تواجه الدول العربية كغيرها من الدول النامية مجموعة من التحديات تتمثل في ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع حجم البطالة وصغر حجم الأسواق الداخلية وزيادة في المديونية الداخلية والخارجية وعدم القدرة على التصدير، إضافة إلى هياكل اقتصاد وانتاج ضعيفة ومتشابهة، تقع ضمن غيرها من التحديات. وهذه التحديات تفرض على الدول العربية التنسيق والتعاون، إذ أن المرحلة المقبلة هي مرحلة التكتلات الاقتصادية، ففي وجود العولمة والانفتاح الاقتصادي ومنظمة التجارة الدولية، سيكون من الصعب على الدول الصغيرة التي هي ليست جزءاً من تكتل اقتصادي كبير، أن تحمي حقوقها ومصالحها. ولا نزال في المنطقة العربية نرسم السياسة الاقتصادية حسب التوجهات السياسية، إذ أن السياسة هي العربة التي تجر قطار الاقتصاد، في حين أن عدداً من دول العالم وضعت الاقتصاد أمام السياسة وأخذت تعالج قضاياها السياسية من خلال خططها الاقتصادية. فالاقتصاد أصبح القوة الرئيسية التي تسعى إلى تحقيقها الدول وتأتي النواحي العسكرية والسياسية في المرتبة الثانية. وكان عدم توافر الإرادة والوفاق السياسي دائماً الصخرة التي تحطمت عليها محاولات التعاون الاقتصادي العربي. فالملاحظ أن الدول العربية مشغولة بنواحي الدفاع والأمن الداخلي الذي يأتي في سلم أولوياتها وتخصص له نسب مرتفعة من الموازنات العامة، حيث تشكل المصاريف العسكرية نسبة تصل إلى 15 في المئة من اجمالي الناتج المحلي لبعض الدول العربية، وهي من أعلى النسب في العالم مقارنة بمعدل أربعة في المئة للدول النامية. ولا بد من وجود فكر عربي جديد ومتطور يستوعب المتغيرات المستجدة على الساحة العالمية، ولا يستند إلى الأفكار الانعزالية التي تغلق النوافذ والأبواب، وتتمسك بالماضي وأحلامه. إذ يجب على دول المنطقة النظر إلى شبكة المصالح المشتركة التي تربط في ما بينها مدعومة بالفكر والعاطفة القومية. أي أن التعاون الاقتصادي بين الدول العربية مطلوب لأنه يحقق مصالح مشتركة، وليس فقط لأننا أمة ذات لغة وثقافة وتاريخ واحد، فهذه كلها أمور مكملة تجعل من الترابط الاقتصادي أقوى وأرسخ على مر السنوات. لم تحدد الدول العربية خلال العقود القليلة الماضية معدلات نمو مرتفعة بالأسعار الثابتة، إذ ارتفع اجمالي الناتج المحلي من 440 بليون دولار عام 1980 إلى 650 بليوناً عام 2000، أي بنسبة نمو تراوح بين اثنين وثلاثة في المئة، وإذا اعتبرنا معدل غلاء المعيشة في حدود ثلاثة في المئة، يكون معدل النمو الاقتصادي بالأسعار الثابتة سالباً مقارنة من المعدلات العالمية التي جاءت في حدود ثلاثة في المئة خلال هذه الفترة. كما أن تضاعف عدد السكان من 140 مليون نسمة عام 1980 إلى 278 مليوناً عام 2000 أدى إلى تراجع نمو الناتج المحلي للفرد، فلم يتعدَ 2200 دولار في المعدل عام 2000. وعلى سبيل المثال، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي للمملكة العربية السعودية في حدود 25 ألف دولار عام 1981، موازياً لدخل الفرد في أميركا، وتراجع إلى 7000 دولار عام 2000، في حين ارتفع في أميركا إلى 40 ألف دولار. وأدت معدلات النمو الاقتصادي الضعيفة التي سجلت في المنطقة، والزيادة السنوية المرتفعة للسكان، إلى ظهور معدلات بطالة مرتفعة قدرت للمنطقة ككل في حدود 14 في المئة، غير أنها راوحت بين 25 في المئة في اليمن والجزائر و15 في المئة في