درس خالد الساعي الخط على إخوته، ثم تابع دراسته في كلية الفنون الجميلة في دمشق، وفي جامعة معمار سنان في اسطنبول. واستطاع في فترة قصيرة ان يؤسس لأسلوب متفرد يعمل على صياغة مقدمات فكرية له تؤهله لأن يكون مدرسة في لوحة تستفيد من تقنيات الخطوط التقليدية، وعناصر اللوحة التشكيلية، لكن ليس المزج بين التشكيل والخط، فذلك برأيه يمس أصالة الخط العربي كفن شرقي صرف. هل تعتقد ان ازدهار الخط العربي والأرابيسك والزخرفة، على حساب النحت والتصوير، كان فقط بسبب تحريم الأخير في الإسلام، وما موقع الخط العربي الآن من الفنون اللونية الأخرى؟ - مسألة تحريم النحت والتصوير ليس مشكوكاً فيها وحسب، بل هي غير ثابتة، فمقولة إنما الأعمال بالنيات تنقض التحريم، فعندما تكون النية عمل شيء مواز للخلق، بمعنى الشرك بالله، فهذا شيء، وأن تقصد بعملك خيراً وجمالاً، فهذا شيء آخر. والحديث يقول: إن الله جميل يحب الجمال، وهو حديث غير ثابت أيضاً، لكن الجمال من صفات الله، كما هو الجلال، وعليه فإن العمل في ميداني النحت أو التصوير أو سائر الفنون، عندما يقصد به الجمال فهو نوع من التسبيح. كما أنني لا أنظر الى التحريم كموجِّه للخط العربي، فقد قامت في العهد العباسي مدارس للرسم مثل مدرسة محمود الواسطي، ومدارس البعد الواحد، وكان الاتجاه تقديس الحرف والكلمة، استمراراً لعهود قبل الإسلام... وفي قول يوحنا المعمدان في البدء كان الكلمة تدليل على ذلك، وبكل الأحوال كانت عملية التفاعل وتفعيل الحرف العربي مع الدين الإسلامي مسألة خلاقة فنياً، ويمكن تشبيه ذلك بالفن الخدمي الكنسي، الذي كان فناً إرسالياً توجيهياً، أو رسماً تثقيفياً توجيهياً، مع فارق أن الخط فن مجرد، وهذا يطلق العنان للصورة أكثر، فعندما ندخل الى جامع فيه كتابات ندخل الى جو روحاني لا تدخل فيه الصورة أو الشكل، حتى الزخارف التي ازدهرت مع الإسلام، تأخذ مرجعيتها من الشكل المربع أو الهندسي المكسر والشكل المقوس، وهذا نوع من التسبيح، بتعبيره عن اللانهائية، ومن الدائرة اشتُقَّ الحرف العربي والزخرفة، وكل منها يصب في مفهوم الدائرة. مكانة الحرف العربي تأتي من القرآن كراماً كاتبين، والله يقسم بالقلم في سورة القلم، ولذلك كانت للحرف مكانة عالية في الإسلام، ففي عهد السلاطين العلمانيين، كان السلطان يحمل المحبرة للخطاط الحافظ عثمان. والخطاطون هم أنفسهم مدونو العلوم، ومحمد عزت الخطاط كان شيخ العلماء، فارتبط العلم بالخط دلالة على مكانة الخط الرفيعة... ثم إن سويات الخطوط مختلفة، فهناك درك أعلى، وخطوط ذات سويات أخرى، فخط الرقعة سريع يستخدم في المعاملات اليومية، والخط الديواني خط الحب والغناء، والفارسي خط الحكمة والروحانيات، والثلث والنسخ للقرآن والنسخ والخطوط المساجدية، والكوفي خط الزخرفة، فكل نوع من الخطوط يتمايز عن الخطوط الأخرى بنوع من الاختلاف البصري، وأرى أن للحرف العربي مكانة خاصة جداً، لكنه يعاني