كلنا أصبح يعرف طلب ادوارد ووكر، المسؤول عن الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الاميركية، من الرئيس حسني مبارك تكميم الصحافة المصرية، فلا تهاجم اسرائيل، لأن الهجوم عليها لاسامية مرفوضة. وأزيد للقراء اليوم انني قرأت بعد ذلك خطاباً ألقاه وزير الخارجية كولن باول في المؤتمر السنوي لأصحاب الصحف الاميركية، وتغنى فيه بجمال حرية الكلام، وكيف ان الولاياتالمتحدة تريد تصدير مُثُلها في الديموقراطية واقتصاد السوق الى الدول الأخرى. وهو لم ينسَ أن يسجل أسماء الدول التي حرمت شعوبها من صحافة حرة، وكان بينها من الدول العربية ليبيا والعراق. وعندي الملاحظات الآتية: - هل كان يجرؤ ادوارد ووكر على أن يطلب من أي صحيفة اميركية ان تكف عن اتهام رئيسه بالغباء أو الجهل؟ - هناك قدر من الحرية الصحافية غير كامل بالتأكيد، في مصر، وأيضاً في لبنان والكويت، فلماذا يطلب من الصحافة المصرية التخلي عن جزء من حديثها بدل زيادته، فيما الوزير يشكو من عدم وجود صحافة حرة في ليبيا والعراق، وأيضاً كوبا وتركمنستان؟ - الصحافة المصرية من مصريين ولمصريين وبعض العرب، والأميركيون لا يريدون ان يصدقوا اننا جميعاً نكره اسرائيل، ونردد مع المكوجي شعبان عبدالرحيم "أنا أكره اسرائيل، وأحب عمرو موسى...". - ربما فكرت الولاياتالمتحدة مرتين قبل أن تصر على تصدير الديموقراطية الينا، فلو سادت الديموقراطية العالم العربي كله لكان رفض اسرائيل كاملاً، وعلى الولاياتالمتحدة أن تصدق أن "الديكتاتور الذي تعرفه أحسن من الديموقراطي الذي لا تعرفه". هذا عن حرية الكلام، أما عن اقتصاد السوق، فاسمحوا لنا بها هذه الأيام على الأقل، لأن بورصة نيويورك تعيش كابوساً مستمراً منذ سنة، وقد خسرت الأسهم خمسة ترليونات دولار، بحسب ارقام اميركية رسمية. ومثل هذا المبلغ يكفي لردم البحر المحيط، إلا انني أبقى مع المثل الأميركي في حرية السوق، فنحن لا نريد أن نستورد بضاعة أعادها الأميركيون الى المصنع لوجود خلل في كوابحها مثلاً... يعني سمعنا ان ثورة المعلومات هي طريق المستقبل، ولكن أسعار اسهم التكنولوجيا خسرت 32 في المئة من قيمتها هذه السنة فقط، و70 في المئة منذ سنة، فهل يحاول الأميركيون أن يبيعونا بضاعة مغشوشة؟ أتوقف هنا لأقول ان الديموقراطية الأميركية عظيمة ولأزيد انني أتمنى لو انه كان في كل دولة عربية نصفها. ومع ذلك فهناك في أميركا أشياء لا نريدها في بلادنا قطعاً، وبما انني أقرأ الصحف الأميركية كل يوم، فإنني قرأت في يوم واحد في "لوس انجليس تايمز" ان طفلاً في السادسة قتل أباه برصاصة مسدس بعد أن أخذه الأب والأم معهما للتدريب على الرماية في دنفر، وان طالباً سابقاً قتل طالباً في السادسة عشرة أمام مدرسته في غاري، بولاية انديانا. مثل هذه الأخبار يتكرر كل يوم، ففي يوم لاحق قرأت عن اعدام رجل قتل مراهقين، وقطع اطراف احدى الضحيتين وألقى الرأس في نهر. وكان هناك خبر عن مجرم أكل ضحاياه. كل ما أخشى هو أن نستورد من الديموقراطية الأميركية الصالح والطالح، فحرية الكلام عظيمة، الا أن قتل الأطفال في المدارس ليس كذلك. واعترف للوزير الأميركي ومساعده بأن صحافتنا متخلفة عن صحافتهم، إلا أن هذا لا يعني أن معرفتهم كاملة أو أن جهلنا مطبق. وبما انني أقرأ الصحف الانكليزية كما أقرأ الأميركية، فقد لاحظت ان "الديلي تلغراف" قالت "اسرائيل تقتل مشبوهاً بالارهاب" والغارديان قالت "طائرات هليكوبتر اسرائيلية مسلحة تقتل اسلامياً متشدداً"، ولكن "الديلي ميل" قالت "اسرائيل تقتل ارهابياً". العنوان الأخير خطأ فالجريدة قبلت البيان الاسرائيلي، من دون أن تكون لديها وسيلة البتة للتأكد من صحته. ولا أتهم هذه الجريدة بمؤامرة وانما اتهمها بالجهل والتقصير، و"الديلي ميل" كانت ارتكبت خطأ آخر في اليوم السابق، ففي صفحة الأخبار الاجتماعية التي يعدها نايجل ديمبستر، وهو ناجح جداً، كان هناك خبر عن ان اللورد العمالي برنارد دونوهيو استفاد من العمل مع الناشر اللص روبرت ماكسويل، وسرد لعمليات احتيال. وقرأت الخبر مرتين لأن ما لفتني اليه كان صورة للورد دونوهيو وهو يضع على رأسه حطة وعقالاً عربيين. لم تكن للعرب أية علاقة بالموضوع، ومع ذلك بدا الخبر السلبي كله وكأن لنا علاقة به، مع انه يكفينا ما نمارس أو نرتكب من فضائح. أقول للوزير ومساعده اننا لسنا جاهلين بالقدر الذي يتصورونه، وانما نستطيع أحياناً التفريق بين الخطأ والصواب. بعض أبرز المفكرين العرب رأوا الخطأ في عقد مؤتمر ينكر المحرقة النازية لليهود في بيروت فوقعوا بياناً ضده، وقررت الحكومة اللبنانية منع عقده. وكانت جريدتنا هذه سبقت الجميع في انتقاد فكرة المؤتمر. ومع ان قسط الحرية الصحافية العربية محدود فإنني اختتم بموضوع انساني. فوجئت بأن أقرأ ان معلقاً في راديو فلسطين هو يوسف قزاز زعم ان الطفلة الاسرائيلية التي قتلت برصاص قناص في الخليل كانت في الواقع معاقة وقتلتها أمها. هذا الكلام حقير، ويهبط الى درك اتهام بعض الاسرائيليين الأمهات الفلسطينيات بأنهن يدفعن أولادهن الى الموت برصاص الجنود الاسرائيليين. أقول ان قتل الأطفال من الجانبين، أو اضفاء كل طرف صفة البهيمية على الطرف الآخر لن يحل المشكلة، فالحل الوحيد هو انهاء دوامة العنف، وطلب حل من طريق المفاوضات، فهو الحل الوحيد الممكن.