الأردنولبنان و10 في المئة في مصر. كما يلاحظ ارتفاع متزايد في معدلات البطالة بين المواطنين من فئة الشباب في الخليج، خصوصاً في السعودية وعمان والبحرين. وبما أن 50 في المئة من اجمالي السكان هم دون سن العشرين، فهذا يعني أن هناك أعداداً متزايدة من اليد العاملة الفتية لا بد من استيعابها سنوياً في سوق العمل. لم تنجح الدول العربية في الدخول إلى الأسواق العالمية بالشكل المطلوب، إذ لم يتعد اجمالي الصادرات للدول العربية بما فيها النفط مستوى 163 بليون دولار عام 1999، وهي أقل من صادرات هونغ كونغ التي كانت في حدود 174 بليون دولار. وشكلت المواد الخام والنفط ما نسبته 72 في المئة من الصادرات العربية، وهذا يدل على أن صادرات السلع عام 1999 لم تتعد 45 بليون دولار، أي أقل من صادرات دولة صغيرة مثل فنلندا التي لا يزيد عدد سكانها على خمسة ملايين شخص. وكان اجمالي الناتج القومي العربي في حدود 650 بليون دولار عام 2000، أي 50 في المئة من اجمالي الناتج المحلي لايطاليا. ولا تزال أرقام التجارة البينية للدول العربية متدنية للغاية، إذ لم يتجاوز حجم التجارة بين الدول العربية نسبة 6،8 في المئة من حجم التجارة الخارجية، و20 في المئة من حجم التجارة في المنتجات المصنعة عربياً باستبعاد المنتجات النفطية، مع أنه بانتهاء عام 2000 وصلت الخفوضات الجمركية التراكمية إلى 30 في المئة من التعرفة الجمركية التي كانت سائدة عام 1997. علماً أن التجارة البينية لدول الاتحاد الأوروبي وصلت إلى 60 في المئة العام الماضي، و37 في المئة لدول النافتا شمال أميركا، و40 في المئة لدول رابطة جنوب آسيا آسيان. وبلغ اجمالي المديونية العامة للدول العربية 375 بليون دولار عام 1999، منها 156 بليون دولار ديون خارجية، و219 بليوناً ديون داخلية. وتحتل السعودية المرتبة الأولى لجهة المديونية العامة ومقدارها 78 بليون دولار، معظمها مديونية داخلية، تليها مصر بمقدار 72 بليون دولار منها 29 بليوناً ديون خارجية، ثم الجزائر 48 بليوناً - 38 بليوناً ديون خارجية، ثم المغرب فسورية، وسجل لبنان أعلى نسبة مديونية عامة مقارنة باجمالي الناتج المحلي، إذ وصلت إلى 150 في المئة عام 2000. كلما جرى الحديث عن العمل العربي المشترك، نجد أن لغة التمني تستخدم في الغالب، عبارات هي أقرب إلى الشعارات منها إلى الأفكار المحددة، لذلك لا بد من وجود آلية واضحة تعمل حسب جدول زمني مقبول، وهذا يتطلب تحويل الأمانة العامة للجامعة العربية لتصبح منظمة اقليمية عصرية شبيهة بالمفوضية الأوروبية التي أشرفت على قيام السوق الأوروبية المشتركة والوحدة النقدية الأوروبية انتهاء بالعملة الأوروبية الموحدة اليورو. وهناك تسلسل لا بد أن تتبعه التكتلات الاقتصادية المزمع انشاؤها، تماماً كما حصل في أوروبا. فالمرحلة الأولى هي انشاء منطقة التجارة الحرة، حيث تتفق الدول الأعضاء على إلغاء العوائق الجمركية في ما بينها خلال فترة زمنية محددة، لكن تحتفظ كل دولة بالحرية الكاملة بالنسبة للتبادل التجاري مع الدول التي ليست أعضاء في الاتفاقية. والمرحلة الثانية هي قيام اتحاد جمركي، وهو عبارة عن اتفاق الغرض منه ازالة الحصص والتعريفات الجمركية كافة على تبادل السلع والخدمات بين الدول الأعضاء في هذا الاتحاد، واتباع سياسة جمركية موحدة بالنسبة للدول من خارج الاتحاد، أي كما اتفقت عليه دول مجلس التعاون الخليجي، إذ أنه