رصد مسيرات بالقرب من مسار رحلة زيلينسكي إلى دبلن    واشنطن تستضيف قرعة كأس العالم 2026 اليوم    آل جارالله عضواً بلجنة إصلاح ذات البين بسراة عبيدة    أمير جازان يؤدي واجب العزاء لأحد أفراد الحماية في وفاة شقيقته    ملامح الخليج القادم    موجة حر شديدة تضرب سيدني    ميزانية 2026.. المواطن أولاً في مسيرة التنمية    ب 56 ميدالية .. السعودية تتصدر العالم في بطولة كمال الأجسام    هدف متأخر يقود سوريا لتعادل مثير مع قطر في كأس العرب    بدأ العد التنازلي.. أقل من 30 يومًا تفصلنا عن انطلاق رالي داكار السعودية 2026    ارتفاع أسعار النفط بعد هجمات أوكرانية استهدفت بنية تحتية روسية للطاقة    وزير التعليم يؤكد استمرار تطوير التعليم في تبوك وتعزيز البنية الرقمية وتهيئة البيئة التعليمية    من ذاكرة الطفولة    معركة الرواية: إسرائيل تخوض حربا لمحو التاريخ    منتدى القطاع غير الربحي الدولي بالرياض.. خارطة طريق لتعزيز الاستدامة والابتكار في القطاع    غداً .. "الأخضر تحت 23 عاماً" يفتتح مشواره بمواجهة البحرين في كأس الخليج    محافظ صبيا المكلف يرعى حفل "اليوم العالمي للتطوع 2025"    والدة اللواء ال دخيل الله في ذمة الله    "بيرنيز" تفوز بجائزة PRCA MENA 2025 لأفضل حملة علاقات عامة لمشروعٍ عقاريٍّ في السعودية    نائب أمير الشرقية يطلع على عدد من الجوائز والاعتمادات العالمية لتجمع الشرقية الصحي    الأسهم العالمية ترتفع، والدولار يتجه لأطول سلسلة خسائر منذ 50 عام    سفير المملكة في الأردن يرعى حفل ذوي الإعاقة في الملحقية    السودة للتطوير والشركة الوطنية لنقل الكهرباء توقعان اتفاقية بقيمة 1.3 مليار ريال لإنشاء البنية التحتية الكهربائية لمشروع قمم السودة    تحت رعاية خادم الحرمين .. العرض الدولي الثامن لجمال الخيل العربية الأصيلة ينطلق في التاسع من ديسمبر الجاري بالرياض    نوفمبر دوري يلو".. غزارة تهديفية في 4 جولات    مفتي عام المملكة يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة الإذاعة والتلفزيون    الهيئة العامة للمحكمة الإدارية العليا تقرر اختصاص المحاكم الإدارية بنظر الدعاوى المتعلقة بمزاولة المهن الصحية    مفردات من قلب الجنوب ٣١    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    مُحافظ الطائف يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمحافظة    "يونا" تستضيف اجتماع الطاولة المستديرة حول التعاون الإعلامي بين روسيا ودول منظمة التعاون الإسلامي    تحت رعاية خادم الحرمين ونيابة عنه.. أمير الرياض يكرّم الفائزين بجائزة الملك خالد لعام 2025    أكد معالجة تداعيات محاولة فرض الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يعتذر عن الأخطاء تجاه «الشمالية»    آل حمدان يحتفل بزواج أحمد    ضبط 760 كجم أسماكاً ودواجن فاسدة بعسير    "بر الرياض" تعقد جمعيتها العمومية وتطلق هويتها الجديدة وخطتها الإستراتيجية 2030    محافظ جدة يدشن معرض المنتجات الغذائية و«خيرات مكة»    تسحب الجمعة في واشنطن بحضور كوكبة من المشاهير.. العالم يترقب قرعة مونديال 2026    جمعية لمصنعي الآلات والمعدات    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    سمر متولي تشارك في «كلهم بيحبوا مودي»    معرض يكشف تاريخ «دادان» أمام العالم    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    تعاون سعودي – كيني لمواجهة الأفكار المتطرفة    الناتو يشعل الجدل ويهدد مسار السلام الأوكراني.. واشنطن وموسكو على حافة تسوية معقدة    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    ابتكار علاج صيني للقضاء على فيروس HIV    الكلية