لم يكن سعدي يوسف في مقدمته القصيرة والبليغة لأعمال فوزي كريم الشعرية ليجافي الحقيقة في شيء حين انتهى الى خلاصة أخيرة مفادها "أن شاعراً قليل الادعاء، أطلق صيحته كأعمق ما تكون الصيحة، وكأعلى ما تكون الصيحة في آن". هذا ما اتضح لي على الأقل بعد قراءة هادئة ومتأنية لنتاج فوزي كريم الشعري الذي لم أتمكن من الاطلاع على جانب كبير منه وبخاصة ما كتبه الشاعر في السنوات العشر الأخيرة. لقد لفتني الى حد بعيد أن يؤثر شاعر بالغ الخصوصية والتميز الابتعاد عن الأضواء والاقامة في الظل والعزوف عن الضجيج الاعلامي فيما تضج الساحة الشعرية العربية بأصوات أقل قامة وموهبة وفرادة من صاحب "قارات الأوبئة" و"لا نرث الأرض" وغيرهما من الأعمال. لذلك فإن الخطوة التي أقدم عليها الشاعر بدفع أعماله الكاملة الى المطبعة جاءت في محلها تماماً لأنها تتيح للقارئ العربي ان يتعرف وسط هذه الفوضى المصحوبة بالنفاق والادعاء أن يتعرف الى أحد أكثر الأصوات العراقية، والعربية بوجه عام، اتصالاً بجوهر الشعر وحقيقته العميقة. لقد اختار فوزي كريم أن يبدأ من الخاتمة وأن يستهل أعماله الشعرية بآخر ما صدر له ثم يعود القهقرى بعد ذلك وصولاً الى البدايات. وواضح أن الشاعر يرمي من وراء ذلك الى الايحاء الضمني بأن أعماله الأخيرة هي التي تعبر أكثر من سواها عن صورته الراهنة من جهة وعن نضجه التعبيري من جهة أخرى. وقد يكون الشاعر محقاً في رؤيته تلك لأن البواكير والأعمال الأولى غالباً ما تكون ثمرة غير يانعة من ثمار التجربة وتمريناً مشوباً بالعاطفة والانشاء المتعثر على القول الشعري. لكن من يقرأ بعناية نتاج فوزي كريم بمجمله لا يجد تلك الفروق النوعية الكبيرة التي تفصل بين المجموعات الأولى والمجموعات الأخيرة. وهو أمر لا يعود الى محدودية التطور الذي أصابه الشاعر خلال ما يزيد على ثلث قرن بل الى النضج المبكر للشاعر الذي لم تمنعه حداثة سنه في الستينات والسبعينات من تقديم قصيدة بعيدة عن الخطابة وقرع الطبول على رغم ما حفلت به المرحلة من صخب الايديولوجيا وهدير العقائد. لا بل اننا نستطيع بقليل من الاستبصار والتأني ان نلاحظ ان العناصر الأهم التي تشتمل عليها الأعمال الأخيرة لفوزي كريم مبثوثة ولو بشكل أولي في كتاباته المبكرة التي شكلت منذ بدايتها ارهاصاً حقيقياً بشاعرية فوزي كريم اللاحقة. فالتأمل والاستبطان والتوتر الداخلي والنزوع الى الحكمة ومقاومة اغراء الانشاء والايقاع الصاخب والميل الجارف الى الحزن والوصول الى قاع المأساة، كل هذه العناصر وسواها نلمح نذرها الأولى في مجموعتي "حيث تبدأ الأشياء"، الصادرة في أواخر الستينات، و"جنون من حجر" التي صدرت بعدها بتسع سنوات كاملة. والمسافة الزمنية الطويلة التي تفصل بين المجموعتين هي دليل ملموس على مجانبة فوزي كريم للغزارة المتسرعة والسيلان الكلامي والحاحه الواضح على الحفر والكدح والاشتغال على اللغة من دون تكلف أو اصطناع. واذا كانت أعمال الشاعر خلال ثلاثة عقود ونصف لا تزيد على الثماني مجموعات فما ذلك الا تعبيراً بليغاً عن الجدية والرصانة ومقاومة الاستسهال. لم يأبه فوزي كريم كما هو ظاهر من قصائده لوطأة النظريات النقدية الجاهزة والتصنيفات المسبقة للشعر. لذلك فقد تجاوز بداياته عصبيات المدارس والمذاهب والأشكال التي لم ير فيها على الأرجح سوى وسائط ومقاربات مختلفة لجوهر واحد هو الشعر. وفي وقت كانت الساحة فيه تكتظ بالصدامات المختلفة بين الحداثة والتقليد أو في داخل ساحة الحداثة نفسها