بحلول سنة 2005 سيكون هناك هيكل جمركي موحد لكافة الواردات من خارج المجلس يراوح بين 5.5 في المئة و5.7 في المئة. والمرحلة الثالثة هي السوق المشتركة، وهنا إضافة إلى حرية انسياب السلع والخدمات بين الدول الأعضاء في السوق، يسمح أيضاً بحرية التنقل لعوامل الانتاج من رأس المال والأيدي العاملة والتقنية وغيرها. والمرحلة الأخيرة هي الوحدة الاقتصادية، وهي التي توصلت إليها الدول الأوروبية حيث يكون هناك تكامل اقتصادي يشمل توحيد نهج السياسات المالية والنقدية بين الدول الأعضاء، وانشاء مصرف مركزي موحد، وقيام عملة موحدة وتوحيد الأنظمة والتشريعات الخاصة بالعلاقات والتبادل التجاري. وتم التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة العربية في تشرين الثاني نوفمبر 1997 وبوشر بتنفيذها ابتداء من عام 1998، بحيث يتم خفض تدريجي للتعرفة الجمركية على السلع المتبادلة بين الدول الأعضاء بنسبة 10 في المئة سنوياً، على أن تلغى الرسوم الجمركية كافة مع نهاية سنة 2007. غير أن 14 دولة عربية فقط وقعت على هذه الاتفاقية، هي دول الخليج الست ومصر والأردنولبنان وتونس والمغرب وليبيا وسورية، كما أن العديد من الدول الأعضاء أخذت تطلب استثناءات لسلعها من شروط منطقة التجارة الحرة العربية، بحيث أصبح استثناء السلع هو القاعدة وتحرير التجارة البينية هو الاستثناء. ولا يزال هناك العديد من الاجراءات الحمائية غير الجمركية مثل رخص الاستيراد والتي تطلق عليها مسميات أخرى مثل استمارة أو شهادة منشأ. وهنا أيضاً رسوم الترخيص للاستيراد واغلاق الحدود أمام تدفقات السلع من دون سابق انذار. كما أن هذه الاتفاقية لم تشمل تبادل الخدمات بين الدول العربية الأعضاء. لا تتعارض بنود منظمة التجارة العالمية مع تشكيل التكتلات الاقتصادية، غير أنها تتعارض مع اتفاقيات التبادل التجاري كمنطقة التجارة الحرة العربية. ومع دخول معظم الدول العربية إلى منظمة التجارة العالمية، ستجد هذه الدول ان ازالة الرسوم الجمركية في ما بينها وفرضها على الدول الأخرى الأعضاء في منظمة التجارة الدولية يتعارض مع مبدأ معاملة كل الدول الأعضاء في المنظمة معاملة متساوية من دون أن تكون هناك أي تفرقة بين عضو وآخر. ومن هنا نجد ضرورة الانتقال السريع من اتفاقية التجارة الحرة إلى المرحلة الثانية من التعاون الاقليمي، وهي انشاء اتحاد جمركي بين الدول العربية كخطوة ضرورية لا تتعارض مع شروط منظمة التجارة العالمية. كما أن وجود مثل هذا التجمع الاقليمي والتحول نحو سوق عربية مشتركة لاحقاً، سيشجع على قيام صناعات تعتمد على التصدير إلى السوق الاقليمية، مستفيدة من اقتصاديات الحجم بدلاً من السوق المحلية الصغيرة. كما ان هذه الصناعات قد تستطيع الحصول على الدعم ما دامت تصدر فقط إلى أسواق التكتل الاقتصادي الموحد. كذلك سيتشجع الاستثمار الأجنبي للدخول على التكتل الاقتصادي الأوسع سوقاً، وستصبح المفاوضات مع التكتلات الاقتصادية الأخرى أسهل. كانت المنازعات السياسية في السابق هي الصخرة التي تحطمت عليها محاولات التعاون والتقارب الاقتصادي، وذلك يعود إلى أن الايديولوجيات التي كانت سائدة في الستينات والسبعينات والتي تبنتها بعض الدول العربية مثل الاشتراكية والاقتصاد الموجه أدت إلى حدوث خلافات حادة بين دول المنطقة. غير أن هذه المشكلة لم تعد قائمة اليوم، إذ أن معظم الدول العربية يتبع نظام الاقتصاد