ثمة حملة في إسرائيل اليوم لمنع تأدية اعمال الموسيقي الألماني الكلاسيكي الكبير ريتشارد فاغنر ضمن المهرجان الإسرائيلي للموسيقى. وقد طلبت احزاب المعارضة، والحكومة منع موسيقى فاغنر، وطلب الحزب الوطني الديني جلسة للكنيست لدرس الموضوع، في حين قال النائب ابراهام هيرشون إن عزف موسيقى فاغنر يعكس "تبلداً في الإحساس وقساوة وقلة احترام لذكرى ستة ملايين يهودي قتلوا في المحرقة". موضوع فاغنر من لزوميات الصحافة الإسرائيلية، فأنا أقرأ شيئاً عنه أسبوعاً بعد أسبوع، منذ بدئي قراءة الصحف الإسرائيلية مترجمة الى الإنكليزية قبل سنوات طويلة. الإسرائيليون، ويهود العالم، يقولون إن فاغنر كان الموسيقي المفضل عند هتلر، وهي تهمة شائعة، وإن كانت غير ثابتة، فمؤرخون كثيرون يصرون على أنه لم يحتل مكانة خاصة عند الفوهرر، ولكن ربما كان الموسيقي المفضل عند غوبلز. أهم من هذا ان فاغنر ولد سنة 1813 وتوفي سنة 1883، أي ان موته سبق ولادة هتلر في 1889 بست سنوات كاملة، وهو بالتالي لا يمكن ان يحمل مسؤولية أي عمل قام به هتلر. ونحن لو طبقنا اليوم منطق الموقف الإسرائيلي من فاغنر علينا لقلنا مثلاً إن الرئيس صدام حسين معجب بالمغني محمد عبدالوهاب، ويفضله على كل مغنٍ آخر، وان على الكويتيين بالتالي أن يمتنعوا عن سماع "الكرنك" أو "كيلوباترا"، وينبشوا قبر المغني الراحل إذا استطاعوا، لأن صدام حسين معجب به. الإسرائيليون يدركون ان موقفهم من فاغنر غير منطقي، لذلك فهم يزيدون أنه كان "لا سامياً"، وهي تهمة صحيحة إلا انها تنطبق على جيل فاغنر كله، ولو طبق مقياس اللاسامية الأوروبية على الأوروبيين كلهم، لألغى الإسرائيليون القرن التاسع عشر من تاريخهم الطويل الذي نحن الآن في سنة 5761 منه. لو كان ادوارد سعيد يكتب هذه السطور، لا أنا، لأعطى رأياً موثوقاً في موسيقى فاغنر لأنه ناقد موسيقى كبير، وله مؤلفات تعتبر مراجع في مواضيعها. ولكنني لا أملك خبرته، لذلك أكتفي بالنقل عن غيري، فالناقدة الإنكليزية فيونا مادوك كتبت بعد حضور مهرجان فاغنر في بايروت ان البلدة نفسها مملة، غير ان أعمال فاغنر الخارقة تجعلها تقول إنها قضت فيها اجمل أسبوع في حياتها. شخصياً قضيت ست ساعات يوماً في سماع أوبرا لفاغنر في افتتاح دار لاسكالا في ميلانو، وهذا سبب كاف لكرهه حتى من دون النظر في علاقته بهتلر. غير ان المؤلف كالوم ماكدونالد في سيرة جديدة للموسيقي يوهان برامز يعطي سبباً جديداً غير اللاسامية أو الطول غير المعقول للأوبرات الفاغنرية، فهو يقول إن تهمة قتل القطط التي التصقت ببرامز طوال حياته مصدرها فاغنر وسببها المنافسة المهنية. الكتاب الجديد يقول إن الموسيقي انطون دفوراك أعطى برامز قوساً ونشاباً لاصطياد عصفور "الدوري" الذي ضايقه في بيته، وانتشرت بعد ذلك فوراً إشاعة نقلاً عن فاغنر خلاصتها ان برامز قتل القطط بالقوس والنشاب، ليحاول أن يدمج صوت مُوائها ألماً وهي تموت ضمن اعماله الموسيقية. غير ان ماكدونالد يقول إن معلوماته تؤكد ان فاغنر لم يزر برامز أبداً، وبالتالي لم يسمع مواء القطط وهي تموت. وهو يصف فاغنر بأنه ثرثار حسود لئيم. فقصة قتل القطط نغصت عيش برامز، وإذا كان فاغنر اخترعها فهي تعكس خيالاً خصباً فقد زعم ان برامز كان يرمي القطط بالسهام ثم يجلس ليسجل بقلمه الأنغام الموسيقية القريبة من مواء الموت. فاغنر كان سليط اللسان فعلاً، وماكدونالد خبيراً في برامز إلا أنه ليس خبيراً في منافسه، لذلك فاته ان هناك مذكرات يومية بخط فاغنر نشرت أخيراً ولا يترك فيها أحداً من الموسيقيين الذين عاصروه ينجو من لسانه، فموسيقى دفوراك كصوت شواء كلبه على النار، وفرانز ليْستْ سمين لا يهمه شيء سوى أكل الكاتو، وروبرت شومان كان متزوجاً "صورياً" من كلارا، وهكذا حتى برامز والقطط. فاغنر تزوج كوزيما، ابنة فرانز ليست، وأسرته وصولاً الى أبناء الأحفاد، تدير مهرجان بايروت، وهناك خلافات بين الأجيال أرغمت حكومة بافاريا نفسها على التدخل، فهي ممثلة بأربعة أعضاء من أصل 24 عضواً في مجلس إدارة المهرجان. وباختصار فبعض الأحفاد يريد توسيع البرنامج ليشمل موسيقى غير فاغنرية، إلا أن الخلاف الأكبر كان على خلافه وولفغانغ، حفيد الموسيقي الكبير. وقد كتبت نايكي فاغنر، وأبوها ويلاند حفيد ريتشارد فاغنر، كتاباً جميلاً عن أسرتها بعنوان "آل فاغنر: أحلام موسيقية"، وجدته أهون من موسيقى فاغنر، فالقراءة أجيدها، أما الموسيقى الكلاسيكية فأتركها لأخينا ادوارد سعيد، وإن كنت أعود إليها احياناً، فذلك ليعتقد القارئ أنني مثقف.