عملية الاستلام والتسليم التي ستجري خلال أيام قليلة في البيت الأبيض بين الرئيس المغادر بيل كلينتون والرئيس القادم جورج بوش الابن ستشمل قضايا وملفات كثيرة، إلا أن التركة الأكثر ثقلاً وسخونة هي بلا شك قضية الشرق الأوسط بكل ملفاتها وتشعباتها ومتاعبها وهمومها ومخاطرها. صحيح ان من الخطأ انتظار الترياق من السلف أو من الخلف بعد أن اكتوينا بتجارب مريرة تأرجحنا فيها بين رئيس جمهوري وآخر ديموقراطي خلال أكثر من نصف قرن، إلا أن الواقع يقول لنا إن الظروف هذه المرة مختلفة من كل الجوانب في ضوء المتغيرات التي جرت في العالم والمنطقة والتحليلات الدقيقة لنتائج الانتخابات الأخيرة في الولاياتالمتحدة. صحيح أن السياسة الأميركية ثابتة تقوم على استراتيجية معدة سلفاً ولا سيما في الشرق الأوسط حيث دفعت بالانحياز الكامل لإسرائيل والرضوخ لضغوط وابتزاز اللوبي الصهيوني، إلا أن التطورات الأخيرة والأخطار التي تهدد المصالح الأميركية وبروز معادلات جديدة داخل البيت الأميريكي وفي المنطقة في إطار عوامل كثيرة لا بد أن تسهم في تحريك ملف مسيرة السلام خلال أقرب وقت وبعد أن يثبت بوش الابن أقدامه في البيت الأبيض ويكمل بناء إدارته الجمهورية ووفق اسلوب جديد ومنطلقات تختلف حتماً عن تلك التي تبنتها إدارة الرئيس كلينتون خلال ولايتي حكمه ورسمتها مراكز النفوذ الصهيونية واليهودية التي كانت تعشعش في مختلف دوائر صنع القرار من البيت الأبيض إلى مجلس الأمن القومي ووزارتي الخارجية والدفاع وصولاً إلى الكونغرس والدوائر الأخرى. وصحيح ان "الترياق" لا يحصل عليه العرب من هذا الرئيس أو ذاك في أميركا أو غيرها، لأن التجارب علمتنا أن أكثر الرؤساء تعاطفاً مع قضايانا، حسب تحليلاتنا وأحلامنا، كان بعيداً جداً عن أمانينا القومية ومطالبنا العادلة وحقوقنا المشروعة، وعبثاً نحاول مهما تحدثنا عن رئيس صديق أو رئيس متفهم، إذا لم يوحد العرب صفوفهم وأوراقهم وقوتهم ويتحدثوا بصوت واحد ونبض قوي، ويتخذوا مواقف حاسمة، ولا شك أن انتفاضة الأقصى قد نجحت في تشكيل نواة يمكن البناء عليها والانطلاق نحو هذا الهدف السامي، إذا خلصت النوايا ونفذت الدول العربية وعودها. ولا شك أن الرئيس جورج بوش الابن سيجد نفسه عاجلاً أو آجلاً، أمام معضلة لا مفر من الخوض فيها ومحاولة حل رموزها وألغازها ومواصلة المسيرة التي بدأها والده عندما أعلن مبادرته الشهيرة للسلام في الشرق الأوسط التي انعقد على مبادئها مؤتمر مدريد عام 1991. التركة ثقيلة ومعقدة ولكن الخطوة التي ستذلل العقبات وتعيد تصحيح المسار لا بد أن تكمن في العودة إلى الاصول، أي إلى نقاط مبادرة بوش الاب ووزير خارجيته جيمس بيكر التي تقوم على أساس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام. فقد انحرف المسار خلال عهد الرئيس كلينتون وتم تقزيم المبادرة الأصلية لتتحول إلى اتفاقات جزئية هزيلة... وهزلية في آن واحد لتفصل على قياس إسرائيل ومخططات التوسع الصيهونية وتصبح أكثر سوءاً حتى من المشاريع الإسرائيلية السابقة مثل خطة ألون وغيرها. إضافة إلى التركة، هناك واقع جديد سيجد بوش الابن نفسه في مواجهته عربياً وإسرائيلياً، هناك مأزق حقيقي في مسيرة السلام لا سيما على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي وتراجع ليس عن صيغة مدريد فحسب، بل أيضاً على الاتفاقات الموقعة في أوسلو وأخواتها والموثقة والمضمونة من الولاياتالمتحدة وعدة دول رئيسة أخرى. وهناك انتفاضة عارمة لم