الندوة التي اقيمت على هامش مهرجان ميلانو للفيلم الافريقي، والمخصصة لمناقشة حال "السينما المغربية"، أعادت طرح أسئلة تلك السينما ومعوقات نهوضها. ومثل هذا الاستذكار، على رغم تأخره بعض الوقت، جاء في محله. فنتاج السينما المغربية والآليات المتحكمة بها بقيت خارج دائرة الاهتمام النقدي والتغطيات الاعلامية، اذ لا يصلنا من هناك سوى نتف من أخبار مبتسرة. فقد أرتضى الفيلم المغربي لنفسه، أو روض، بقبول دور يشغل به مساحة محددة. وعلى عكس نتاجات السينما المغاربية الأخرى الأكثر ضجيجاً وحضوراً، مثل التونسية والجزائرية، بقيت التجربة المغربية تصارع ذوق مشاهدها المحلي وتغالب للوصول الى الجمهور العربي الواسع. صحيح ان همّ وصول الشريط الشمال افريقي الى المشاهد العربي بقي واحداً من الأماني العزيزة لصناعه، لكن حصة المغرب ظلت دون مستوى انتاجه، على رغم تفوقه بها على جيرانه. القاء الضوء على تلك التجربة جاء عبر مداخلات نور الدين صايل المدير العام للفضائية المغربية الثانية، والمخرج عبدالقادر لقطع، والفنانة عزة جنيني المقيمة في باريس، والناقد السينمائي احمد بوغابة، وعبداللطيف القحاي من المركز السينمائي المغربي، لتصب في رسم تصور أولي لمشكلاتها، بدءاً بضعف البنى التحتية وتبعثر الانتاج السينمائي المحلي، اذ لا يتجاوز خمسة أفلام في السنة، وقلة عدد الصالات التي لا تتعدى المئة والستين، مروراً بسوء التوزيع وعشوائيته، وانتهاء بمشكلة التمويل والاستثمار في القطاع السينمائي. ولئن كان حضور المكان واستلهام فضاءاته سينمائياً هما المحور الذي تناوله الناقد ليوناردو دي فرانشسيكي عبر بحثه "بطاقات سينمائية من المغرب: صورة المدينة من الداخل"، ليكون مقدمة الفقرة الاستعادية لهذه السينما، فإن الناقد احمد بوغابة اقتفى تاريخها من زواية منجزها الفني وعلاقة الأستحواذ التي ولّدتها مع المشاهد المحلي. لكن خلاصات الندوة بدت أوضح في تشخيص أزمة السينما وبما يشبه البوح العلني، وتشعبت في دروب بعيدة من تلك النظرة الرومانسية أو السرد التاريخي. بين ما تشي به تلك الخلاصات وان ثقافة الصورة ولدت قبل ان ينتج أي فيلم سينمائي في ذلك البلد. فقد عرف المغرب السينما، ليس فقط من خلال عروض أفلام في صالات سينمائية معدودة ولجمهور غالبيته من أهل المدن ونخبوي، ولكن من خلال كمِّ من الأفلام التي صورت في مدنه وصحاراه. وفي الموازاة، وعلى صعيد المشاهدة، كان لحضور الشريط المصري دور مهم في صقل الذائقة الفنية والشعبية آنذاك، خصوصاً في العقود الثلاثة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. الا ان تأثير هذه الشريط، بما يحمله من مواصفات وميزات تسويقية، انحسر تالياً، ليفتح الآفاق امام الانتاج المحلي الذي خاطب وجدان المشاهد بلهجته وهمه اليومي، وعند هذه النقطة اشتكى من أسهم في تلك الندوة بعدم تكافؤ فرص عرض الشريط المصري، مقارنة بمثيله المغربي في السوق المصرية، وعلى رغم ان الفيلم المصري يحتل المركز الثالث بين الأشرطة المعروضة في الصالات بعد الأميركي والهندي، الا ان ذلك لا يجد ما يقابله على صعيد حظوظ عرض الفيلم المغربي في السوق الشرقية. ومن سمات الفيلم المغربي أنتماؤه الى سينما ذات هاجس اجتماعي. بمعنى ان المنحى الاجتماعي الذي دشنه عمل المخرج أحمد بناني في شريطه "وشمة" عام 1970، أصبح الجامع المشترك للنتاجات اللاحقة. وعند هذه النقطة أشادت المداخلات بتلك المغامرة، كونها فتحت باب التجريب لرهط من جيل الشباب المتحمس