تأمل قليلاً في الحرب الوحشية التي تشنها حكومة أرييل شارون هذه الأيام بهدف تركيع الفلسطينيين، سلطة وشعباً، لتجد أنك تعود إلى ما قبل تأسيس الدولة الصهيونية التي تحتفل هذه الأيام بمرور 53 سنة على قيامها. ثم تأمل قليلاً لتجد أن ما تعبر عنه وما تمثله هذه الحرب ليس غريباً ولا جديداً. بل الغريب هو أن جذور هذه الحرب معروفة على نطاق واسع في العالم العربي، خصوصاً لدى دوائر صنع القرار فيه. جذور هذه الحرب لا تعود فقط إلى سياسة رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق ايهود باراك، وإنما هي إستمرار لسياسة تبلورت أيام الحركة الصهيونية التي شكلت أوائل القرن العشرين النواة الأولى للدولة العبرية. والغريب أيضاً أنه من المعروف على نطاق واسع في العالم العربي أن هذه السياسة تقوم على إستراتيجية واضحة وبسيطة، وهي الإستراتيجية التي يسميها المؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شليم ب"الجدار الحديد"، وهو الإسم الذي أطلقه على كتابه الأخير عن السياسة الخارجية الإسرائيلية خلال الخمسين سنة الماضية. وقد استعار شليم مصطلح "الجدار الحديد" من كتابات أبو اليمين الصهيوني، فلاديمير جابوتنسكي توفي عام 1940 الذي كان أول من صاغ فكرة القوة التي يتضمنها هذا المصطلح، لتشيع بعد ذلك في الأدبيات الإسرائيلية. ومع أن اليسار الصهيوني عارض في البداية فكرة الجدار الحديد هذه، والسياسة التي تتطلبها في بناء الدولة اليهودية، إلا أنه سرعان ما إستدار وتبنى الإستراتيجية التي يتضمنها هذا المصطلح، لتتحول فكرة الجدار الحديد إلى العمود الفقري للسياسة الخارجية الإسرائيلية، كما يقول شليم. ماذا يعني جابوتنسكي ب"الجدار الحديد"؟ في معرض حديثه عن الإستيطان اليهودي في فلسطين كخطوة أولى لتأسيس الدولة يعترف جابوتنسكي بأن عرب فلسطين لا يمكن أن يقبلوا طوعاً وإختياراً بإستيطان أجنبي على أراضيهم، وبالتالي "فإن إتفاقاً طوعياً بيننا وبين عرب فلسطين لا يمكن تصوره لا الآن ولا في المستقبل المنظور" كما قال عام 1923. لماذا؟ لأنه "طالما هناك بصيص من أمل لدى العرب في التخلص منا، ليس هناك في العالم ما يدفعهم إلى التخلي عن هذا الأمل. ولذلك فإن السبيل الوحيد لدفع العرب، بإعتبارهم شعباً حيوياً، إلى التخلي عن المقاومة هو فقدانهم أي أمل في التخلص منا. والسبيل الوحيد إلى تيئيس العرب، وإقناعهم بأنهم لا يملكون مثل ذلك الأمل هو سبيل القوة والعنف". إزاء هذا الواقع وصل جابوتنسكي إلى ما إعتبره نتيجة حتمية لا مفر منها لقيام الدولة وأمنها، حيث يقول: "لا يمكن للإستيطان أن ينمو ويستمر إلا تحت حماية قوة لا تعتمد على السكان المحليين الفلسطينيين، وخلف جدار حديدي من القوة، بحيث يشعر أولئك السكان بالعجز عن إختراقه". "الجدار الحديد" إذن، هو المفهوم الذي يقوم على إخضاع الفلسطينيين، ومعهم بقية العرب، لمنطق القوة والعنف، بحيث لا يبقى أمامهم إلا الخضوع والإستسلام لهذا المنطق. وعندما تذهب مع تأملاتك أكثر ستجد أن دائرة الإستغراب تتسع بدورها أكثر مما كانت عليه. فالمؤشرات على صحة تحليلات جابوتنسكي وتنبؤاته بعد أكثر من 75 سنة على طرحها، وقبل تأسيس الدولة العبرية، آخذة في التراكم منذ زمن بعيد يسبق إنتفاضة الأقصى الحالية. أبرز هذه المؤشرات أن الإعتراف بالدولة العبرية لم يعد في عرف السياسة العربية نتيجة للسلام، وإنما شرط لا بد من تحقيقه مسبقاً للدخول في مفاوضات هذا السلام. وهذا لم يكن ممكناً التوافق عليه من دون تطبيق إسرائيل استراتيجية الجدار الحديد، وإذعان الأطراف العربية لوطأة هذه