البريطانية تكرم الأغا    هرمونات تعزز طاقة المرأة العاملة    افتتاح متحف زايد الوطني في أبوظبي    قمة خليجية- إيطالية في البحرين لترسيخ الشراكة    نقاط خدمة جديدة لحافلات المدينة    إقحام أنفسنا معهم انتقاص لذواتنا    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    الطلاق الصامت.. انفصال بلا أوراق يُربك الأسرة    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    أضخم منصة عالمية للاحتفاء بالحرف اليدوية.. «الثقافية» تمثل السعودية بمعرض أرتيجانو آن فييرا    رجل الدولة والعلم والخلق الدكتور محمد العقلاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"المحكمة الجنائية الدولية هدية من السماء لانصافنا". القاضي فؤاد عبدالمنعم رياض ل"الحياة": نحاكم الأفراد على جرائمهم ولا نحاكم الدول أو الشعوب
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 2001

مرت سبع سنوات على تأسيس المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلاغيا السابقة. وهي ثاني محكمة من نوعها بعد "نورمبرغ"، ولكنها تتميز عن محكمة النظام النازي بكونها تعبر عن ارادة دولية لمعاقبة مقترفي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولبى تأسيس المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا حاجة ماسةً على المستوى الدولي الى الاقتصاص من مقترفي مثل هذه الجرائم. وكانت اول محاولة مماثلة في التاريخ حصلت في اعقاب الحرب العالمية الأولى، إذ نصت معاهدة فرساي عام 1919 على انشاء محكمة دولية لمحاكمة قيصر المانيا فيلهلم الثاني لارتكابه "جرائم كبرى ضد الضمير العالمي"، الا ان المحكمة لم تر النور بسبب رفض هولندا تسليم القيصر الذي التجأ اليها.
بعد سبع سنوات على انشائها نجحت المحكمة نجاحاً كبيراً في اداء عملها، بل غيرت من سلوك السياسيين المعاصرين وشكلت قوة ردع اساسية لارتكاب جرائم ضد الإنسانية. أما بالنسبة الى المتهمين المطلوبين للمحكمة الآن، ممن تلطخت ايديهم بدماء الأبرياء من ضحايا المجازر، فقد اصبح وجودها كابوساً يلاحقهم ويضيق الخناق عليهم يوماً بعد آخر. جاء استحداث المحكمة من جانب مجلس الأمن في خضم العقد الأكثر سواداً في تاريخ البشرية: عقد التسعينات. فخلال سنواته شهد العالم اكبر عدد من المآسي، بدأت بتفتت الدولة الصومالية وما أعقبه من سفك للدماء بعد انفلات الوضع الأمني للبلد، وتلاه انفراط عقد الاتحاد اليوغوسلافي وما جرّه من حروب ومجازر في البوسنة والهرسك منذ عام 1991. واستمر الأمر بأفظع مجزرة شهدها المجتمع البشري في رواندا عام 1994، والتي فتك فيها قسم من السكان بالقسم الآخر، واختتمت سلسلة المجازر بما حصل من فظائع في اقليم كوسوفو اواخر عام 1999 حيث شهد العالم يوماً بيوم وعلى شاشات التلفزيون وبالعرض البطيء، تنفيذ سلطات ميلوشيفيتش عمليات تطهير عرقي للأقليم من الألبان المسلمين وما رافقها من قتل وتدمير للمنازل. وبين هذه المجزرة أو تلك واصلت اسرائيل خلال العقد ذاته عدوانها على الشعب الفلسطيني، وهو عدوان شهد منذ عام تصعيداً يومياً ينذر بالانفجار والتحول الى مذبحة كبرى كتلك التي تنظر فيها المحكمة الجزائية ليوغوسلافيا حالياً. ومع ترسخ اقدام المحكمة على المسرح الدولي توسعت اقسامها وزادت ميزانيتها السنوية من ربع مليون دولار عام 1993، الى حوالى 100 مليون للسنة الحالية. وبعد اقل من سنتين على تأسيسها وتعرضها لحملة منظمة ساهمت فيها أطراف عديدة، تنتقص من جديتها وشرعيتها وجدواها، تم تشكيل محكمة مماثلة لجرائم رواندا. وقبل ان تأتي نهاية القرن العشرين توصل المجتمع الدولي الى اقرار انشاء "المحكمة الجنائية الدولية الدائمة" التي تنتظر الشروع في عملها قريباً.