لسينما مغايرة ومتميزة بلغتها التعبيرية. طرح أسئلة ورؤى مختلفة عززت الوعود ومنحت الثقة بالتعامل مع واقع متغير، ما أسهم في تشكيل ألوان الطيف السينمائي المغربي. وكان أيضاً من سمات تلك السينما انها أبقت لنفسها مساحة من الاستقلال، أي انها لم تكن سينما نظام أو بوق ايديولوجية بعينها، بل سينما "العون"، وقد حملت في ثنايا خطابها ولغتها السينمائية صوت الفنان الواقف خلف كاميرته، ما أعطى الفيلم معنى ونفحة مختلفتين. بطرح أسئلة وجعل المشاهد شريكاً في البحث وادراك الأجوبة. أي ان القول السينمائي تجاوز مرحلة التردد والمغامرة ليرسم دوره في قبول واقعه بكل ما يحمله من عناصر معقولة ومرة في آن. فالسينمائي، بحسب قول صايل، هو شاهد حضارة ومخاوفه من هرب قطارها وهم في ذهن صاحبها. ولئن كانت الندوة قدمت مدخلاً وهامشاً للتعريف بتلك السينما، فإن نتاجاتها كانت بمثابة فرصة لقراءة جديدها. فقد عرض المهرجان شريطين حديثين التقيا في مضمونهما الاجتماعي واختلفا في أساليب السرد السينمائي. والاختلاف هنا لا يطاول الحبكة، وانما الإفادة من ممكنات تطويع اللغة السينمائية وكسر رتابة القواعد المدرسية. وربما ما يتوافر في شريط "علي زاوا" لنبيل عيوش من لغة لماحة وذكية، يضع "ضفائر" جيلالي فرحاتي في موقع الحرج في تناول موضوعه المهم والحساس. وتفصح هذه المفارقة، أيضاً، عن فهمين مختلفين لتقويم المنجز السينمائي والآمال المعقودة عليه. يدور شريط "علي زاوا" الذي نال مخرجه الجائزة الثالثة في المهرجان، وهو الثاني له بعد "مكتوب" على مجموعة صبية من مشردي المدن، وهم أطفال غير عاديين يهيمون في تشرد لا طائل له كما البحر، ويتخذون من الزوايا والشوارع الخلفية والخربة المطلة على ميناء مسرحاً لحركتهم. يودعون في ذهاب السفن وايابها، أحلامهم الصغيرة بعيداً خلف البحار، ومن دون غضاضة التمرد على يومياتهم. مستويان يتحكمان بايقاع شريط "علي زاوا"، الأول، يأخذ مشاهده وعبر تتبع حدثي ممتع ليوميات تلك الثلة ومفارقات أفعالها. والثاني يتجاوز ظاهرة التشرد ليصب في معنى الحلم الشخصي. والمستوى الثاني هو ما أراد المخرج ان يضع ثقله الفني حول مساراته. وكان مقتل علي في مواجهة عرضية مع عصابة ذيب بمثابة الذروة الدرامية. وفي المقابل، جاء شريط "ضفائر" لجيلالي فرحاتي، العمل المنتظر من زمن، لا يعكس سمعة ومكانة لمخرجه الذي عرفناه في "شاطئ الأطفال الضائعين". فقد اختار المخرج لشريطه حبكة ظاهرها سياسي، مستفيداً من حال الانفتاح السياسي التي يعيشها بلده، وعبر محام يقرر ترشيح نفسه الى الانتخابات المحلية ممثلاً الجماهير الصامتة. لكن باطنها يدور على مفهومي الحق والعدالة في المجتمع المغربي، ومن خلال الخادمة كنزة التي يقودها وضعها الاجتماعي المتدهور، وسجن زوجها لأسباب نجهلها، الى العمل في بيت ذلك المحامي، نظافة السجل الشخصي لهذا المرشح وحماسته في تحقيق وعوده الانتخابية سرعان ما تصطدمان بعقبات يكون ولده احدها. فسلوك ذلك الشاب الطائش لا تعرف الحدود، وهو ما شجعه على الاعتداء واغتصاب الأخت الصغرى لمخدومتهم. وكان يعتقد ان موقع والده البارز في الحياة العامة، وحال الفقر التي تعيشها عائلة تلك الشابة، ستخفف من وقع هذا الحادث. جاءت معالجة فرحاتي رتيبة وخالية من الايقاع السريع، لأنها لا تمنح المشاهد أي قدرة على وضع نهاية غير تلك المتوقعة. فاعتماده ممثلين محترفين لم ينقذ الشريط، بل جاء في معظم لقطاته القريبة أقرب الى المسلسل التلفزيوني منه الى فيلم.