بدا فوزي كريم وكأنه لا يأبه الا لنداء الشعر نفسه وللأسئلة المحصنة والمقلقة التي تنتابه وساوسها في الصميم. أما المسافة بين الأشكال فتغدو هامشية وبلا معنى ازاء جدة الرؤيا وانقلابها على السائد. لذلك فهو يعبر من داخل الوزن والقافية التقليديين عما هو طازج ومغاير ومنتم الى صميم الحداثة وقرارتها، وهو الذي يتلمس في مطلع السبعينات مواطئ مختلفة لأسئلة الكتابة ووزنها التقليدي: "أرى خلل الرماد وميض نارٍ/ ويوشك ان يصير دمي صداها/ وألمس سرَّها علناً فتخبو/ وأخبو حين تلمسني يداها/ فأجهش بالبكاء لأن عيني/ تحنُّ الى سماءٍ لا تراها". هكذا يؤسس فوزي كريم منذ بداياته لغنائية المعنى التي تتلمس أمكنتها في ما يتعدى الأوزان والبحور والتطريب العادي. والقلق الذي في داخله لم يتأخر ظهوره طويلاً ولم يمهل الشاعر حتى سني الكهولة أو الشباب المتأخر بل بدا جلياً في الكثير من قصائد مجموعتيه الأوليين "جنون من هجر" و"عثرات الطائر". لم يكن الشاعر بالطبع بعيداً عن الموجات الايديولوجية والسياسية التي حكمت مرحلة السبعينات بوجه خاص ولم يخف انحيازه في شكل خاص لقوى الثورة والتقدم والتغيير وللطبقات الفقيرة والمسحوقة، شأنه في ذلك شأن معظم ابناء جيله، ولكن اللافت عند فوزي كريم هو أن شعره كان في معظم الأحيان يخترق سقف الايديولوجيا التي يعتنقها ليذهب بعيداً في مغامرته اللغوية والرؤيوية. صحيح انه كعراقي، وكعربي، محكوم بالهواجس نفسها التي يعيشها مواطنو العالم الثالث كالتخلف والأمية والبؤس والاستبداد وغياب الحرية ولكن هذه القضايا لا تبرز في قصائد الشاعر في شكل سطحي ونافر ومباشر بل تتخذ لها أقنعة تعبيرية مختلفة تتراوح بين الأسطورة والخرافة والحكمة والرمز والتأويل. وحتى في القصائد التي تعتمد التسديد المباشر الى المعنى وتقريع الكتاب والشعراء المنافقين والمتزلفين للحكام نلمس تلك المراوغة الجميلة التي تعرف كيف تنأى بنفسها عن الفجاجة والتقرير والوعظ كما في قصيدته القصيرة والمؤثرة "الى شاعر ما": "لماذا يخرج الكتبة/ الى الحلبة؟/ ويكتسب المصارع من دم الثيران حلته؟/ ترى من أوحش المعنى عن الكلمات/ من قاس السريرة بالرضى/ والسيف بالرقبة؟/ أعن معنى تركت أخاك فوق صليبه/ وبكيت من صلبه؟". مثل هذا الجمع البليغ والصادق بين الفكرة ومعادلها التعبيري والجمالي يتكرر دائماً وبشكل أكثر تكثيفاً وأقل احتفاء بالايقاع في أعمال فوزي كريم اللاحقة وان حرص الشاعر باستمرار على الاخلاص للتوازن الدقيق بين عناصر القصيدة بحيث لا يطغى أحدها على الآخر بشكل كامل. والذي ساعد الشاعر على تحقيق هذا التوازن هو ميله الدائم الى القصيدة القصيرة التي تتراوح بين الفكرة المكثفة وبين البرقية والومضة والتوقيع. فباستثناء قصيدته الطويلة والملحمية "قارات الأوبئة" لا نكاد نعثر على نصوص تعتمد الاطناب والشرح والاطالة الانشائية الفضفاضة. حتى "قارات الأوبئة" نفسها تجانب الوقوع في النمطية والاملال عن طريق تكسير الرؤيا وتشطير الزمن واللجوء الى العناوين الفرعية كوسيلة فضلى لتقديم السيرة الشخصية التي يجتمع فيها الخاص والعام، الماضي والحاضر، الشخصي والجماعي بحيث تتحول الى تأبين شامل للمكان والزمان المضروبين بوباء التخلف ولعنة السلالة. فمن هواء الطفولة الطري الى حانات بغداد ومقاهيها وأرصفة شوارعها المكسوة بالأمل والخيبة، ومن فردوس بيروت المثخن بالخسارات الى تزجية الوقت العقيم في مقاهي دمشق وصولاً الى طبيعة لندن الداكنة وما يعادلها من صقيع