في لاهاي، حيث مقر محكمة جرائم الحرب الدولية في يوغوسلافيا، التقت "الحياة" القاضي الدولي المصري فؤاد عبد المنعم رياض، عضو هيئة المحكمة، الذي واكب تطور عمل المحكمة منذ تأسيسها، وتحدثت اليه عن الاستحقاقات المستقبلية للمحكمة والعقبات التي تواجهها، اين نجحت وأين اخفقت؟ والقاضي رياض شخصية قانونية دولية مرموقة عمل في مختلف المؤسسات القانونية الدولية كالوكالة الدولية للطاقة النووية في فيينا، وتولى رئاسة اللجنة العامة لقانون المعاهدات التابعة للأمم المتحدة. كما امضى سنوات طويلة في تدريس القانون في جامعة القاهرة حيث اصبح رئيساً لقسم القانون الدولي حتى نهاية التسعينات. وقام كذلك بالتدريس في اكاديمية القانون الدولي في لاهاي وفي جامعات فرنسا واميركا قبل توليه عام 1995 منصب قاضٍ في الغرفة الأولى للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا.
وينطوي الحديث مع القاضي رياض على اهمية خاصة، اذ انه احد ابرز القضاة المرشحين لإدارة ملف محاكمة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش عند مثوله امام المحكمة، إذ يسود اجواء المحكمة حالياً مناخ متفائل بإحضار ميلوشيفيتش الى لاهاي في وقت قريب، قد لا يتجاوز نهاية العام الجاري، كما تقدر مصادر قانونية وسياسية متخصصة. وهنا نص الحديث:
ماذا قدمت المحكمة من حلول ومعالجات لجروح الوجدان البشري في البوسنة والهرسك وكوسوفو، واي دروس اعطت، في النهاية، للديكتاتوريات ومشعلي الحروب من امثال ميلوشيفيتش وكاراجيتش وملاديتش؟
- اولاً يمثل القانون الأساسي للمحكمة اول قانون جنائي - اجرائي دولي، وهي نجحت في التحول الى عنصر ردع عملي واخلاقي لكل من يفكر ان بوسعه ان يعبث بأرواح الناس، ويستغل شعبه لإبادة شعب آخر. كما انها اول تجربة حقيقية لانشاء قضاء جنائي دولي على اسس سليمة تعبر عن مصالح المجتمع الدولي. ولكن دعني اقول لك: انني كقاضٍ كإنسان اعتقد ان هذه السابقة تعتبر اهم طفرة في تاريخ البشرية والمجتمع الدولي. لماذا، لأن المجتمع الدولي كان يبدو محكوماً بشريعة الغاب مقارنةً بالمجتمعات الداخلية للدول، فمن يسرق رغيفاً او يقتل شخصاً فيها يحاكم ويسجن، بينما لا يتعرض مرتكبو المجازر ضد شعبهم او الشعوب الأخرى للمحاسبة. هذا الكلام قال عنه الشاعر: قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ/ لا تغتفر وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر!/ الآن اصبح الاعتداء على الشعوب الآمنة جريمة لا تغتفر ايضاً.
ثم هنالك درس آخر قدمته المحكمة وهو انها تحاكم من وجهة نظر القانون الدولي وباسم المجتمع الدولي وليس باسم الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وهم يحاكمون ألمانيا ونظامها النازي المهزوم في نورمبرغ. ومن هذا المنطلق فإننا نحاكم دولاً خرجت من حروبها "منتصرة" كما صربيا، أو مواطني دول اخرى استقلت بذاتها عن يوغوسلافيا السابقة. فضلاً عن ذلك لم تقتصر صلاحيات المحكمة على جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، بل انها اعادت تعريف وتوسيع معنى تلك الجرائم، فأصبح الاغتصاب والانتهاكات الجسدية جرائم تشملها صلاحيات المحكمة. ففي المحكمة الراهنة وجدنا ان في حالات كان القصد فيها من الاغتصابات التي حصلت يرقى الى محاولة ابادة الجنس الآخر، كأن يغتصب المعتدون نساء البوسنة ويمنعوهن من الإجهاض قائلين: نريد ان نزرع فيكم البذور الصربية!