في المئة سنة الأخيرة دخول الحضارة الأوروبية عليه بشكل سافر، كما على باقي الفنون، مما زعزع الثقة بالموروث، وأصبحنا نلجأ الى الفن الأوروبي كشرعية... وهناك رجعة الى الخط في الخمسين سنة الماضية، والغريب أن يأتي ذلك من أوروبيين مثل بولكلي وهوفر ومستشرقين آخرين فقامت مدارس للخط في الإمارات العربية المتحدة، وظهرت مجلات جادة تهتم بنقد الحرف، والأهم الذي نعتز به النظرة الى الخطاط في الشرق بما يوازي الفنان في أوروبا، بعد ان كان ينظر إليه كحرفي أو مهني. الواسطي ذكرت الواسطي في العصر العباسي، هل ترى أن رسومه المسطحة تأثرت بالنظرة الى التصوير أيضاً؟ - شرعية الفنون الشرقية قائمة وعميقة، ولا تقل عن شريعة الفنون الأوروبية، ولكل منهما نبضه وعالمه الخاص. عند الواسطي كان للعمل على المخطوطة والرسوم التوضيحية فلسفة خاصة وعميقة جداً، فالمنظور الأوروبي ثلاثي الأبعاد، وأما عند الواسطي فالمنظور حلزوني أو دائري، وهنا الخصوصية التي تصب في دائرة الوحدانية والتسبيح. مشى الفنان الأوروبي طريقاً طويلة جداً باتجاه محاكاة الواقع، لكن الفنان الشرقي اقتنص ما يريده من الواقع منذ البداية، وأظهر مقدرة عالية على التجريد، ولو أراد التشبيه لأجاد ذلك، فالواسطي كان يكتب ويرسم بالريشة نفسها، فيعيش المناخين في آن معاً. لكنّ التحريم الذي شككت في روايته الإسلامية يجد تصديقاً في فن الأيقونة المسيحية، فهي ببعدين فقط أيضاً. - لا أرى تحريماً في الإسلام أو المسيحية، فالرسوم الكنسية التي تمثل حادثة إنزال المسيح عن الصليب تتجاوز الألف، رسمها الهولندي رامبرانت، والإسباني ألجريكو. وكل فنان له منظور خاص بهذا الحدث، وهناك فنانون أوروبيون تخيلوا برج بابل ورسموه. فالبصيرة لها دور في الفن، وقد عمل الفن الكنسي على ترسيخ التعاليم الدينية، وبقي أميناً لذلك حتى الآن، ومن ذلك فرسكة قبة الكنيسة الستينية سيكستين القيامة في الفاتيكان، وقيامة المسيح، والأعمال النحتية عن درب الآلام. هذا فن يصب في مصلحة الدين، مثل الشهادة في الجامع، أو كلما دخل عليها زكريا المحراب أو مثل أن نقرأ اسماء المبشرين بالجنة وأسماء الصحابة، نشاهد الفن الكنسي، وكلاهما فن روحي توجيهي. أحد اهتماماتك التصوف. ماذا ترى من علاقة بين الخط والتصوُّف؟ - الحرف هو تقشف الشكل، وقد يكون هذا صعباً في التلقي، لكن عندما تقرأ كلمة كتاب، يصل الى ذهنك شكل الكتاب من دون حاجة لأن تراه، والخط تقشف النطق، فالعربية استمدت شكل الحرف من مواضع نطقه في الفم، والباء مثلاً من الأحرف المجهورة أو الشفوية التي تبدأ من بداية الفم، وباء مأخوذة من شكل البيت، والتاء لها نقطتان لأن لها حركتين، وقد عُنِيَ ببحث ذلك إخوان الصفا، وتحديداً علاقة النطق والموسيقى بالحرف العربي، فحرف الألف أ عندما نلفظه، فلفظه يدل على استقامته، وحرف الهاء مأخوذ من شكل الالتفاف الحلزوني للأذن، والحركة في اللفظ والصوت تدل على الالتفاف، وهناك