة بتحول عباس من شاب صعيدي فرح بقوته، بسيط، ساذج، إلى ضحية التقطها الباشا رئيس الوزراء، وأهداها إلى البوليس السياسي، وجعلوا منه أداة تعذيب وحشي تفارقه ملامحه الإنسانية تدريجياً مع كل تعذيب يقوم به، إلى أن تحول في النهاية إلى ذئب جارح يأكل لحمه بعد أن لم يجد ما يأكله. ولا نصل إلى ذروة معرفتنا بنهايته الوحشية ومن ثم التيقن من أن إيذاء الآخرين هو إيذاء للنفس إلا في لحظة الذروة التي يتم فيها تبادل الأدوار. وهي العملية التي تنتهي بانتقال عباس إلى مرحلة التهام لحمه هو، بعد أن فشل في التهام لحم شوقي، ذلك الالتهام الذي أراد به تحطيم صورته في المرآة الرمزية التي أخذت تكشف له مدى البشاعة الفظيعة لأعماله الوحشية. وبالطبع، يلفت الانتباه أننا لا نعرف "سر" شوقي أو عباس إلا من خلال الراوي الذي لا نعرف اسماً له، والذي يعاملنا كما لو كان اسمه في ذاته غير مهم بالقياس إلى حضوره الرمزي، خصوصا بوصفه الراوي العارف بكل شيء، والذي يصل بنا إلى الحقيقة عن طريق استعادة الأحداث التي يكتبها أمام أعيننا بالطريقة التي تجعلنا نراها كما يريد. ولذلك فنحن لا نعرف من عباس أو شوقي إلا ما يرغب هذا الراوي - كلّي الحضور - في أن يجعلنا نعرفه، ونظل خاضعين دائماً لإرادته السردية التي تمسك بكل الخيوط وتستخدم كل الحيل اللازمة للإبقاء على شوقنا - بوصفنا قراء - في معرفة: "ماذا بعد؟". ولو قلبنا هذا الشوق واتجهنا به إلى هذا الراوي لاكتشفنا أنه هو نفسه مروى عنه، وأنه من هذا الجانب يقوم بدور مرآة موازية لكل من عباس وشوقي. وليس من المصادفة أن يخبرنا هذا الراوي عن "التوافق المضحك" الذي لفت نظره في "دوسيه" عباس، حيث اكتشف أنه مولود في العام نفسه الذي ولد فيه هذا الراوي الذي أصبح مروياً عنه وقبل مولد شوقي بأشهر معدودة. وكان ذلك يعني اكتشافه أن الجلاد "من نفس جيلنا الحائر التعس". وهي نتيجة تجعل الجلاد واحداً من أفراد ذلك الجيل الذي ينقلب بعضه على بعض نتيجة تدخّل إرادة سياسية أعلى، إرادة تستخدم البشر لتدمير البشر، لا يعنيها الضحايا بقدر ما يعنيها تحقيق مصالحها هي، وإبقاء هيمنتها على الجميع بواسطة العنف العاري للقمع الذي تمارسه من الداخل والخارج. أقصد العنف الذي تدفع ضحاياه إلى ممارسته على أنفسهم. وعندما يتحدث الراوي عن نفسه وعن شوقي بوصفهما شابين من "شباب الجيل الحائر" فإنه لا يتباعد عن مدى سياق هذا المغزى، خصوصا عندما يحدّثنا عن صراعات أبناء هذا الجيل وانقساماته وتبادله الاتهامات: "أناس منا كانوا يمرحون ويقضون الليالي حول موائد البوكر الذي يلعب بقروش ويسمونه قماراً، وشلل أخرى تزوغ من المحاضرات وتدمن حفلات السينما الصباحية، وفرق همّها الرياضة والجري بالفانلات حول الملاعب، وجماعات للاغتيال والإرهاب، ونحن المهتمون بالسياسة والمؤتمرات والخطب، نحن الذين نبادل الآخرين الرياضيين وأصحاب النزوات الاحتقار، ونردّ على اتّهامهم لنا بأنهم منحلّون، وفي ما بيننا نتبادل التهم، التعصب يُرَدّ عليه بالإلحاد، والفاشية يردّ عليها بالشيوعية". وغير بعيد عن هذا