الحر المنفتح على الخارج، وفي الوقت نفسه تقوم، وبدرجات متعاونة، بتنفيذ برامج الاصلاح الاقتصادي الذي يدعو إلى تحويل دور الدولة من "لاعب مشارك" إلى "حكم مراقب"، أي تدخل أقل من قبل الحكومة في الدورة الاقتصادية ولكن اشراف أكبر على الأسواق مع وجود اطر قانونية واضحة تحمي المستثمر والمستهلك. وهناك ضرورة ملحة للانفتاح الفكري على الغير وتفهم الثقافات المختلفة والدخول إلى القرية الكونية مع المحافظة على التميز الثقافي والحضاري للدول العربية. ويساعد في هذا وجود قيادة لها رؤية وشجاعة على ادخال التغيير، فالدول التي كان لها قيادة ملهمة هي التي سارت بخطوات أسرع مقارنة مع الدول التي رفضت التغيير واعتبرته خطراً يهدد مجتمعها وثقافتها. ونرى أن شبكة خدمات تربط بين الأقطار العربية المختلفة هي المقدمة الضرورية لخلق المصلحة المشتركة. فعندما يمتد الربط الكهربائي وخطوط الغاز وشبكة الطرق وشبكة المعلومات والنقل البري والبحري بين الدول العربية، نكون بذلك أضفنا إلى التجمع الاقليمي على مستوى الانتاج وتبادل السلع تجانساً اقليمياً آخر على مستوى الخدمات العامة والبنية الأساسية. ولا بد أيضاً من السعي إلى ادخال الخدمات ضمن اتفاقية التجارة الحرة العربية، إذ يبلغ اجمالي تجارة الخدمات نسبة تزيد على 20 في المئة من الناتج المحلي للدول العربية، و45 في المئة من اجمالي التجارة الخارجية للسلع والخدمات لدول المنطقة. لذلك لا بد من إزالة عدد من الحواجز التي تؤثر بصورة مباشرة في توريد الخدمات والتي تشمل تسهيل انتقال رجال الأعمال والمستشارين وموردي الخدمات المصرفية والمالية والإدارية وغيرها بين الدول الأعضاء ومنح حق الوجود التجاري للشركات العربية والمصارف لإقامة فروع ومكاتب لها على أسس المعاملة بالمثل وازالة قوانين الكفيل أو الوكيل وانشاء ربط بين أسواق الأوراق المالية من خلال طرح وتبادل تسجيل الشركات للمساهمة العامة في ما بينها. ولا بد من تحسين القدرات التنافسية للسلع العربية، لأن المستهلك العربي سيختار دائماً الأفضل والأقل كلفة له. لذلك لا بد من الاهتمام بالمواصفات وتطوير المنتج وتقليص تكلفته والعناية بأساليب التعبئة والتغليف ومراعاة الجودة والتركيز على التسويق والإعلان الذكي للوصول إلى شريحة عريضة من المستهلكين، إضافة إلى حصول المصدرين على التمويل المطلوب ليستطيعوا المنافسة في الأسواق العالمية المفتوحة. وفي الختام لا بد من التأكيد على أن الوطن العربي يحتاج حالياً إلى صيغة للعمل العربي المشترك تكون واضحة وواقعية، وتستند إلى مصالح حقيقية لأطرافه، إذ أن الكل سيستفيد في النهاية مع المتابعة المنتظمة لما يستجد من مشكلات والتوصل إلى حلول مقبولة لها تضمن استمرارية هذا التعاون بما يمكن للدول العربية من تأمين مكانة مناسبة لها في عالم القرن ال21 الذي تسيطر عليه التكتلات الاقتصادية. ويتحقق ذلك من خلال تشجيع مشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني في التكامل الاقتصادي، ويكون ذلك بإقامة نظم وممارسات ديموقراطية تضمن توفير البيئة السياسية اللازمة لفاعلية مؤسسات القطاع الخاص، إضافة إلى تشجيع مساهمة القطاع الخاص في عملية التكامل الاقتصادي العربي وجعل صوته مسموعاً لكي يشعر بالطمأنينة ويحثه على لعب دور أكبر في ضمان دفع عمليات الاصلاح. * كبير الاقتصاديين العضو المنتدب لمجموعة الشرق الأوسط للاستثمار.