بدأ الميل نحو التشدد في المجتمع الباكستاني مع وقف الديموقراطية قبل أربع سنوات. وازدادت هذه الظاهرة بروزاً منذ استحواذ العسكريين على السلطة قبل 18 شهراً. ومن بين ما يفاقم من روحية التطرف في باكستان بروزها في أفغانستان المجاورة، اذ يبدو هناك ان حكومة طالبان قررت اكتساب المزيد من سوء السمعة بدل محاولة تجنبها قدر الامكان. فقد عبرت عن تعصبها الديني المرفوض عندما قررت تدمير الآثار الحضارية العظيمة في وادي باميان، التي تعود الى مرحلة ما قبل الاسلام. ان قرار نسف تمثالي بوذا لأسباب دينية ليس له ما يبرره. ذلك ان الاسلام يأمر اتباعه بالتسامح تجاه كل الأديان، بل انه في الواقع يدعو المسلمين الى الكفاح من أجل حق الأديان الاخرى في العبادة واحترام ذلك الحق، كما يؤكد على مبدأ "لا إكراه في الدين". واذ يعكس تدمير التمثالين تعصب حركة طالبان فإن معناه يتجاوز ذلك. فهو يشكل تحدياً للحضارة البوذية، ويسعى تبعاً لذلك الى عالم عميق الانقسام يمارس فيه الدين، في مختلف الشؤون، قوة تفوق الاقتصاد. ومع ان القرن الواحد والعشرين بدأ بوعود بعولمة الأسواق وعولمة الرخاء، الا ان هذا لن يتحقق اذا كان لطالبان ومؤيديها ما يريدون. ان حكاماً مثل زعيم طالبان الملا عمر يأتون بضرر كبير الى دين الاسلام العظيم. والملا عمر، كما يبدو، خريج مدرسة دينية في كراتشي. ويعرف عن المدارس الدينية في باكستان التشدد في المناهج وتركيز جهود الطلبة على الجانب الطائفي من دراساتهم، وحظر التفكير المستقل. هذا التعليم يمنع الطلبة من الاطلاع على التنوع الكبير في الابحاث الدينية، ويحصر علمهم بالمادة المقدمة لهم للاستظهار. انه نظام يقوم على الطاعة ويمنع التساؤل، ولا يتجاوز ان يكون نوعاً من غسيل الدماغ. انه بمثابة "البرمجة المسبقة" التي تسلب الخريجين القدرة والاستقلال في التفكير والقرار. ونجد في باكستان اليوم عدداً متزايداً من هؤلاء الخريجين. واذ يواصل النظام العسكري ضغطه على القوى السياسية فان ذلك يصب في مصلحة المتشددين المتواضعي التعليم. وعلى رغم تأكيدات وزير الداخلية الحسن النية، فإن عدد المدارس الدينية قد ارتفع. هدف المتشددين واضح: كسب ما يكفي من الوقت لخلق قوة مسلحة موازية، يمكنها في النهاية مواجهة القوات المسلحة النظامية اذا دعت الحاجة. وللمتشددين الآن قوة غير نظامية تقدر بمئة وخمسين الف شخص، ويأملون في ايصال العدد الى نصف مليون خلال عشر سنوات . وكان مسؤول استخبارات باكستاني تساءل اخيراً في معرض التبجح: "ومن هو رئيس الوزراء؟". ولنا ان نقدّر، مع سماح الجنرال برويز مشرف للمتشددين بالعمل بحرية، أن السؤال قريباً سيكون: "ومن هو قائد الجيش؟". وجاء اخيراً اعدام الزعيم الطائفي جانغفي بجرم اغتيال ديبلوماسي ايراني ليصعّد من غضب المتشددين. وهم يخططون الآن للانتقام، فيما يعطيهم نظام مشرف الحرية الكاملة للقيام بذلك. لقد ذهب ادراج الريح كل الكلام عن ملاحقة المتشددين الداعين الى الحقد الطائفي. وكان النظام قبل ذلك تراجع عن تعهده وقف حملات التبرع التي يقوم بها هؤلاء من اجل شراء السلاح ونشر المبادئ، ويسمح النظام لهم، بدلاً من ذلك، بحرية مطلقة في التحرك لتحدي النظام والتهديد بالانتقام. ان ما يبدو من ضعف النظام تجاه المتشددين أمر مذهل، خصوصاً في تناقضه الحاد مع القسوة التي يتم بها التعامل مع رؤساء الحكومات المنتخبين والبرلمانيين والناشطين السياسيين. وهو ما ينم، بالنسبة الى الشخصيات السياسية هذه، عن التعاطف الخفي الذي يكنه النظام للمتشددين. الا ان القادة المنتخبين يتمتعون بتأييد السكان، ومن هنا فإن ضغوط مشرف علىهم تدق إسفيناً بين القوات المسلحة والشعب، وهو ما يدفع بالقوات المسلحة اكثر فأكثر الى فك التمساح، أي القوى التي تعتبر نفسها "جهادية". في هذا السياق رحبت البلاد بالاضراب العام الذي اعلنه قانونيو باكستان أواخر شباط فبراير الماضي. ونجح الاضراب مبرهناً على أن الشعب الباكستاني عموماً، مثلما في البلدان الاسلامية المعتدلة الأخرى، يريد الحفاظ على المجتمع المدني. ويأتي بعد اضراب القانونيين الاضراب العام الذي دعت اليه الاحزاب السياسية. فقد وجه تحالف المعارضة نداء لتحدي حظر النظام النشاط السياسي، وذلك في يوم الاستقلال في 23 من الشهر الماضي. كما كان هناك رد فعل سلبي على اعتقال ناشطات مع اطفالهن اثناء الاحتجاج على ارتفاع الأسعار. ذلك ان اعتقال النساء والأطفال يتنافى مع صورة المقاتل الشجاع التي يحرص عليها الجيش الباكستاني. باكستان بلد مسلم بالغ الأهمية بموقعه الاستراتيجي على مفترق الطرق الى الشرق الأقصى وأوروبا الشرقية، ويهدد الاضطراب فيه بالتوسع ليشمل منطقة جنوب آسيا كما يؤثر على العالم الاسلامي عموماً. ويأتي هذا في الوقت الذي يواجه فيه العالم الاسلامي تحدياته الخاصة، من بينها الجمود في الشرق الأوسط بعد انفجار العنف الذي نقل الكراهية الى جيل جديد من الشبيبة المسلمة، وتلاشي الأمل بالسلام بين سورية واسرائيل، فيما تواصل حركة طالبان تغلغلها في باكستان. ويعطي امتلاك باكستان السلاح النووي ووسائل ايصاله اهمية دولية لاستقرار هذا البلد. ويأمل الجنرال مشرف في التمسك بالسلطة عن طريق البرهنة على القدرة على مواجهة قوى التطرف. لكنه لا يستطيع القيام بالكثير لأنه زعيم غير منتخب يفتقر الى الشعبية، محاط بفريق من الفاشلين، ولا سند له سوى مؤسسة عسكرية ينخر فيها فيروس التطرف الديني. ويواجه مشرف، عندما يعد بمواجهة المتشددين لكنه يستعمل هذه الصيغة لتغطية قمعه الاحزاب السياسية، نقمة متزايدة من الشعب الذي سئم هذه الازدواجية في المعايير. خلال كل هذا يعيش الجنرالات حياة مرفهة تتناقض في شكل صارخ مع حياة المواطن العادي الذي يرزح تحت التضخم المالي، اذ رُفعت أسعار النفط خمس مرات، فيما يتبجح النظام على تلفزيونه الرسمي بأنه الانجح من بين سابقيه. ويعود هذا الافتقار الى الحساسية الى أن الجنرالات يعيشون حياة معزولة في ثكناتهم. واذا احتضن الغرب هذه الديكتاتورية المفتقرة الى الشعبية فانه يخاطر باغضاب شعب باكستان، ما قد يصب بالتالي، ومن دون قصد، في مصلحة المتشددين. وتشعر الطبقة الوسطى في باكستان بالقلق من التوسع المستمر لدائرة التطرف. وما يزيد الأمر سوءاً ان هذه الفوضى الأيديولوجية تأتي في ظل نظام عسكري. ذلك ان باكستان قامت أصلاً باسم الديموقراطية والانتخاب. وكان مؤسسها القائد الأعظم محمد علي جناح علمانياً معتدلاً لقي معارضة من الجهات الدينية، وانتصر في المعركة من اجل باكستان عندما حمل لواء التسامح والمساواة والتعاطف، وفوق كل ذلك روح الديموقراطية - وهو اللواء الذي سرقه مشرّف. وسيبقى الحلم الباكستاني في خطر ما لم تتم استعادة اللواء. الولاياتالمتحدة قامت على مبادئ مشابهة. لكن الجنرالات هناك يزولون، وعندما يفعلون ذلك يفسحون المجال للشعب لكي ينضج. وتبين مشاكل الرئيس السابق بيل كلينتون مدى المساواة أمام القانون بين الكبار والصغار. أما في باكستان فحتى الشخصيات الأهم تحرم من أبسط انواع العدالة اذا كانت تنتمي الى حزب سياسي. ان انبعاث باكستان من جديد امة حية، متصالحة مع ذاتها والآخرين، يتوقف على قدرتها على اطاحة الحكم العسكري واحتواء التطرف الديني وضمان نزاهة القضاء والوصول الى السلطة عن طريق الانتخاب. هذه هي الشروط الأدنى لانعاش الاقتصاد. لقد أطلقت المعارضة النفير عندما دعت الى تحدي الحظر على النشاط السياسي. انها دعوة الى المواطن العادي لانقاذ المجتمع المدني من التشدد المتنامي الذي يهدد باكستان. * رئيسة وزراء باكستان سابقاً.