أشكال كثيرة في الحرف العربي مستمدة من الواقع، ولكن مكثفة ومخزنة بشكل مبطن. والصوفية هي الشيء الباطني، وليس العلني، فحرف العين، مثلاً، مأخوذ من رأس العين، ويشبه الحاجب البشري، وهناك العين الفنجاني المأخوذ من شكل الفنجان، فشكل الحرف معروف ولكن باطنه يدل على أصله، والصوفية شكل مضمونه التوحيد، وكما تعطيك الكلمة والعبارة صورة هي بوابة المعنى، كذلك يدل تقشف العبارة الصوفية على الحقيقة الأولى. لوحاتك ليست مجرد خط، هي لوحة، لكن فيها فرادة، أم أنك تتلمذت على هذا الأسلوب؟ - أجزم أنه أسلوب خاص، وقد عملت وأعمل في مشروعي على شيئين، فن تشكيل الرسم بأبعاده الثلاثة، وعلى مفهوم العناصر الأربعة، الماء والهواء والنار والتراب، كما اهتممت بالتكوين المادي الأوروبي، فدرست أكاديمياً في اسطنبول تشريح الخط وكيفية التعامل معه، وتوصلت الى تشكيل "دمجة خاصة"، غايتها: "كيف ينبض الحرف العربي في زمننا هذا، وكيف يعيش؟ لا تستخدم الحبر الأسود في لوحاتك، وهذا غير معتاد. ما دلالة ذلك؟ - أريد من ذلك ان يتخلل الحرف النور، ولا أريد حرفاً أعمى مسطحاً، فعندما يمشي القلم أو القصب الذي أعمل به، يمشي تاركاً فسحة نور، بحسب ما يقتضيه التشكيل ونظام اللوحة، فالنور يتخللها من الداخل، وليس مسبغاً عليها من الخارج، فالحرف كما يقول ابن عربي "عوالم تُحدد"، فهناك أحرف باردة، وأخرى ساخنة، وهوائية وترابية، وبالنتيجة هي عالم مواز لعالمنا، له ظروفه، ولا يمكن أن أكتب ذلك بالحبر الأسود، لأن كتابته ملوناً تعطيه نبضاً خاصاً، له حرارته أو برودته، وله توهجه في النص الأول ستأتيك ناري ويأتيك خبري أو النار سيدة الحديث عن الخشب... هذا يفتح مواكبة بين النص وشكله، وحتى المتلقي الغربي الذي لا يعرف العربية يستطيع قراءة اللوحة، فيصله وهج النص ومحتواه، وبذلك نتجاوز قراءة المعنى اللغوي باتجاه فن حروفي له لغته الخاصة ومدلوله خارج اللغة. وماذا عن استخدامك للشكل العمودي في لوحاتك اكثر من الأفقي؟ - استفدت في ذلك من الحرف الياباني، فللديانة البوذية شكل عبادتها التصعيدي، وحركة العابد البوذي شاقولية فيتوسل بيدين تفران الى السماء. كانت الكتابة اليابانية من الأعلى الى الأسفل شاقولياً، واختلفت الآن لتصبح كالإنكليزية من اليسار الى اليمين، وفي طريقتها الأولى كانت أجمل. لكنني لا ألتزم هذا النوع، فبعض لوحاتي دائري، وهذا يتطلب من قارئ العبارة الصوفية الدوران حول اللوحة، وكأنه يمارس طقساً صوفياً، فيصبح مع اللوحة في وحدة حال. كذلك ينفرد عمق لوحتك البعد الثالث، عن مألوف الخط العربي. - هذا صحيح، فالسطح وحده لا يعنيني، وإنما أركز في عملي على الأبعاد الثلاثة، وفي ذلك تثوير للحرف العربي، ومن المهم ان نفهم أن الحرف العربي والشرقي موجود في المنتجات البصرية كالسجادة والبساط والأواني الخزفية، كما يوجد على مفتاح البيت يا فتاح، أو أدوات الرزق "الرزق على الله"، أو الأواني...