على الحائط كتابة بالطباشير: "هم يريدون الحرب والذي كتبها سقط صريعاً". إنها الحقيقة يعلنها برتولت برشت بعدما كتبها بالطباشير رجل مجهول وتخفى سراً تاركاً اياها على الحائط. إنه رجل مضطهد ومهان لكن الحقيقة على رغم كل شيء وجدت من يقولها وستجد دائماً من يعلنها ولو بالطباشير. يستعرض برشت عبر هذه القصيدة حكمة عميقة عبر عدد محدود من الكلمات البسيطة لكنها تحمل رسالته الى البشرية. تأتي الطبعة الثانية من كتاب "من قصائد برخت" دار شرقيات، القاهرة 2000 وكان صدر سابقاً عام 1967 حاملة الى القارئ أكثر من مئة قصيدة اخرى تعبر عن تحولات مختلفة اثرت في حياة برشت وشعره بدءاً من العام 1914 وحتى رحليه في منتصف الخمسينات. يضم الكتاب بعض القصائد المختارة من مسرحيات برشت الكبرى مثل "الام شجاعة واولادها"، و"حياة غاليلو"، و"الانسان الطيب"، وكذلك "دائرة الطباشير القوقازية".. قدم هذه الطبعة وترجمها، عبدالغفار مكاوي الذي كان أول من ترجم أعمال برشت وقدمها الى القارئ العربي في الخمسينات. عاش برتولد برشت المتحدر من "الغابات السوداء" في المانيا حياة متغيرة وقاسية في آن. ولم تكن قسوة الحياة فقط في ظل حرب عالمية تنشب وهو بعد صبياً في المدرسة بل كانت كذلك حياة قاسية تحت وطأة الحكم النازي الذي اضطهده ونفاه خارج البلاد خمس عشرة سنة كاملة، عاشها برشت متنقلاً من بلد إلى آخر وبدأها في أوروبا وأنهاها في اميركا وكانت برلين منفاه النهائي كما اطلق عليها. كانت تجربة الحرب العالمية الاولى من أكثر الاحداث تأثيراً على الفتى الصغير برشت، إذ أحدثت تطوراً فنياً في حياته باتجاه الكتابة. فشرع برشت في كتابة مقال كاد ان يتسبب في طرده من المدرسة. ولم تتوقف تجربة الحرب عند هذا الحد بل شملت حياته كلها حتى نجده في آخر سنوات حياته يوصي الجميع بنبذ الحرب وها هوذا يقدم الوصية عبر قصيدته "إلى مواطنيّ": "أنتم، يا من بقيتم احياء في المدن الميتة ارحموا أنفسكم خيراً لا تشتركوا في حروب جديدة أيها التعساء كأنما لم تكفكم الحروب السابقة أتوسل إليكم أن ترحموا أنفسكم". في العام 1927 قدم برشت مجموعته الشعرية الاولى تحت اسم "تبتلات البيت". وبدت هذه المجموعة وكأنها تشي بميلاد شاعر موهوب حقاً، لم يكن ذلك منفصلاً في شكل أو آخر عن إبداعه المسرحي الذي أظهر فيه توفقاً وشهرة واسعة. فضمت معظم كتاباته المسرحية عدداً من قصائده واشعاره. لكن كتاباته تعرضت لبطش النازية. وبينما قرر هتلر ايقاف عدد من العروض المسرحية فهم برشت الرسالة وقرر الرحيل عن ألمانيا. ثم بعد قليل أحرق النازيون أكثر من مئتي كتاب كان من بينها اعمال برشت. وعقب ذلك تجريد برشت من جنسيته الالمانية عقاباً له على قصيدة "الجندي الميت" التي اصابت حنق النازي لانها تحكي قصة جندي مات إثر الحرب. لكن النازيين امروا رجالهم بنبش قبره من جديد وإعادته الى حياة الجندية، هذه السخرية المريرة من بشاعة النازيين صورها برشت في إحدى قصائده. كانت اميركا هي محطته الاخيرة قبل العودة مجدداً الى اوروبا، لكن برشت لم يستعذب حياته في اميركا وكتب قصيدة يصف فيها "هوليوود" قائلاً: "كل صباح كي اكسب عيش أمضي الى السوق حيث تُشترى الاكاذيب اضع نفسي والامل يداعبني في صفوف البائعين". يتنوع شعر برشت بين الحكاية والقصة الشعرية ثم يتحول إلى المرثية والنشيد، وقصائد المناسبات واغاني البطولات والترنيمات. ولكن ثمة نبرة دائمة تحملها كلماته هي نبرة التشكك والتساؤل في هدف ابراز المفارقات واستثارة ذهن القارئ تجاه ما يقرأه من كلمات. وظهر واضحاً من البداية ذلك الاقتباس الذي تعدد في اشعار برشت نقلاً عن اسماء كبيرة في عالم الشعر من شكبير، وبوداكير ورامبو وشيللي. والواقع ان برشت ظل مثيراً للجدل سواء في حياته أو بعد وفاته. غير أن برشت استطاع ان يتنقل بين ألوان شعرية متباينة وخصوصاً بعد تجاوزه المرحلة التعبيرية، ووصوله الى النزعة التعليمية واستخدامه الشعر كأداة للكفاح السياسي والاجتماعي. تغذى شعر برشت من لغة الشعب وشرب من كلماته الكثير فخرج معبراً عنهم. رُتبت اشعار برشت ترتيباً تاريخياً وقسمت الى سبع مراحل متلاحقة تحتل كل منها عشر سنوات من ابداع شعري متصل او من قصائد تضمنتها اعماله المسرحية الكبرى والخالدة. وفي مطلع سنواته الشعرية بين العامي 1914 و1926 يكتب برشت قصيدة يتقمص فيها رجلاً بائساً اعطته امرأته كل شيء فيغني لها. وجاء في القصيدة: "كانت لي إمرأة وكانت اقوى مني مثلما العشب اقوى من الثورة فهو يشب دائماً رأت انني شرير واحبتني لم تسأل الى اين يمضي الطريق، الذي كان طريقها، وربما كان يمضي إلى اسفل، وعندما اعطتني جسدها قالت: هذا كل شيء... واصبح جسدي".