يعد هناك مجال لاسكاتها أو اطفاء نارها ونورها إلا بتلبية المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني والاعتراف بحقوقه وأولها حق الحرية والسيادة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتحرير المقدسات الإسلامية والمسيحية وفي مقدمها المسجد الأقصى المبارك، ورفض أية سيادة غير عربية أو إسلامية عليه. وهناك رأي عام عربي، رسمي وشعبي، يجمع على دعم هذه الانتفاضة، ويرفض أي تفريط بالحقوق ولا سيما بالنسبة للقدس والحرم الشريف واللاجئين، ويطالب الراعية الوحيدة للسلام، الولاياتالمتحدة، بوقف انحيازها لإسرائيل والعودة إلى المبادئ التي اتفق عليها من قبل، والتي يمكن لجورج بوش الأب أن يشرح لابنه الرئيس تفاصيلها وأسرارها وخفاياها وأهميتها ومخاطر الخروج عليها. وهناك وضع جديد في إسرائيل يتمثل في المبالغة بالتعنت والرفض والتمرد حتى على الولاياتالمتحدة، بعد أن ساد التطرف والتعصب. فهناك انتخابات ستجري قريباً وتحمل إلى الحكم رئيس وزراء من ليكود أو العمل على بوش الابن التعامل معه بصراحة حتى لا يفقد مصداقيته ويضعف في الأيام الأولى لرئاسته التي تتزامن مع موعد الانتخابات المصيرية. ولا يمكن تبرير أي تقصير في هذا المجال، لأن والده تعامل مع رئيس أشد شراسة وتطرفاً وارهاباً من أي رئيس وزراء مقبل وهو اسحق شامير الذي استطاع "حمله" قسراً إلى مؤتمر مدريد للسلام بعد أن وافق على مضض على مبادرته. وبوش الابن قادر، لو أراد وخلصت نواياه، على تصحيح المسار والضغط على الأطراف لحملها على التوصل إلى اتفاق سلام عادل خلال العام الأول من حكمه، خصوصاً أن معظم النقاط المختلف عليها قد تمت دراستها وبحثها، كما أن الكثير من العقبات قد زال ولم يبق سوى بعض الخطوط الحمر على المسار الفلسطيني مثل القدس واللاجئين وبعض النقاط العالقة على المسارين السوري والفلسطيني. وقدرة بوش الابن على الإقدام ترتكز على معطيات عدة، أهمها وأكثرها قرباً تحرره من "جميل" الصوت اليهودي، فقد خاض اللوبي الصهيوني ضده معركة شرسة قبل الانتخابات وبعدها خلال معركة فلوريدا ووقف وراء منافسه آل غور ونائبه اليهودي أو ليبرمان بكل ما أوتي من قوة، فيما تمكن الصوت العربي من فرض نفسه في هذه الانتخابات للمرة الأولى، وأصبح يحسب له ألف حساب في ضوء مفارقة فارق مئات الأصوات بين بوش الابن وآل غور. ولا شك أن أي مرشح للرئاسة أو للكونغرس سيأخذ الصوت العربي في الحسبان في الانتخابات المقبلة، ويسعى لكسب ود العرب، أو على الأقل عدم اغضابهم وتلبية مطالبهم، كما فعل بوش عندما وعد بإلغاء قانون "الأدلة السرية" التي يشكو منه العرب. بل ان إسرائيل وأنصارها تنبهوا سلفاً لهذا التطور المثير، وبدأوا حملة تضليل وتحذير من تأثير الصوت العربي ونفوذه المستقبلي وقدرته على نزع سموم اللوبي الصهيوني. وقرأت أخيراً دراسات وتحليلات عدة لكتّاب يهود بينهم الياهو سلبتر "هآرتس" 1/11/2000، قال فيه إن يهود الولاياتالمتحدة ملزمون من الآن فصاعداً أن يأخذوا في الاعتبار أنه أصبح لهم منافس ذو وزن في صورة الناخب العربي. وقال أيضاً إنها للمرة الأولى في تاريخ تطوع اليهود الأميركيين من أجل دولة إسرائيل يجدون أنفسهم في مجابهة مباشرة مع جالية أميركية عربية منظمة تواجه اللوبي الصهيوني الذي ما زال يعتبر أكبر مجموعة للضغط ذات التأثير القوي في الكونغرس. فالقوة التي تقف قبالته اليوم لم تعد شركات النفط وحدها، إنما أيضاً ملايين الناخبين القادرين على التأثير