أول الكلام: للشاعر السوري/ طالب همّاش: - بكى عازف الناي لما رآني... بكاني ونوَّح في وحشة الليلِ لحناً قديماً عن الحب والناسِ والعاشقين الذين قضوا نحبهم في الأغاني! بكاني... وقال: ألم ينته بعد هذا الرحيل؟ فقلت: غيومِيَ تنأى بعيداً وأسمع في البُعد: يبكي كماني!! "الصديق العزيز جداً الى نفسي": خطفته خطواته الى الاسكندرية، ليقدم باقة شجن عاصرته في أيام بلغت فيها الأماني القزحية زمن إنضاج الثمر، وتموّهت فيها الأحلام ما بين الروح وأغاني الحيارى المدلّهين... ويقول لي هذا الصديق "الأصنص": - لم تكن زيارة أيام... لكنها ساعات فاض فيها الشجن حتى كركرة السعداء، واندفع فيها الموج أكثر بياضاً... حتى صرت أتساءل: هل الشجن هو الشجو أحياناً؟!! وفاض "الصديق العزيز جداً الى نفسي" بهذه الكلمات التي همس بها فور عودته: العزيز/ أبو وجدي: منذ زمن بعيد وأنا أبحث في نفسي عن سر تلك الغبطة العارمة التي تنتابني كلما أفكر في السفر الى الاسكندرية... مشاهد متفرقة تنتابني، وصور قديمة تتناثر ألوانها حولي، كأن كلاً منها يشبه لوحة معلقة ضمن إطار صور لأمكنة محددة ولقطات مجردة من الزمان لا يفسدها تعاقب الأيام... كأن الذاكرة تعي جمال الأمكنة قبل الأوقات فتبقى ساكنة! ما إن وصلت الاسكندرية حتى اختصرت ذاكرتي كل تلك الأعوام التي ضاعت... هوت عليّ فجأة مشاهد الصيادين ومراكبهم الشراعية البيضاء حيث تمتلئ أشرعتها بالرياح وتحلق فوقها الطيور الرخامية اللون، وبيوت الاسكندرية المقشرة الواجهات: ترتدي واقفة قناع الزمان القاسي، يسيل من نوافذها المعلقة كأوراق الخريف: ريح البحر الذي يفعل في الدهان ما يفعله... كان يوماً جميلاً رائعاً اختفت فيه الشمس كأنها كانت تدس أحلام الليلة المقبلة تاركة للنسمة الرقيقة حيزاً بديلاً، وكان فحيح عجلات السيارات التي تمضي بسرعة وتغيب وتتعاقب في تردد: يختلط بوشوشة البحر، والحاجز الجرينتي للشاطئ يستحم بمياه الأزرق الممتد الى الأفق... وعلى رغم لهفتي الشديدة للاستمتاع بكل ذلك، والاسترخاء على أقرب مقعد بمقهى على الشاطئ، وارتشاف كوب من الكبتشينو المخلوط بالقرفة، وتدخين الغليون، إلا أن الشوق إلى بعض الأماكن المحددة كان يعوي في داخلي... تعمدت هذه المرة أن أشتري كل ما يذكرني بالاسكندرية... كنت أقاتل الوقت لأصل قبل أن يهبط الظلام، ويقفل مكان صغير عزيز عليّ يبيع التبغ... تعودت على أن آتيه كلما أتيت الاسكندرية: محل في حجم حبة قمح له رائحة أليفة مضمخة بالتبغ والموج والسيجار، يملكه عجوز اسكندراني ممن يبيعون الوقت بالضحك! وصلت المكان ليقابلني البائع بابتسامته الفطرية كأنها إعلان أخضر يرفض أن يموت... وجّه لي دعوة مجانية أن أجرب خلطة جديدة من التبغ اخترعها هو... قبلت الدعوة وبخرت له المكان ببعض الأنفاس، ورسمت له المدى بزفرتين... لقد توقف هذا الرجل عن التدخين منذ فترة طويلة لأسباب صحية، وبقي له من الزمن أن يشعل زبون أمامه بين الزمن الضائع والزمن الميت غليوناً أو غليونين... تحول العادي عنده الى مقدس، ثم عدت من حيث أتيت!! للمدينة هذا المساء مذاق السكر... كان البحر سجادة كبيرة زرقاء، أشرعة الصيادين تجري خلف العصافير العارية كأنهم يذهبون الى اللامنتهى الحالك الزرقة، يصيدون الأفق... عبير أنفاس البيوت القديمة يختلط برائحة المعسل وطرقعة الجمر في المقاهي الساحلية حيث لا يملّ الناس هناك من التحديق في البحر... هل تعلم أين ذهب الساحل في بلادي؟! يقولون ان جسد المدن الساحلية واحد/ جسد مباح، هل تعتقد أن ذلك ما حصل للساحل عندنا؟!! سكنت هذه المرة في قصر تدور حوله حديقة أقصى مدى عينيك لا تنتهي إلا الى خضرة ومياه زرقاء ونخيل نيء... تشكل حديقة القصر مقصداً مميزاً للعشاق والرومانسيين ممن يبحثون عن نبضات قديمة وأغانٍٍ قديمة، يتناثرون في المكان متدثرين بالحب كأنهم يقولون للمارة: انه ما زالت هناك احلام لم يدنسها الانسان بعد... لقد شاخ القصر بفعل السنين كراحة يد كل مسن، إلا أن العز ظل صديق الأشياء كلها، أصبح القصر مخطوطاً قديماً أنيقاً مفتوحاً لكل نزيل، يمكن قراءته عن عصر مات ولكنه كان لصاحبه من أجمل العصور... كانت بصحبتي "ياسمين" وسيدة ايرلندية، وأخرى من جنوب افريقيا... كان كل منا يدافع عن بهجته بعنف كما يدافع الانسان عن لغته الأم ضد كلام دخيل، فعمر الأشياء الجميلة قصير... لقد تحررت الروح هناك من ثقلها، واستمتعنا بالزهرة المائية التي تتغذى بالليل والسكون وضوء القمر والبحر، وأمضينا أياماً أكثر وداعة من حمامة على كتف تمثال! غداً سيكون فرح خاص، سأكتب لك عنه بالتفصيل، عندما أجد وقتاً لذلك!!