} إمتزجت الذاكرة بالواقع المعاش في وجدان ملايين الفلسطينيين الذين أحيوا الذكرى الثالثة والخمسين ل"نكبة فلسطين" والتي تخللتها اشتباكات مع الجيش الاسرائيلي اسفرت عن استشهاد ثلاثة فلسطينيين، اضافة الى مقتل ناشط من "حركة المقاومة الاسلامية" حماس في عملية اغتيال اسرائيلية. في 15 أيار مايو عام 2001 لم تكن هناك حاجة لجيل النكبة الاول الى ان يتحدث للاجيال التالية عما حدث للقرى والمدن الفلسطينية من تدمير وتهجير ولجوء وخوف وبطش وقتل، فالمشهد ذاته الذي دون بالابيض والاسود على نطاق محدود، يشاهد ويعايش اليوم من جانب الفلسطينيين وبالالوان التي طغى عليها الاحمر والاسود. ووقف الاف الفلسطينيين ظهر امس في الساحة الرئيسة وسط مدينة رام الله، كما في الساحات الاخرى في المدن والقرى الفلسطينية، ثلاث دقائق صمت حدادا على يوم نكبتهم واكبارا لمن سقطوا على الدرب. الكبار يعلقون على صدورهم علم فلسطين وشارات سوداء ويحملون صور شهداء منهم الرضيعة ايمان حجو، والصغار يقفون جنبا الى جنب، كل يحمل اسم بلدته او قريته التي دمرت قبل اكثر من خمسة عقود ومفاتيح البيوت التي اقفلت على عجل تحت وقع الموت والارهاب. الحناجر لم تتعب من ترديد الاناشيد الوطنية ... وعلى طول بنايتين كبيرتين متقابلتين تزاحمت عليهما صور الشهداء والشعارات، علقت لافتتان كبيرتان كتب على الاولى "شدي حيلك يا بلد" ... وعلى الاخرى "جاي النصر جاي الحرية". ووجه الرئيس ياسر عرفات في كلمة مسجلة انتقادا علنيا لاميركا عندما قال ان الدول المسيطرة والمهيمنة في المجتمع الدولي توفر الحماية للاحتلال الاسرائيلي وتكيل بمكيالين. وشدد على الثوابت الوطنية، متمسكا ب"جلاء الاحتلال ومستوطنيه" والقدس وعودة اللاجئين وتقرير المصير وما ان انهى عرفات كلمته، حتى توجه الالاف الى "ساحة الشهداء" على المدخل الشمالي لمدينة البيرة يهتفون "يسقط غصن الزيتون في وجه الاحتلال". ولم تمهل الرصاصات التي انطلقت من فوهات بنادق جنود الاحتلال الاسرائيلي المنصوبة على اسقف الجيبات العسكرية، المتظاهرين الغاضبين طويلا، فما ان شرع الشبان في رشق الجنود بالحجارة، حتى كان ازيز الرصاص يحوم فوق الرؤوس بينما الرصاص ذاته يخترق الاجساد الشابة، فاستشهد الفلسطيني عبد الجواد خليل شحاده الذي جلبه القدر من غزة ليسقط على ارض الضفة الغربية، تلاه شهيد آخر برهان فهيم الشخشير وبعده جرح أكثر من 30 شخصا معظمهم في النصف العلوي من الجسد وصفت اصابات ثلاثة منهم بانها خطرة. في لحظة هدوء نادرة، وقف مراسل القناة الاولى للتلفزيون الفرنسي بيرتراند أغير ليسجل خاتمة لقصته في يوم النكبة امام الشبان، وفي اللحظة التي انهى بها حديثه انطلقت رصاصة قناص وحيدة باتجاه صدره واخترقت سترته الواقية التي انقذته من موت محقق. وأكد المراسل ل"الحياة" ان حياته كانت هدف القناص، فيما علق احد زملائه: "لا يستطيعون تزوير التاريخ كما فعلوا مرة، فاصبح الاعلاميون هدفا آخر لهم". ليس بعيدا عن "ساحة الشهداء" اشتبك الفلسطينيون من "داخل الخط الاخضر" اسرائيل ومعهم الفلسطينيون المقدسيون مع قوات الاحتلال الاسرائيلي على الحاجز العسكري الاسرائيلي الذي يفصل مدينة القدس عن مدينتي رام الله والبيرة، حيث وقع اكثر من 20 جريحا من بينهم مسؤول ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية فيصل الحسيني والنائب العربي في الكنيست احمد الطيبي جراء استنشاقهما الغاز الخانق. وحصد يوم احياء النكبة، التي يجمع الفلسطينيون انهم يعايشونها من جديد في هذه المرحلة، أربعة شهداء واكثر من 150 جريحا وصفت جراح العديد منهم بانها خطرة حيث لم يوفر جنود الاحتلال رصاصهم الحي لما بعد اطلاق الرصاص المطاط او القنابل الغازية، بل بادروا الى استخدامه منذ اللحظات الاولى لمواجهة المسيرات الاحتجاجية. وفي الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون يحيون ذكريات المعاناة والالم والتشرد، كانت قوات الاحتلال تقتحم مزيدا من الاراضي الفلسطينية وتغتال المزيد من كوادر الشعب في قطاع غزة والضفة، وتدب الرعب في قلوب المدنيين الآمنين الذين قصفوا بالرشاشات الثقيلة والقذائف المدفعية كما حدث في غزة ... وتطلق النار على الفلسطينيين على الحواجز العسكرية كما حدث قرب نابلس. ففي قطاع غزة، انتهت مراسم احياء ذكرى النكبة بسقوط شهيدين وعشرات الجرحى، فيما جابت مسيرات حاشدة شوارع المدن والقرى والمخيمات. وألقى سقوط شهداء بيتونيا الخمسة وذكرى النكبة بظلال كثيفة من الحزن والغضب على المتظاهرين الذين حملوا الاعلام الفلسطينية ومفاتيح لمنازلهم التي هجروا منها في مثل هذا اليوم من العام 1948 الذي قامت فيه اسرائيل. وفي مخيم الشاطئ في غزة، سار الفلسطينيون باتجاه باحة المجلس التشريعي في المدينة حيث تجمعت المسيرات كلها وحيث أنهى أكثر من 50 فناناً تشكيلياً صباح أمس رسم جدارية ضخمة بطول 53 متراً، يعبر كل متر منها عن سنة من عمر نكبة فلسطين، وتتناول مآسي اللاجئين الذين ما برحوا يقيمون في مخيمات تنتشر في الضفة وغزة ودول الطوق المحيطة في فلسطين وسط حال غير مسبوقة من الفقر وانتشار معدلات البطالة المرتفعة، ومخيمات تفتقر الى أدنى المقومات الانسانية. وتصاعدت حدة التوتر في شوارع قطاع غزة، في أعقاب تناهي انباء سقوط الشهيد الأول عبد الحكيم المناعمة 35 عاماً، الذي قتل جراء اطلاق صواريخ "أرض - أرض" على سيارة كان يستقلها مع عدد من ناشطي "حركة المقاومة الاسلامية" حماس قرب "الخط الأخضر" الفاصل بين اسرائيل وقطاع غزة. وتوجه الشبان الى بؤر التوتر ومناطق الاحتلال، في محيط المستوطنات والحواجز العسكرية الاسرائيلية المنتشرة في قطاع غزة، حيث دارت اشتباكات بينهم وبين قوات الاحتلال أسفرت عن اصابة العشرات وسقوط شهيد آخر هو محمد أبو جاسر 17 عاماً قرب حاجز بيت حانون. واشارت مصادر فلسطينية واسرائيلية شبه متطابقة الى أن المناعمة قتل أثناء اطلاق قذائف "هاون" على كبيوتس "ناحال عوز" شرق مدينة غزة عندما رصدتهم قوات الاحتلال واطلقت نحوهم صاروخين من طراز "أرض - أرض"، فاصابت السيارة وقتل المناعمة واصيب آخر، فيما فر آخرون من المكان. وشيعت جماهير غفيرة المناعمة مساء أمس. كما شيعت شهداء بيتونيا الخمسة. ووصف الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي في حديث ل"الحياة" قتل المناعمة بأنه عملية اغتيال، وتوعد بالانتقام لدمائه ودماء الشهداء. وسادت اجواء من الاحباط والسخط شرائح واسعة من فلسطينيي 1948 حيال عدم اهتمام قادتهم باحياء ذكرى النكبة، اذ لم يبادروا الى اي نشاط جماهيري او احتجاجي ملحوظ واكتفوا باصدار بيان الاسبوع الماضي اعلنوا فيه دقيقة حداد من دون ان يحددوا كيفية تنفيذ ذلك.