مئة وعشرون رسالة توزعت على صفحات مجلد ضخم تصدرته صورة مجسمة لزوجين شابين وغير عاديين: أنطون سعادة وجولييت المير*. تستدرجك الرسائل كما الصور، وتثير فضولك للتعرف الى الوجه الآخر لهذا الرجل الذي ملأ اسمه الدنيا وشغلها، قائداً ومؤسساً لحزب كبير امتد على مساحة الوطن العربي. مئة وعشرون رسالة في احدى عشرة سنة 1939 - 1949 والى امرأة واحدة تعني الكثير، خصوصاً ان "المرسل" لم يعش حياة عادية ولم يعرف الاستقرار أو الهدوء وقد تملكه هاجس الارتقاء بالحزب، وليحقق أهدافه على أكبر قاعدة من التجذر والانتشار ووسط اجواء مشحونة بالدسائس حيناً وبالمؤامرات أحياناً. إضافة الى مشكلات أو هموم التنظيم ومعاناته الصحية. بقي في قلبه مكان للحب، ومتسع للدفء الانساني، وحيز كبير لرفيقة العمر جولييت أو "ضيائي" كما سماها. وجولييت المير هي البنت الصغرى لعائلة لبنانية هاجرت، الى الارجنتين بداية القرن العشرين. ودرست التمريض وأرادت أن تدرس الطب. لكن التقاءها انطون غيّر مجرى حياتها تماماً. رائعة جداً هذه المرأة التي خصّها سعادة بكل هذا التواصل والدفء عبر رسائل اختصرت رحلتهما معاً في مشوار العمر القصير وعبر محطات اللقاء والحب والزواج المتوزعة على مساحة الغربة والرحيل والمعاناة في أشكالها. ولعل الوصف الدقيق الذي وصفتها به ابنتها الكبرى صفية من خلال معركتها للحفاظ على الرسائل وما تعرضت له من معاناة عبر الملاحقة والمطاردة ومصادرة محتويات مكتبة زوجها وحتى السجن لسنوات طويلة، يلقي بعض الضوء على أهمية هذه المرأة ووفائها العظيم للرجل الذي جعل منها وجهه الآخر ومستودع اسراره. وهي شكلت معه أسرة صغيرة من ثلاث بنات صفية البكر، أليسار الوسطى، ولدتا في المهجر، أما راغدة الصغرى فولدت في لبنان. تختصر رسائل سعادة الى زوجته جولييت عصراً بكامله، وبكل ملامحه السياسية والثقافية والانسانية. فهي تستحضر اسماء رجال وأحداثاً وصوراً حيّة لنبض ذلك الزمن ووجهه الحضاري والانساني الذي يلتقي مع زمننا في جوانب، ويتناقض معه في جوانب أخرى. وربما نستغرب كيف تمكن هذا الرجل العظيم من التقاط معظم ملامح عصره ومتابعتها تفصيلاً، وتحليلاً، ورؤية. وصولاً الى كيفية الاستفادة منها وتوظيفها لخدمة القضية التي يناضل من أجلها. كما انها تؤرخ بالأسماء والوقائع لمرحلة من تاريح الحزب في المهجر وبكل ما رافقها من عمل ووسائل انتشار اضافة الى أبرز الأسماء والشخصيات. وتكرر اسم جبران مسّوح، ونعمان ضو، وجورج ورشيد سليم الخوري وعبدالله سعادة وبعضهم شعراء وأدباء. وهم حضروا في رسائله حضوراً مفصلاً حتى تلك الخلافات الحزبية، أو التجارية، او الانسانية، كانت تشارك فيها وكأنها تعيشها معه. ولعل أبرز ما حملته هذه الرسائل اضافة الى قيمتها الأدبية والتي تدل على قلم متمرس يمتلكه انسان ذكي ولمّاح وشاعري، هي القيمة الفكرية والانسانية وكونها صورة صادقة للحياة التي عاشها ذلك الرجل في أبعادها الثقافية والانسانية والنضالية. فعلى صعيد الثقافة أعطت فكرة واسعة للحركة الثقافية النشطة، ولدوره الفاعل فيها من خلال المجلات والصحف التي كتب فيها وتابعها باهتمام، كمجلة الحزب "سوريا الجديدة" و"الزوبعة"، و"السمير"، واهتمامه بالرد على ما أثاره رشيد سليم الخوري في سلسلة مقالات بعنوان "جنون الخلود". أما على صعيد العمل الحزبي، فواضح انه اعتبرها فعلاً صديقة مؤتمنة ومرجع ثقة. فقد وضعها بصورة التطورات والخلافات وأطلعها حتى على اسماء الأعضاء الذين فصلوا أو طردوا. كما وضعها في صورة نشاطاته وتحركاته الحزبية وتلك المؤتمرات التي أقامها أو أقيمت له وحتى الصور التي التقطت في المناسبات. ويبقى أجمل ما في هذه الرسائل الوجه الانساني الرائع لقائد أحبّ ولم يعتبر الحب ضعفاً، ولم يتعامل معه