ولكن الرأي العام كان يرى انكم، خصوصاً في البداية استهدفتم "صغار السمك" ولم تذهبوا الى اصل البلاء. حاكمتم ضباطاً صغاراً ومديري معسكرات اعتقال او قادة ميليشيات فيما بقي ميلوشيفيتش وكاراجيتش وملاديتش يسرحون ويمرحون، بل ان ميلوشيفيتش صدم العالم بشن حرب اخرى بعد البوسنة والهرسك ومجازرها، في كوسوفو؟
هذا صحيح! ففي البداية لم تكن للمحكمة قدرة على تنفيذ مهمتها لأننا ازاء دول ذات سيادة تحمي المتهمين ويصعب الوصول اليهم أو إلى الوثائق التي تساعد في استكمال ملفاتهم. ولكن كان علينا ان ننطلق من نقطةٍ ما لنثبت مصداقية وجدية المحكمة وطاقمها. ومع الوقت اخذنا المجتمع الدولي بشكل جدي، بل ان محكمة اخرى مماثلة انشئت لمعالجة مجازر رواندا. وامام المحكمة حالياً 99 قضية ويوجد في سجنها التحفظي 37 سجيناً بينهم جنرالات وقادة، بل ان خوف بعض المتهمين دفعهم الى تسليم انفسهم طوعاً ومنهم من كان عضواً في مجلس رئاسي ويخشى بقية المتهمين الخروج من مخابئهم او السفر منذ سنوات طويلة.
ويهمني ان اضيف شيئاً عمن يطلق عليهم تعبير "صغار السمك"، أي المتهمين ذوي الرتب الصغيرة، فرغم ادراكنا اهمية القبض على كبار المسؤولين ومحاكمتهم فإن التجربة اثبتت كم هو مهم للضحايا سواء في البوسنة او كوسوفو ان يروا مرتكب الجريمة ذاته، أي الشخص الذي قام بتعذيب الضحية أو اغتصابها في قفص الاتهام. بل قد يرد لهم ذلك اعتبارهم أكثر من محاكمة القائد الأعلى او الرئيس الذي ليست له صلة به. وشهدت المحكمة حالات مأسوية عديدة حين كانت المرأة المغتصبة تنهض لتشير الى مغتصبها وتقول: هذا هو الشخص الذي اعتدى على شرفي واشكركم على محاكمته.
ولكن لم نتخلَّ عن الرسالة الأساسية للمحكمة وهي: متابعة الرؤساء وكبار مدبري هذه الجرائم. وقد اثبتت الوقائع فعلاً ان لا مهرب ولا مخبأ للمتهمين من العدالة، وسيظلون مطاردين. ان القيمة الردعية للمحكمة تنبع من ان ليس بوسع احد مهما علت منزلته، سواء كان رئيساً لدولة او قائداً لجيش، ان يبقى فوق المساءلة الدولية.
وماذا عن ميلوشيفيتش؟ فالقيادة الصربية الجديدة تمتنع عن تسليمه للمحكمة وهي تحاكمه في بلغراد لجرائم ليست لها علاقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بل تقتصر على الاختلاسات والفساد؟
- ان نظام المحكمة الذي أرساه مجلس الأمن يبيح لكل دولة ان تقوم بدورها بمحاكمة من يرتكب جرائم حرب او جرائم ضد الإنسانية. ولكن هذا الانفراد لا يمنع المحكمة الدولية من مطالبة هذه الدول بتسليمه إليها. وبعبارة اخرى فإن الأسبقية تكون دائماً للمحكمة الدولية على المحاكم الوطنية. ويحق للمحكمة ان تعيد المحاكمات التي تجريها الدول لمتهمين اذا وجدت انها كانت مرتبة وملفقة او انها تضمنت احكاماً هزيلة لا تنسجم مع جدية جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية.