في السياسة الأميركية. وحسب تقديرات الكاتب، فإن عدد الأميركيين من أصول عربية يتراوح بين 5 و8 ملايين، يضاف إلى ملايين المسلمين الأميركيين، أي بما يساوي عدد اليهود الأميركيين أو يفوقهم عدداً. وان هؤلاء تحولوا من تأييدهم التقليدي للحزب الديموقراطي إلى دعم الحزب الجمهوري بسبب التطورات الأخيرة بنسبة 40 في المئة لصالح الجمهوريين مقابل 28 في المئة للديموقراطيين. ولو أخذنا في الاعتبار نسبة العرب وغيرهم الذين دعموا المرشح الثالي اللبناني الأصل رالف نادر، إضافة إلى الذين صوتوا لجورج بوش الابن، فإنه لا يمكن لعاقل أن يدرك ان "الصوت العربي" كان حاسماً وفاعلاً في فوز بوش، خصوصاً أن الفارق بينه وبين آل غور لم يتعد المئات من الأصوات، إن لم يكن العشرات... وهذا درس يجب أن يعممه العرب على السياسيين لحملهم على عدم "تجاهل" هذا العامل الجديد المهم في دنيا السياسة الأميركية وفي "لعبتها الديموقراطية". هذا العامل لا بد أن يأخذه بوش الابن في الحسبان وهو يواجه استحقاقات السلام في المنطقة ويتذكر الحملة الصهيونية ضده مقابل الدعم العربي له... ويتلقى الدروس عن والده الخبير، ومن مستشاره جيمس بيكر الذي لعب دوراً بارزاً في انتصاره في معركة فلوريدا إعلامياً وقانونياً وسياسياً... ولا يمكن التأكد الآن من شائعات يروجها البعض بأن اتفاقاً تم "تحت الطاولة" في آخر لحظة يسحب من خلاله اللوبي الصهيوني دعمه لغور ويقف وراء بوش لقاء عدم تخليه عن دعم إسرائيل. وهذا ما يفسر أول موقف علني عن الشرق الأوسط يركز فيه على ضمان أمن إسرائيل، ربما لطمأنة اللوبي الصهيوني وإسرائيل. ولا يتوقع أن تظهر سياسة بوش العلنية الحقيقية ازاء المنطقة في الأيام الأولى من ولايته، نظراً لانشغاله في ترتيب أمور البيت الأبيض وإدارته بعد أن سرقه الوقت نتيجة للمعركة القضائية، وإعادة رأب الصدع داخل البيت الأميركي الكبير بسبب ملابسات الانتخابات والخلافات القانونية وشرعية الفوز وفق حساب الأصوات لو جرى إعادة عدها بمبادرة خاصة. ولكن يمكن الحكم على بوش الابن من خلال اختيار مساعديه ومستشاريه في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ودائرة الشرق الأوسط، والمؤشرات الأولى مشجعة وايجابية بالنسبة لشخصيات لها خبرة ودراية في أمور المنطقة مثل نائبه ديك تشيني وكولين باول وغيرهما من الأسماء التي لم تعرف على الأقل بانحيازها لإسرائيل أو بانتمائها للوبي الصهيوني واليهودي بشكل عام، على عكس إدارة الرئيس كلينتون التي كانت تعج بهؤلاء وزاد عليهم غور باختيار ليبرمان مرشحاً لمنصب نائب الرئيس، فسقط معه ولا بد أن يجرا معهما وزراء مثل مادلين أولبرايت الخارجية ووليام كوهين الدفاع ولورنس سامرز المال وساندي بيرغر الأمن القومي ومارتن انديك السفير المدان في إسرائيل ودنيس روس المنسق العام لشؤون الشرق الأوسط، وغيرهم من نواب وزراء وقضاة وكبار العاملين في شتى الإدارات والمؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية. ومن المستبعد أن ينجح بوش الابن في ازالة النفوذ الصهيوني بالكامل، فهذا حلم بعيد المنال، كما أنه من المستبعد أن يكون قادراً على القيام بذلك، أو أنه راغب في خوض غمار مثل هذه الحرب، ولكنه بالتأكيد قادر على الحد من هذا النفوذ وفرض إدارته كما فعل والده عندما جمد ضمانات القروض لإسرائيل بقيمة 10 بلايين دولار، وعندما أرغم شامير على قبول مبادرته وعندما رد بيكر على الصلف الإسرائيلي بتصريحه الشهير الذي قال فيه "إن رقم هاتفي معروف" فإذا ارادوا استئناف الاتصالات عليهم سوى أن يطلبوا هذا الرقم. وما علينا سوى الانتظار لرسم صورة واضحة عن معالم سياسة بوش الابن في المنطقة والمقارنة بين الأقوال، خلال معركة الرئاسة، والتي تعتبر مادة للاستهلاك المحلي... والصهيوني، وبين الأفعال عندما يتسلم مقاليد الحكم والمسؤولية ويجد نفسه أمام واقع لا بد من التعامل معه، فإما أن يستمر في مسيرة كلينتون التي قزمت المبادرة الأميركية وانحرفت عن مسار مدريد، أو أن يعيد تصحيح هذا المسار ويطبع المرحلة بأسلوبه التكساكي الجريء وطابعه الشخصي ومبادرته الخاصة التي لا تحتاج إلا إلى نفض الغبار عن مبادرة والده. فحسب الأقوال التي رددها بوش خلال الانتخابات تلخص مواقعه بالنقاط التالية: حل قضية القدس بما يرضي الإسرائيليين "نيويورك تايمز"، والتعهد لليهود بأنه عندما يصبح رئيساً للجمهورية سينقل السفارة الأميركية إلى القدس عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية. "الوسط"، العدد 1044، 19/2/2000، إلا أن نائبه ديك تشيني أكد قبل أيام أن هذا الموضوع سابق لأوانه، وأن العملية تحتاج إلى تزامن مع عملية السلام. بالنسبة إلى مفاوضات السلام، سأدافع عن المصالح الأميركية في الخليج، وسأدافع عن أمن إسرائيل أثناء مفاوضات السلام، إلا أنني يجب أن أدافع عن مصالح أميركا في المنطقة. والملاحظ أن بوش الابن حاول أن يكون غامضاً وعاماً في تناوله قضايا الشرق الأوسط، ومنها أيضاً الموقف من العراق، حيث حصر الأمر بعملية إعادة بناء قوة التدمير العراقية التي هدد بتدميرها. ولا بد أن يساعده عدم الخوض في التفاصيل على المناورة واتخاذ مواقف مختلفة عن سلفه. وهو سيعرف ان الأقوال شيء والأفعال شيء آخر عندما يكون في موقع المسؤولية ولا سيما عندما يتخذ قراراً بحجم نقل السفارة الذي سيهدد مصالح أميركا، وهو ما اعتقد أنه يدركه من خلال خبرة مستشاريه المحنكين وواقع المنطقة والادراك بأن أي مس بعروبة القدس يعتبر بمثابة صاعق تفجير لا يمكن لأحد التحكم بمفاعيله وانعكاساته. ولا بد أن نذكر بتصريح يتيم صدر عن بوش في المراحل الأولى لترشيح نفسه للرئاسة وتحدث فيه عن مصالح الولاياتالمتحدة النفطية والاقتصادية في المنطقة "دالاس مورنينغ" 26/4/2000 قائلاً: "الشرق الأوسط مهم لأميركا بسبب مصالحها الاستراتيجية من مصادر الطاقة هناك... السبب وجود إحدى صديقاتنا المقربات فيه وهي إسرائيل". وعلقت صحيفة "هآرتس" حينها على التصريح بقولها: "لقد وضع بوش الابن النفط قبل إسرائيل". وقد خفف بوش الابن من لهجته بعد الزوبعة التي أثارها تصريحه وتعرض فيه لحملات إسرائيلية وصهيونية وزار إسرائيل لاسترضائها، لكنه ظل متحفظاً برفض زيارة المستوطنات والإعلان بأن "قضية القدس تحل بالمفاوضات". ولم يبق سوى أيام على تسلمه مقاليد الرئاسة، وبالتالي يمكن الحكم على ممارساته وتصريحاته ومواقفه بعد العشرين من كانون الثاني يناير وليس قبله... وما يظهر حتى الآن أنه لن يكون ك"البطة العرجاء" كما يروج البعض، أو أنه ضعيف الشخصية، فهو حسب ما يصفه المقربون منه. ذكي وحازم ورجل مؤسسات يعتمد على اختيار مستشارين أكفاء يمنحهم صلاحيات واسعة، هذا إذا لم تستمر تأثيرات أصوات فلوريدا... أو لم توضع في طريقه العقبات ومحاولات نبش الماضي للكشف عن أية فضيحة بعد فشل محاولات التشهير بفضائح الادمان وغيرها... أو أن يتهور المتضررون وأولهم اللوبي الصهيوني، بتعريض حياته للخطر؟!! * كاتب وصحافي عربي.