الاستراتيجية. بل لقد تجاوز الأمر ذلك بأن أصبح التطبيع هو الآخر مترافقاً مع الإعتراف كشرط مسبق ترى إسرائيل أنه لا بد من تحقيقه قبل قبولها الدخول في مفاوضات السلام أيضاً. ولم يكن أمام العرب جدار حديد لا يستطيعون إختراقه إلا القبول بهذا الشرط أيضاً. وفجأة انقلبت معادلة الصراع. لم تعد إسرائيل هي الطرف الذي يطالب بالإعتراف، وبضرورة المفاوضات السلمية لإنهاء النزاع. أصبح عبء هذا الدور على الأطراف العربية، وعليها هي تحديداً الدفع به إلى نهايته المنطقية. ولعل ما يدور الآن، وسط حرب شارون البشعة، حول ما يعرف بالمبادرة المصرية الأردنية، أوضح دليل على ذلك. أحد البنود الرئيسية لهذه المبادرة يدعو إلى وقف العنف هكذا. بعبارة أخرى، يتبنى الطرف العربي الآن النظرة الإسرائيلية وتوصيفها لإنتفاضة الأقصى، أو إنتفاضة الإستقلال، ويساوي بين قوة الإحتلال وضحية هذه القوة. وفي هذا تجاهل للإحتلال ولآلة العنف الإسرائيلية كمسببات لإنتفاضة الشعب، وأن هذه الإنتفاضة رد فعل طبيعي ومشروع في مثل هذه الحال. وهذا يعني، إذا ما نجحت محاولات إجهاض الإنتفاضة، إعادة زمام الأمور إلى الحكومات حصراً، ومن ثم العودة إلى مسلسل المفاوضات اللانهائية التي تتخللها إتفاقات موقتة، تتغير بنودها حسب من يتولى رئاسة الحكومة في تل أبيب. وإذا ما صح أن العاهل الأردني، حسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، قد حذر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بأنه إذا لم يوقف العنف فإنه قد يجد نفسه منفياً مرة أخرى إلى تونس، يكون منطق الجدار الحديد قد إقترب من بسط سيطرته النهائية على منطق الأحداث في المنطقة. نعم، هناك بنود في هذه المبادرة تدعو إلى وقف الإستيطان، وإلى العودة إلى المفاوضات من حيث انتهت، لكن منطق الجدار الحديد، مضاف إليه تاريخ عملية السلام، وتاريخ التنازلات العربية لا يعطي الأمل في أن شيئاً من ذلك سيتم الإلتزام به من قبل الجانب الإسرائيلي. الأكثر من ذلك أن شارون قال في حديثة إلى صحيفة ال"جيروزالم بوست" الاسبوع الماضي، أن هدف هذه المبادرة لا يتجاوز وقف العنف، والعنف فقط. وعندما سئل عن فكرة البدء بمفاوضات الحل النهائي كانت إجابته قاطعة : "نحن لا نتحدث عن ذلك إطلاقاً، وقد أكدت ذلك". وهذه، بشكل أساسي، هي التعديلات التي تتحدث الأخبار عن أن إسرائيل تعمل على إدخالها على المبادرة المذكورة. منطق القوة لا يتوقف عند حد المسائل السياسية والإستراتيجية، وما كان له أن يتوقف. فوسط عملية السلام، ووسط كل التنازلات العربية الضخمة وتهاوي كل المحرمات، يتبين أن مطالب إستراتيجية الجدار الحديد لا نهاية لها. عاد التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع أن حرب "جيش الدفاع الإسرائيلي" على الشعب الفلسطيني لا تزال مستمرة. والمعروف أن التنسيق الأمني يهدف حصراً إلى تحقيق الأمن للإسرائيليين في وجه العنف والإرهاب الفلسطينيين. والمشاركة الفلسطينية في عملية التنسيق هذه تتضمن إعترافاً وإقراراً بأن السلام لا يهدف في الأساس إلا لحماية الأمن الإسرائيلي، ومن ثم فجوهر الصراع لا يتجاوز هذه المسألة كثيراً. ومن هنا يأتي السؤال المحير: لماذا قبلت السلطة الفلسطينية، ولا تزال تقبل، المشاركة في مثل هذه العملية؟ وما هو المردود الذي ترتب على هذه المشاركة لأكثر من سبع سنوات حتى الآن؟ حتى عندما نتجاوز ذلك إلى مستوى الأمور الرمزية تتبدى نجاحات الإستراتيجية الإسرائيلية واضحة للعيان: تحت وطأة الحصار والقصف والقتل اليومي لشباب الإنتفاضة يجد الرئيس عرفات الوقت لأن يتصل برئيس الحكومة الإسرائيلية، أرييل شارون، ويقدم له التهنئه بعيد الفصح. وقبل ذلك لا يجد مناصاً، وتحت الظروف نفسها، من الرضوخ لمتطلبات البروتوكول الديبلوماسي لإرسال برقية تهنئة له على فوزه في الإنتخابات. والأكثر دلالة من هذه الناحية أن الرئيس عرفات ما كان في إستطاعته إلا الرضوخ أخيراً لطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بإعطاء تعليماته لرجال الأمن الفلسطينيين بوقف إطلاق النار معترفاً بذلك بأن مسؤولية العنف تقع أساساً على الجانب الفلسطيني. نجاح إستراتيجية الجدار الحديد الإسرائيلية لم يكن ليتحقق لولا نجاح فكرة بناء علاقة تحالف متينة بين الدولة العبرية والقوة العظمى في النظام الدولي. وقد نجحت إسرائيل من الناحية الديبلوماسية في كسب حلفاء لها من بين أهم الدول الكبرى، وإستطاعت إقناعهم بالنظر إلى صراعها مع العرب من الزاوية التي تنظر هي من خلالها إليه، وهي الزاوية التي تربط بين مصلحة إسرائيل وأهدافها، وبين مصالح الدول الغربية في المنطقة. وقد فشل العرب فشلاً ذريعاً في مواجهة هذه الإستراتيجية الإسرائيلية في مختلف مراحل الصراع. أصبح هدف العرب على هذا المستوى لا يتجاوز محاولة التخفيف من حدة إنحياز تلك الدول لوجهة النظر الإسرائيلية. لكن نجاح إسرائيل كان بالضرورة إمتداداً لنجاحها في حقول ومجالات تمثل الأساس للدولة. نجحت إسرائيل من الناحية العسكرية، وعلى مرأى من كل العرب، في بناء جيش هو الأقوى في المنطقة، وأحد أفضل الجيوش في العالم. ونجحت إقتصادياً في توفير أحد أفضل متوسطات الدخل في العالم، ووصل حجم الإقتصاد الإسرائيلي إلى أن أصبح يعادل إقتصاديات الكثير من الدول العربية مجتمعة. مع كل تلك النجاحات أصبح بإمكان إسرائيل القول أنها تمثل حليفاً يمكن الإعتماد عليه من قبل الدول الكبرى. كما أصبح بإمكانها، في إطار إستراتيجية الجدار الحديد والتحالفات الدولية، أن تفرض خياراتها على الأطراف العربية. والغريب كذلك أن النجاح الإسرائيلي يبدو للكثيرين أنه لم يأتِ إلا في أواخر السبعينات من القرن الماضي عندما قام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته المشهورة إلى القدس مقدماً بذلك الإستسلام العربي على منصة الكنيست الإسرائيلية. لكن الحقيقة أن جذور النجاح الإسرائيلي وبداياته سبقت ذلك بكثير، لأن السادات والخط السياسي الذي جاء به لم ينبت من فراغ، وبالتالي لم يكن إلا نتيجة طبيعية لما قبله. هذا لا يعني أن ما قام به السادات من خطوات وتنازلات، ومن تسويغات سياسية لكل ذلك، يمثل إمتداداً للخط السياسي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكنه كان نتيجة طبيعية لهذا الخط وللنظام الذي أفرزه. وإذا كان التغير في السياسة المصرية جاء نتيجة لتغير القيادة العليا، فإن تغير السياسة الفلسطينية حدث على يد القيادة نفسها التي قادت النضال الفلسطيني لأكثر من ثلاثة عقود. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن بقية الأطراف العربية الأخرى. هذا يعني ببساطة أن الإدارة العربية للصراع كان محكوماً عليها منذ البداية أن تؤدي إلى النتائج التي نراها الآن على أرض الواقع. لماذا نجحت السياسة الإسرائيلية طوال خمسين سنة من الصراع؟ ولماذا أخفق العرب في مواجهة هذه السياسة فشلاً ذريعاً؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي مواجهته بكل جد وشجاعة وأمانة. أما الحديث عن المؤامرات والإنحياز الغربي للدولة اليهودية فلن يجدي كثيراً. لقد تحدثنا عن ذلك كثيراً طوال نصف قرن من الصراع. فلنجرب حديثاً آخر. * كاتب سعودي