ولكن دعني اقول ان ما يجري حالياً في صربيا يبشر بالخير، ففي النهاية يمكن ان تكشف محاكمة ميلوشيفيتش عن طبيعة هذا الشخص وتحط من قيمته امام ابناء شعبه الذي قد يكون مضللاً بالإعلام المنحاز له، واذا حصل ذلك فهو لن يلقى مساندة من احد.
ولكن رئيس جمهورية صربيا كوشتونيتسا يتذرع بأن القانون الوطني يمنع تسليمه الى بلد آخر؟
- هذا امر غير دقيق، فالمحكمة الدولية ليست بلداً "آخر"، فهي تمثل المجتمع الدولي بأسره، ومرجعيتها يجب ان تسبق المرجعية القانونية المحلية. وبالتالي فإن التذرع بأن القانون الوطني يمنع التسليم لا يسري بمواجهتها. هذا فضلاً عن ان المبادئ المستقرة في القانون الدولي تؤكد على ان أي دولة لا تستطيع التنصل من التزاماتها الدولية بحجة ان دستورها لا يسمح باداء هذا الالتزام. إذ يتعين عليها في هذه الحالة تعديل دستورها، وهذا ما حصل مع عدد من الدول، وهو ايضاً ما وعدت به يوغوسلافيا في المستقبل القريب.
ذكرتم ان ثمة عقبات عملية وسياسية ما زالت تعوق عمل المحكمة، مثل صعوبة جمع الأدلة والحرب قائمة او استجواب الشهود ميدانياً. كما ان المتهمين باقتراف جرائم من اختصاص المحكمة يبذلون قصارى جهدهم لطمس معالمها. كما تشكل ممانعة الدول التي ينتمي اليها المتهمون عقبة في سبيل تسليم المتهمين او تنفيذ الحكم. كيف تعاطت المحكمة مع هذه العوائق؟
- لا يمكن انكار ان المحكمة لا تزال تصطدم بالعقبات الناجمة اساساً عن عدم التزام بعض الدول احياناً بقرار مجلس الأمن الذي يلزم الدول كافة بالتعاون مع المحكمة وتنفيذ كل قراراتها، سواء تلك التي تتعلق بطلب الأدلة او التحقيق الميداني او تسليم المتهمين. غير ان مثل هذه العقبات في طريقها الى الزوال، كما اثبتت الأحداث في الفترة الأخيرة.
أي دول ابدت تعاوناً اوثق معكم، وأيها تمنعت؟
- كل الدول ذات الصلة قدمت دعمها للمحكمة بهذه الدرجة او تلك، الا ان دولاً مثل المانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وانكلترا والولايات المتحدة لم تدخر شيئاً لمساعدة المحكمة. كما ان صربيا سمحت اخيراً بفتح مكتب دائم للمحكمة في بلغراد. ونحن نتفهم اوضاع الحكومة الجديدة ونرى انها تتقدم بسرعة نحو تطبيق التزاماتها الدولية.
من الناحية التقنية - القانونية ما الذي تتميز به المحكمة عن المحاكم التقليدية؟
- ترتكز المحكمة على النظام القضائي الأنكلو اميركي اذا صح التعبير. أي ان القاضي يؤدي دور الحكم بين الادعاء والاتهام من دون ان يتدخل في عمق القضايا او يبادر الى توجيه الأسئلة غير الإجرائية. وهو نظام يختلف عن نظامنا الشرقي او النظام الفرانكوفوني الذي يعطي القاضي صلاحيات واسعة ويمحضه ثقته المطلقة بوصفه المسؤول عن تحقيق العدالة واستخلاص الوقائع عبر المبادرة الى طرح اسئلة. في محكمتنا نجحنا الى حدٍ ما في المزاوجة بين النظامين ليصبح للقاضي دور اكثر نشاطاً.