المنافي ثمة هذا الوقوف المزمن على قارعة الذكريات وهذا الهسيس الدفين والدافئ للمرايا العائلية الهاربة. "هادئ الطبع أدخل مرآتها الصافية/ عارياً من ثيابي/ ومن هاجس كان يثقلني في طريقي اليها/ "كن ثيابي" تقول/ وصغيران بين يديها/ يربكاني بداء الفضول:/ "يا أبانا الذي يتطلع للعودة الثانية/ كم تراها تطول"/ وعزائي رياح تهشُّ قطيع السحب". لا بد في هذا السياق من الاشارة الى ظاهرة فنية وتعبيرية تكاد تصبح ميزة لأزمة لشعر فوزي كريم وهي تتعلق بهذا القطع الايقاعي المفاجئ الذي يجيء في ختام القصيدة ويحدث انقلاباً مباغتاً في التناظر والمماثلة كما في المناخ النفسي. فالسطر الأخير "وعزائي رياح تهش قطيع السحب" يكسر في شكل غير متوقع الترجيع المتولد عن تماثل القوافي ويذهب بالقصيدة الى حيث لا ينتظر القارئ، سواء على مستوى الصورة والسياق أو على مستوى الايقاع نفسه. يبتعد شعر فوزي كريم من جهة اخرى عن العموميات و"الكليشيهات" والموضوعات الكلية ويجنح الى ما هو حميم وتفصيلي وشديد الخصوصية. وهي ميزة شديدة الأهمية قياساً بنزوع معظم أبناء جيله الى القصيدة الشمولية التي تحاول قول الأشياء كلها دفعة واحدة. الشعر هنا نفاذ ومساردة وكشف دائم عن الاشكالي والغامض والملتبس في النفس الانسانية. القصيدة في هذه الحالة مجازفة ورهان وعراك مع الواقع وليست وصفاً أو انطباعاً عابراً أو محاكاةً للواقع. يكفي ان نستعيد عناوين القصائد وموضوعاتها لكي نتأكد من أن الشعر يغطي الحياة بكاملها موزعاً نفسه بين المشاعر والأماكن والحالات والأزمنة والخيارات المتعارضة. لكن ما يحافظ الشاعر عليه في جميع مراحله هو ذلك الاحساس المر بالغربة والنفي سواء كان موجوداً داخل الوطن أم خارجه. غير ان اللمسة الوجودية التي تواجهنا دائماً في تجربة الشاعر لا تفضي الى العدمية والعبث واللاجدوى بل الى البحث عن بر للأمان موجود في مكان ما من النفس الانسانية وعن مرآة صادقة تخرجنا من متاهة التعدد والانفصام نحو اللقاء الحقيقي بالذات. وهو ما يعبر عنه الشاعر في ديوانه "مكائد آدم" بقوله: "يكتفي الشعر باللحظة الخاسرة/ حين تفلت من زمن الآخرين/ القصيدة منفى/ وأنت تفتش عن عزلةٍ للقصيدة!/ ايها الشاعر/ لا تقس رغبةً تعتريك أمام مرايا كثيرة". واللافت في قصيدة فوزي كريم انها تتغذى من عناصر متباينة ومختلفة المناهل. ففي حين تقترب هذه القصيدة من الواقعية المتصلة بالمعيش واليومي والمحسوس تندفع من الجهة المقابلة نحو فضاء الأسطورة محاولة الافادة الى أبعد الحدود من الخلفية الميثولوجية لعالم ما بين النهرين ومناخات الشرق برمتها. وهي من جهة ثالثة لا تقطع الصلة مع الديني والروحي والمتصل بالتصوف. لكن المنحى الصوفي عند الشاعر ليس منحى طقوسياً أو لغوياً أو استعراضياً بل هو وليد النزوع الى الكشف والاستبطان والميل الى سبر غور الأشياء اكتناهها. وربما كان هذا الميل بحد ذاته هو السبب الذي يدفع بشعر فوزي كريم نحو الحكمة أو ما يشابهها. غير ان الحكمة هنا ليست الحكمة التقليدية المتصلة بالوعظ والتعليم بل الوصول الى خلاصات التجربة ونهاياتها المكثفة، كقول الشاعر: "... الاسفار/ فردوس الحمقى/ والبيت مضيق يوصل هاويتين". أو قوله في مكان آخر "البحر أوسع الذنوب". لا يمكن في هذه العجالة الوقوف على تجربة فوزي كريم الشعرية برمتها، بل هي قراءة، أولى ومتعجلة لهذه التجربة المتميزة التي تحتاج الى المزيد من التعمق والدراسة والبحث. * صدر الجزءان عن "دار المدى"، دمشق 2001.