كنزوة. لم يخجل من تصوير مشاعره ولم يخشَ أن تنال هذه المشاعر من هيبته أو رجولته كقائد وزعيم. أثبت سعادة في رسائله انه عظيم في تعامله مع المرأة كما هو عظيم في خياراته الكبيرة في الحياة وتعامله معها. ولعله مع المرأة كان الأكثر انصافاً وتفهماً، خصوصاً في زمن لم تكن المرأة أكثر من دمية. فسعادة العاشق، يغضب، يعتب ويلوم لكنه يتفهم ويسامح. ويترك العنان لعواطفه تلوّن الورق وتصوغ أرقّ التعابير، وترسم أحلى الصور. ففي رسالة له مؤرخة في 17 تشرين الأول اكتوبر سنة 1940 يقول "حبيبتي، كم كان مؤلماً أن أودعك على الشكل الذي جرى وداعي. وأن أتركك في الألم الذي كنت فيه". وفي الرسالة نفسها يقول: "ليكن ايمانك يا حبيبتي قوياً. أجل ان يدي ارتفعت ولوّحت للمودعين جميعهم. ولكنها كانت لك أولاً وآخراً". ويقول: "إني أحمل محبسي هنا بسرور عظيم. وصورتك تؤنسني فهي قرب سريري أراها إذ تراني قبل نومي. وأراها وتراني إذ أستيقظ". وأصدق ما في لهفة العاشق تلك الصدمة التي يتلقاها عندما يأتيه البريد خالياً من رسالة الحبيبة. وقد جسّد هذه المشاعر في أكثر من رسالة. كما أنه برع الى أبعد الحدود في وصف الطبيعة والمكان الذي يعيش فيه حتى لكأنه أرادها أن تشاركه فيه. وبشاعرية تنم عن روح العاشق المتوثبة والمتفلتة من كل القيود، تلك الروح الخلاقة الحالمة يقول لها: "مساء أمس، رأيت الهلال ينمو. ورأيت النجمتين الكبرى والصغرى. وأعتقد أن الثلاثة ستكون متقاربة غداً. فإذا كان الجو صافياً فسأتأمل هذه الرموز الفلكية وأنا أفكّر بك". ويختم قائلاً: "سأكون صبوراً حين يحين اللقاء. واثقاً أن حبنا أقوى من الدقائق وأثبت من الساعات. وبهذا الحب تجتمع نفسانا على الابعاد وتتعانقان". هذا العاشق الرائع هو نفسه المعلّم الكبير الذي حرص أن تتعلم الحبيبة وعليه لغتها الأم وهي التي ولدت وعاشت في المهجر. تابعها بصبر عجيب وعلمها بالمراسلة قواعد اللغة من نحو وصرف وصحح لها أخطاءها الاملائية. ورفض أن تكرر الخطأ وشدد أن تكتب دائماً بالعربية وأن تعلم ابنتهما صفية لغتها الأم أيضاً. وحرص أن يدون الأخطاء في قائمة واضعاً تصحيحها في قائمة مقابلة. وما أشدّ طرافة تلك الأخطاء التي نورد نموذجاً لها: اجهاذ البيت تجهيز البيت، السنوبر الصنوبر، المئذون المأذون... عالم متكامل هو عالم هذه الرسائل التي تصخب بالحب والحياة والحركة، فهي تلقي الضوء على شخصية كقائد حزب ومؤسس، وكزوج وأب ومعلم. انسان بكل ما تحمله الكلمة من مضامين. فهو السياسي الحاضر والمؤثر في الحدث، وهو المعلم والمحب والصديق. وهو الزوج والأب العطوف والمثقف الذي يتحدث في السياسة والعلوم، وفي الموسيقى والآداب والفنون، وهو الفارس الذي يمتطي صهوة الفرس ويطير بها مباهياً أمام الحبيبة كما انه هو نفسه ذلك الانسان الذي يطلب النصيحة من الحبيبة ويشكو لها التعب والوجع والسهر والشوق. ولا يخجل من أن تطلّ على زوايا ضعفه كما أطلت على مكامن قوته. ولعل أجمل ما فيه، تلك الفروسية والنبل. رسائل سعادة الى ضياء أو جولييت لا فرق لم تكن ابداعه الأدبي الوحيد فهو كتب أكثر من مئة رسالة اخرى، لا تقل قيمة أدبية وتاريخية عنها. لكنها فقدت كما فقد الكثير من مقالاته وأعماله الأدبية وكذلك مكتبته الغنية. ويبقى ان اجمل ما في رسائله هذه انها تبدأ بأرق الكلمات وأعذبها. وكما يليق تماماً بالمرأة التي فتح لها قلبه وعقله فكانت ضياءه وحبيبته وجوليته معاً. وفي حياته وبعد مماته حافظت الحبيبة على تراثه حفاظها على خصلة من شعره وقطعة من ثيابه، ليبقى وفاؤها نموذجاً رائعاً يخلّد امرأة استحقت بجدارة أن تكون شريكة عمره ومشواره. * صدر الكتاب عن دار "فوليوس ليميتد" بيروت 2001. ويتضمن علاوة على الرسائل صوراً عائلية وصوراً خاصة في المناسبات.