ولكن نظام عمل القضاة هنا يختلف اجرائياً ايضاً. فالمحكمة لا تلجأ الى المحاكمة الا بعد حضور المتهم. ولا تمارس المحاكمات الغيابية. فدائرة المدعي العام تنحصر مهمتها في التحقيق وجمع الأدلة والقرائن وتحضير ملف الاتهام. ولكن عملها لن يرى النور حتى يصادق عليه احد القضاة الأربعة عشر. وعند ذلك فقط تصدر مذكرة توقيف، ويسمح لهيئة الادعاء العام بأن تعدل لوائح الاتهام مع الكشوفات الجديدة عن قرائن او جرائم بحق المتهم، ولكنها تحتاج الى مصادقة القاضي في المراحل التالية.
وفي ما يتعلق بميلوشيفيتش، هل يمكن للمحكمة أن تصدر حكماً على الدولة الصربية مثلاً كفرض تعويضات للضحايا او للدول المتضررة، وليس على الرئيس كفرد لوحده، كما جرى الأمر بالنسبة الى المانيا بعد الحرب العالمية الأولى؟
- لا، ليس من اختصاص المحكمة ان تحاكم الجماعات السياسية والمعنوية، بل يقتصر عملها على مسؤولية الأفراد وحدهم. وقد حدد مجلس الأمن الدولي هذا الاختصاص تجنباً لنشر بذور أي صراع جماعي ترثه الأجيال المقبلة.
كأول قاضٍ من العالم العربي والاسلامي اين تقع منزلة المحكمة بالنسبة الى منطقتنا، وكيف رأيت استجابتنا لإنشائها؟
- يؤسفني القول ان العالمين العربي والاسلامي قليلا الاهتمام بالمحكمة، وانت اول صحافي عربي يزورني في مكتبي منذ ست سنوات. في حين ان المحكمة، على المديين القصير والبعيد، ذات صلة وثيقة بعالمنا. فمن ناحية اولى غالبية الضحايا الذين تنتصر لهم المحكمة هم من المسلمين، ويتيح انصافهم على هذا المستوى ان يكون رسالة طيبة تسهل وتعزز روح التعاون والثقة بيننا والعالم. كما أن الوجدان العربي لا يزال يعاني بسبب ما يجري على ارضه من جرائم ضد عرب فلسطين ومن المهم جداً ان تكون هناك محكمة دولية في المدى الطويل لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم.
واسمح لي ان أناشد على صفحات جريدة "الحياة" بقية الصحف ووسائل الإعلام العربية ان تسهم في نشر الوعي بحقوق الإنسان وبحقيقة ان المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة هي هدية من السماء جاءت لإنصافنا اذا ما احسنّا استيعاب دروسها.
ولكن هل تتصور انه سيجيء اليوم الذي سيكون بوسعنا فيه ان نضع مجرمي منطقتنا والمعتدين على الشعوب فيها في قفص الاتهام؟ وما هو الشكل العملي الذي تعتقد انه مناسب لتحقيق ذلك؟
- صحيح اننا لن نحصل على محكمة جنائية دولية خاصة بالشرق الأوسط ولأسباب تتعلق بالوضع الدولي واستخدامات حق الفيتو، ولكن نعم بوسعنا ان نقوم بالتحضير لذلك على الأقل. وفي تقديري هناك شكل عملي وأخلاقي يمكن للعرب ان يقاضوا عبره مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية بحقهم، وهو اقامة محكمة على غرار المحكمة التي انشأها بعض قادة الفكر العالمي امثال برتراند راسل في ما مضى. ويمكن لهذه المحكمة ان تصدر احكاماً بالإدانة ضد المتهمين اذا توفرت الأدلة ضدهم. ولا يقلل من اهمية هذه الأحكام انها لا تلقى تنفيذاً عملياً، فالإدانة العلنية تحمل في طياتها التنديد بالأفعال وبالشخص وقد يكون لها اثر رادع بالنسبة الى الآخرين. ولا يفوتني هنا ان اشيد بنجاح المجتمع الدولي، رغم الصعوبات الشديدة، في ابرام "اتفاقية روما" الخاصة بإنشاء محكمة جنائية دولية يمتد اختصاصها الى القارات كافة. وهذه المحكمة في الواقع ثمرة المبادئ التي ارستها محكمتنا الحالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.