السياق، يقع العسكري الأسود، ابن الجيل نفسه الذي فُرِض عليه القيام بدور الأداة الإرهابية القامعة، في تراجيديا المقتولين القتلة التي تحيل المقموعين إلى قامعين، والعكس صحيح بالقدر نفسه، هكذا ينتهي الأمر بهؤلاء الذين أرادوا إنقاذ "الشعب كله" وهم غير قادرين على إنقاذ أنفسهم، خصوصا بعد أن تكالبت عليهم المآسي التي تجذب الأرواح إلى الأسفل، وتحني الظهور قبل الأوان، وتدفع المقموعين إلى الأخذ بثأرهم من بؤساء مثلهم، تماما كما كان شوقي يتلذذ برؤية العساكر المساكين يبكون أمامه بدموع حقيقية كي لا يكتب أنهم متمارضون حتى لا يحاكموا أو يخصم من مرتبهم أيام. وذلك حال تتخلل آثاره الروح، وتتسرب إلى قرارة القرار من الوعي الفردي، حتى على مستوى السلوك الذاتي، إلى الدرجة التي لا يمكن وصفها إلا بعبارات الراوي الذي يتحول بواسطة سرده إلى مروى عنه التي تقول: "وماذا يفعل الإرهاب أكثر من أن ينجح في جعل كل منا يتولى إرهاب نفسه بنفسه، فيقوم بإسكاتها وإخضاعها للأمر الواقع الرهيب؟!". وكما قلت من قبل، فإن هذا الراوي الذي أصبح مروياً عنه لم يذكر لنا اسمه لأننا لسنا في حاجة إلى الاسم من حيث هو دلالة على شخص متعين، حسبنا أنه زميل شوقي، أو نقيضه اليساري في العمل السياسي، وأنه طبيب تخرّج في كلية الطب، وأنه يتعامل مع شوقي والزنفلي بوصفهما حالتين، يقوم بتشريحهما أو تحليلهما في معمله الطبي، مخترقاً أنسجة الوعي وأغلفة النفس، ليغوص عميقا إلى موضع العلة والداء لكي يكتشف الدواء. وهو في بحثه هذا يدرك أكثر من مرة، ويبلغنا ذلك بتقنياته السردية المتنوعة، أنه يغوص في ذاته بالقدر نفسه، ويضع وعيه موضع المساءلة، ويرى في شوقي الطرف الأقصى السالب لما يمكن أن يفعله القمع به، أو يفعله القمع بنا جميعا. ولذلك فإن العلاقة التي تصله بشوقي هي علاقة التشابه اللافت. صحيح أن الطرفين في علاقة التشابه يظلان منفصلين، تُباعد بينهما نيّة المشابهة نفسها، ولكن هذا التباعد من ناحية مقابلة يضع الطرفين موضع الموازاة التي تجعل ما يحدث في طرف ينعكس على نظيره، كما لو كان ينعكس في مرآة تقابل غيرها. ونتيجة ذلك أننا كلما ازددنا معرفة، واقتربنا من كشف "سر" شوقي، ازددنا معرفة بالراوي الذي أصبح مروياً عنه، واقتربنا من كشف سرّه هو، السر الذي جعله يتحول من طالب ثائر ويساري متوهج، ينطوي على إيمان عميق بأنه مبعوث العناية لتحقيق رسالة سامية، رسالة إنقاذ البلاد و"تغيير مصير شعبنا تغييراً جذرياً وإلى الأبد"، إلى فرد في جيل سحقه حمل الرسالة التي انطوى عليها، وهزمه القمع من داخله، فلجأ إلى التقيّة التي كانت سبب نجاته من الاعتقال. وعملت ضرورات الحياة العملية - بعد تخرّجه - على تخفيف حدة اعتداده برأيه وإيمانه، فأصبح يحتفل بكل عمل مخلص "حتى لو صدر عن مخالف في الرأي وعدو في العقيدة". لكنه، في الوقت نفسه، بقى مشدوداً إلى ما ترسّب في أعماقه، وقذف به إلى السلبيات التي أبعدت جيله بعضه عن بعضه "داخل هذه القماقم المتداخلة من الجدران والأدخنة والمخاوف" حيث يصبح بين أفراد هذا الجيل "مطاردة لا تنتهي". ولذلك فإن إلحاحه على تصوره بأن فترة من السجن لا يمكن أن تغير الإنسان كان مبرره في الإبقاء على علاقته بشوقي، أملاً في استعادة العنصر النقي من أعماق جرح الروح بعد تطهيرها. ولكن التجربة العملية أثبتت له استحالة ذلك، وكشفت له - على نحو غير مباشر - أنه لو مرّ بالتجربة نفسها لانتهى إلى ما انتهى إليه شوقي، بقايا إنسان خسر إنسانيته إلى الأبد. هكذا، يكتب الراوي المؤلف المضمر أو المعلن مؤكداً للمروى عليه، منبّهاً إياه بعلامات لا تخطئها العين، أن خلاصة بحثه واهتمامه غير العادي بالموضوع انتهيا به إلى أن الذي خرج من المعتقل - بعد التعذيب - ليس شوقي الذي كان يعرفه، وإنما كائن غريب لم يعد يرى في الجنس البشري كله سوى جن وعفاريت همّها أن تنقضّ عليه وتعقره وتفتك به، وعليه أن يبادل أفراد هذا الجنس العداء الذي يضمره لهم من غير أن يعلن عنه. ولكن يلفت التحليل الطويل لنفسية هذا الكائن المعطوب الانتباه إلى أن الراوي لا يقوم بتحليل حالة شوقي، بوصفها حالة فردية، وإنما بوصفها عينة تمثيلية يمكن أن تنطبق نتائج تحليلها على كل من يخوض التجربة نفسها. وذلك سر تكرار التعميم في التحليل، والانتقال من خصوصية الإشارة المحصورة في شوقي إلى عمومية الإشارة إلى مطلق الجنس أو النوع الذي يشمل كل المثقفين. وأحسب أن التعميم والتجريد في هذا السياق لا يفارقان دلالة الأمثولة، خصوصا في إضمارها الذي تغدو به نوعاً من التبرير والعقلنة لبذل أقصى الطاقة لعدم المرور بتجربة السجن، وعدم تعريض النفس لاحتمالات التعذيب. ولكن هل تنطوي هذه الأمثولة - حتى في إضمارها - على ما يشير إلى البعد الذي يتطابق فيه المؤلف المضمر مع المؤلف المعلن؟ وهل نتيجة التحليل نفسها تنطوي على آلية دفاعية ذاتية من منظور الراوي الذي يغدو قناعاً للمؤلف المعلن؟ الأمر ممكن، خصوصا حين نضع رواية "العسكري الأسود" في علاقة تاريخية برواية "البيضاء" التي سبقت إلى دخول دائرة المعتقلين السياسيين، ولامست العصب العاري لما يمكن أن يفعله المعتقل بالبشر. ويبدو الأمر ممكناً، كذلك، حين نضع "العسكري الأسود" في علاقة الأمثولات السياسية التي تكررت بعد ذلك، والتي ازدادت إلحاحاً في كتابة يوسف إدريس بعد هزيمة العام السابع والستين، وظهور سلسلة متجاوبة من الأليجوريات التي تبدأ من "العملية الكبرى" ولا تنتهي عند "أكان لا بد أن تضيئي النور يا ليلى؟!". ولكن أياً كانت بعض الظلال الملتبسة التي قد ينطوي عليها هذا البعد من أمثولة "العسكري الأسود"، على مستوى علاقة التطابق بين الراوي - المؤلف المضمر والمؤلف المعلن، فإن بقية أبعاد الأمثولة تظل تشير إلى فظاعة الجريمة الوحشية التي يرتكبها النظام السياسي البوليسي أو العسكري الذي يُوجِد هذا النوع من السجون التي دخلها شوقي، والذي يخلق جلادين من عينة العسكري الأسود، فينتهي إلى التدمير الكامل لإنسانية المواطنين. وتلك إدانة موصولة بالأمثولة التي وردت على لسان شوقي قبيل النهاية، حين فاجأ الراوي بقوله: "أتعرف أنك حين تؤذي غيرك تؤذي نفسك من دون أن تدري".