كانت الفكرة الأولى من هذا التحقيق الثقافي أن نجري ثلاثة حوارات مع كل من الأديبة العراقية ديزي الأمير والأديبة السورية غادة السمان والأديبة اللبنانية ادفيك جريديني شيبوب، تتناول الكتب الثلاثة التي أصدرنها وتتضمن رسائل حب وجهها إلى كل واحدة منهن على التوالي: الشاعر خليل حاوي والروائي والصحافي غسان كنفاني ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه انطون سعادة. الحوار مع ديزي الأمير وادفيك جريديني شيبوب أجرته في بيروت الزميلة هدى سويد، وكان شاملاً ومنوعاً. أما زميلتنا في باريس رلى الزين فلم تستطع الحصول على موافقة غادة السمان التي اعتذرت بالقول: "أرحب بالمقابلة معك حول رسائل غسان، لكن التوقيت الآن غير مناسب بالنسبة لي ... سيسعدني اجراء المقابلة معك بعد شهر أو عام، أي حين انجز عملي الجديد هذا"... ثمة خيوط عامة تجمع إقدام الأديبات الثلاث على نشر رسائل حبهن في كتب خاصة بهذه الرسائل تحديداً. وهذه ظاهرة نادرة في تاريخ الأدب العربي الحديث نظراً إلى خلفياتها الاجتماعية والثقافية على المستوى العربي. وإذا كانت رسائل مي زيادة إلى جبران خليل جبران وغيره قد نشرت منذ زمن بعيد، فإن هذين الاديبين لم يلتقيا أبداً وظلت الأمور بينهما مجرد رسائل متبادلة بين أميركا ومصر! والشيء نفسه يمكن أن يقال عن رسائل مي إلى عدد من أدباء مصر، فهي لم تتجاوز حد الاعجاب والود الذي يعبر عن نفسه بأسلوب رومانسي هادىء. ومما لا شك فيه ان الاعتبارات الاجتماعية والموضوعية تحكمت، بشكل أو بآخر، في طريقة نشر الأمير والسمان وشيبوب لرسائل حبهن: ديزي الأمير نشرت رسائل خليل حاوي من دون أن تذكر اسمها، وتعترف بأنها حذفت بعض المقاطع منها لأنها تسيء إلى الآخرين، ولم تنشر رسائلها هي إلى خليل لأنها تعتقد بوجودها مع ورثته. أما غادة السمان فتقول إنها نشرت رسائل غسان كنفاني من دون أي تعديل أو حذف، غير ان رسائلها هي إليه ضاعت أو تلفت في معمعان الحرب الأهلية اللبنانية، وقد جاء كتابها خالياً حتى من مقدمة تشرح - من وجهة نظرها - طبيعة مشاعرها هي من الأديب الفلسطيني الراحل. وحدها ادفيك جريديني شيبوب نشرت الرسائل كاملة وموثوقة، وروت في المقدمة قصة الحب الذي جمعها مع انطون سعادة، وتعترف بأنها لم تحتفظ بنسخ من رسائلها إليه وربما ضاعت الأصلية في خضم النضال السياسي والحزبي الذي أحاط بحياة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي. ومع ذلك فإنها أخفت تلك الرسائل أكثر من ستين سنة، وحوالى خمسين سنة على إعدام سعادة... إلى أن أظهرتها أخيراً بصورة تليق بمضامين تلك الرسائل الجميلة. الحوار مع ديزي الأمير وادفيك جريديني شيبوب يريد أن يستكشف خلفيات قرار النشر، وبعض تفاصيل علاقة الحب التي جمعت كلاً منهما بخليل حاوي وانطون سعادة. ولعل في هذا ما يعيد طرح موضوع رسائل الحب بين الادباء والاديبات في العالم العربي، بحيث نغني واحداً من أجمل الأنواع الأدبية وأكثرها شفافية ورقة. وهنا الحوار الثاني مع ادفيك جريديني شيبوب، بعد ان نشرنا الأسبوع الماضي الحوار مع ديزي الأمير. لماذا مسحت الغبار عن "رسائل حب" بعد حوالى ستين سنة؟ - لم أشعر بأن الظروف كانت ملائمة قبل اليوم لنشر هذا الكنز، فالحرب التي عصفت بلبنان لم تكن مهيأة لنشر هذه الرسائل وبالتالي تقدير معناها، فتذهب هباء الرياح. هل اطلع الحزب السوري القومي الإجتماعي على هذه الرسائل؟ - أكثر رجال الحزب السوري القومي الإجتماعي يعرفون بامتلاكي لهذه الرسائل، واتصل بي العديد منهم على مراحل عدة، مطالبين بالحصول علىها لنشرها. أولاً في عهد رئاسة جورج عبدالمسيح، الذي اعتبر بأن هذه الرسائل ملك للحزب وليست ملكاً شخصياً لي، وقال أن لدى الحزب رسائل حب أخرى تعود للزعيم ويود المسؤولون نشرها سوية. كان هذا الحديث بحضور السيدة عبلا خوري في دمشق بعد ندوة شعرية لي، لكن.. لم يكن عندهم رسائل قط. يعني أن سعادة لم يرسل أية رسائل حب الى امرأة سواك؟ - هذه حقيقة.. وقد صرح بذلك في رسائله المنشورة "أنت الوحيدة التي أوحت لي بالزواج وأنا لم أكن قط أفكر... إلخ". كنت أعلم بهذا، وأعرف بالتالي قيمة هذه الرسائل، لكني لم أنشرها بسبب الحرب كما ذكرت أعلاه، بالإضافة الى انشغالي طوال السنين المنصرمة بالعمل بعد وفاة زوجي، وبمتابعة دراستي الجامعية، والكتابة وعملي النسائي وتمثيلي للبنان في مؤتمرات دولية، وكذلك تفرغي لتربية أولادي الى حين تخرجهم، وبعد ذلك تربية أحفادي. انشغلت بأمور كثيرة لكن هذه الرسائل كانت تلازم نفسي. رافقتك في تنقلاتك ما بين الشمال والقسيس وبغداد؟ كيف حافظت عليها،؟ ألم يؤازرك أحد في الحزب؟ - رافقتني أينما حللت، وحسب الظروف كانت طريقة احتفاظي بها. كنت ألفها بقماشة داخل صندوقة صغيرة. واضطررت الى حفظها في فترة لاحقة في أحد المصارف، حيث وضعتها زوجة ابني مع مجوهراتها خلال الحرب. وما جاء في المقدمة من تعابير شعرية صحيح وواقعي، إذ كانت لي صداقة مع رئيس الحزب الأسبق الراحل الدكتور عبدالله سعاده وعقيلته الدكتورة مي، وقد اتصل بي هاتفياً ذات يوم من العام 1980 وكان مريضاً وسألني: "يا أدفيك أنا أحب الإطلاع على رسائلك!" فرحبت به وزارني في منزلي، وأحضرت له الرسائل من مخبئها وبدأت أقرأها كاملة، وهو مصغٍ الى ان فرغت، فأمسك بيدي وقبّلها قائلاً: "هذه الرسائل كنز وهي تخصك وحدك ولا أحد سواك. إذا أحببت أن ننشرها فنحن مستعدون وإن آثرت ان تنشريها أنت أنشريها، لكن تأكدي إننا موافقون كحزب على كل ما تقررينه أنت..". وفي فترة لاحقة كانت الحال الأمنية هادئة فقررت وضع مقدمة للرسائل، وإذا انتبهتِ فإن التصدير كان في العام 1981، وأطلعت الدكتور سعادة على المقدمة وهذا تصريح لم أبح به لأحد. فقال لي: "إذا كان كل لبنان انمحق في الحرب، فيجب ان تكون هذه الرسائل في مصرف بسويسرا لأنها كنز ولا يثمن.." ولا أزال أذكر كلامه تماماً. لعلك المرأة الأولى التي قامت بهكذا عمل وعلى نفقتها؟ - أنا صاحبة العلاقة، وضعت المقدمة بأسلوبي وعنفواني. لم يحدث قبل الآن ان تقوم صاحبة العلاقة بمقدمة وتصدير بهذا المستوى، وهذا صحيح. كم استغرق إعداد الكتاب وهل من تفاصيل؟ - إستغرق التحضير أربعة أشهر وكنت أعمل والمصمم والمخرج محمد حمادة سراً، ليلاً ونهاراً. نقلت الرسائل الى بيت مري، وكنت أقفل الباب عليّ وأفرش الرسائل أمامي. عملت على نقل كتابة نصوصها حوالى الست مرات، كنت سعيدة جداً وأشعر كأن أنطون سعاده معي. وأستطيع القول أنني حفظت غيباً كل مضامين الرسائل. تعبنا كثيراً لخروج الكتاب على ما هو عليه، بحيث إذا أمسك القارئ الكتاب يشعر بأنه يمسك بالرسائل. لم تعدِّلي شيئاً ولم تحذفي كما فعل سواك؟ - لم أعدّل كلمة او فاصلة... ولم أحذف شيئاً. هناك غلطة نحوية واحدة وردت في الرسائل، أقمنا بسببها مؤتمراً لنرى إمكان تصحيح الكلمة، لكننا قررنا تركها كما هي. هذه هي الأمانة. أنت أديبة معروفة. فلو كانت الرسائل من إنسان عادي، هل كنت اهتممت بنشرها أم كنت نسيتها وأتلفتها؟ - بالطبع يأتي في مقدمة احتفاظي بالرسائل، وبالتالي نشرها، أنها من إنسان شكّل حوله حركة... علماً بأني لم أحضر ولا أي اجتماع حزبي طوال حياتي. ولأني جربت الحياة ومررت باختبارات كثيرة، بقيت للرسائل قيمة في نفسي، وكنت أشعر براحة ضمير وفرح وصفاء وجدان، ولم أتلفها لأن لها مكانة كبيرة في ذاتي. أين رسائلك إليه؟ - لا أعلم، هل كانت في بريده السري وطمرها أحد رجاله الحزبيين لإخفاء الأثر قبيل اعتقاله وإعدامه؟ "ربما سننتظر على حد قول أحد المعلقين على الكتاب ستين سنة أخرى لقراءتها كما فعلت أدفيك شيبوب برسائل سعادة". هل تذكرين شيئاً من مناخها، وهل كان عددها قريباً من عدد رسائله الثماني عشرة مثلاً؟ - لا أذكر شيئاً من رسائلي إلا ما كتبه هو، وما ورد في رسائله من ردود او اسئلة. قد يكون العدد مقارباً لرسائله، لكن ما أذكره أنه بعد رسالته الأخيرة لم أرسل شيئاً، لكن قبيل رسالته تلك انقطع حوالي الشهرين، لاتخاذ قراره بشأن مستقبل علاقتنا، لعلمه أنه على مفترق مصير مهم، وكتبت له ثلاث رسائل أرسلت معها هدية في عيد ميلاده الذي يصادف الأول من آذار مارس، لكنه لم يجب على أي منها! ولم يصلني منه إلا الرسالة الأخيرة المنشورة، والتي تضمنت قراره بعد ان فقد الأمل من وضعي. هل تعتبرين الفترة القصيرة للعلاقة إذا اعتمدنا تواريخ الرسائل ما بين 2 تشرين الأول أكتوبر 1937 و14 نيسان أبريل 1938 كافية لنشر الرسائل التي هي ضمناً حكاية حب؟ - إنها قصة حب طبعاً لكنها لم تكتمل. كانت لقاءاتنا في المطل فقط. كان خارجاً من السجن لتوه، يسكن عند ابن عمته حيث كنا نصطاف. ولفتُّ نظره وأحبني، وأنا غير منتبهة لذلك أبداً الى ان مرضت وفقدني وزارنا. وكان لقاؤنا الأول في المطل الذي تكرر، وكانت أختي هيلين ترافقني للإلتقاء به وتنتظرنا على بعد خطوات لإعطائه خبراً إن جاء أحد. كنّا نلتقي في الحرج بين أحضان الطبيعة وليس في أي مكان مغلق او حتى في عرزال. وكانت هيلين ووالدتي تعلمان بالرسائل بيننا. هل كنت تجدين صعوبة في الرد على رسائله وما تضمنته من إيقاع حياته الشامل وأوضاعه الإجتماعية والسياسية، وتطلعاته وأهدافه ومشاكل حزبه وهواياته المتنوعة الخ. - كنت أتعب في صوغ رسائلي، لكني كنت قادرة على ترتيب الجملة، وكانت لغتي سليمة وكان يشعر بأن لديّ "نفساً" جميلاً في الكتابة، وبالتالي كنت أفهم رسائله وأرد عليها. لكني كنت أخبره بأني أجد صعوبة في استيعاب أسئلته وحياته، وبالتالي الوصول إليه، وكان يجيبني بأنه سيحاول التخفيف منها. كان يكتب على ورق أصفر شفاف، ورق طبع عليه في الخلف "الحزب السوري القومي الإجتماعي / مكتب الزعيم" وكنت عندما أراسله أحاول تقليده تماماً، وكان يسعد بمضامين رسائلي ويحفظها… وكذلك صورتي التي كان يضعها أمامه على مكتبه كما ورد في إحدى رسائله. ترى ما الذي جعله يعتبر أنك وحدك "فتاته المختارة" كما ورد في أحدى رسائله على رغم تجربته وزعامته والفارق بينكما؟ هل سألته مرة هكذا سؤال؟ - كنا نناقش هذه الأمور، كان هو يعمل بسرعة كي أصل الى مستواه في فترة قصيرة لكن مشحونة فكراً وآراء وتجربة. عندما كتب عبدالله القبرصي ما كتبه، قال: "مما لا شك فيه أن هذه البنت الصغيرة عندما أحبها أنطون سعادة، كانت على جانب كبير من الذكاء والفهم والجاذبية والصفات الناعمة"… وأنا كنت كذلك بلا ريب ولا أمدح نفسي. هل تعتقدين بأن اللقاء لو تم في سن متأخرة وفي ظروف أفضل، لكانت العلاقة بينكما استمرت؟ ولكنت قادرة على اتخاذ قرار؟ - لا أعرف... لكن حسب وضعي حينذاك، كم كنت أفتقد القدرة على اتخاذ قرار بنفسي وأنا فتاة يافعة من آل جريديني المحافظين جداً وفي حمى عمّي المسلم أيضاً. ربما كان ممكناً الإستمرار، فالقابلية موجودة! لكني لا أستطيع الجزم، ومن يقرأ الرسائل يؤنبني كيف إني لم أحافظ عليه. سرعان ما تزوجت لتواجهي مقتل زوجك بعد أربع سنوات. ترى لو أحببت سعاده كما أحبك هل كان بمقدورك الزواج بتلك السرعة؟ - أحببته "غير شكل"، لكن بالطبع عندما أخبرني كما جاء في رسالته الأخيرة عن قراره بالسفر لوحده والتقائي ف ما بعد بفارس أحلامي أي زوجي وكان مثلي تماماً، لا يكبرني إلا بثلاث سنوات، وأحبني وأحببته... ألا نتزوج؟ نعم تزوجنا وأنجبنا ولدين ثم قتل - باغته بالسكين أحد المساجين الذين لحقهم العفو العام سنة 1943، بسبب عدم توفير عمل له - بينما كنت أرضع إبنتي ذات الثلاثة شهور. هل أطلعت زوجك على الرسائل؟ - زوجي كان سورياً قومياً - أي في الحزب نفسه - لكنه لم يكن يحبذ المفاخرة بهذا الموضوع. فاحترمت إرادته. هل ساءك دمجه الواضح بين حبك وقضيته المشبعة بها رسائله؟ - لم أشعر بأني أهل لهذا الموقف. لم أستطع السفر معه والوصول الى بلد كي ألقي خطاباً وأنا لا أفهم حينها القضية من أولها الى آخرها. لم يكن يؤلمني أبداً دمج القضية بحبي، وهذا أمر طبيعي، فقضيته وجدت قبلي... كنت أتفهم كل أوضاعه. يبدو حبه في الرسائل أفلاطونياً او عذرياً، ثمة كآبة حب في رسائله… في حين يستشعر القارئ بحياديتك وتقليديتك حتى ليخيّل أحياناً أنه كان يحب إنسانة ابتدعها على الورق او أنه يحب لوحده... - من قال انه كان حباً عذرياً وأفلاطونياً؟ لا غير صحيح، كان يحبني كثيراً وأحببته أيضاً، ويتمنى ان يضمني كل لحظة. كنت أخبره بأن رسومه حولي، فكان يقول لي: "أتمنى ان أحيطك بدل رسومي". كان حبه طبيعياً وأنا كذلك. كم شكلت هذه الرسائل غذاء روحياً لك؟ - لا يستبعد عبدالله قبرصي في مقال له أنني استوحيت كتابيّ "بوح" و"شوق" من رسائله، وفيهما شيء له كما في قصيدة "أمام العرزال" من كتاب "شوق" و"هذا لحنك" من كتاب "بوح". ما الذي تتركه رسائل حب أنطون سعاده لامرأة مثل أدفيك شيبوب؟ - تترك الرسائل شعوراً بالثقة والفرح والإعتزاز بالتأكيد، وهي رسائل أعتز بها وتفرحني كثيراً لكني متواضعة. أنا فخورة بأن إسمي ارتبط بإسم رجل عظيم، وإذا مدّ الله في حياتي، سأقدر على كتابة سيرتها. كم تندرج هذه الرسائل في فن أدب الرسائل؟ - أعتقد بأن لها قيمة كبيرة. لست متخصصة في أدب الرسائل، لكن حسب التعليقات التي سمعتها، فإن للرسائل هذه قيمة أدبية خصوصاً أنها صادرة عن أنطون سعادة، ولأنها الرسائل الوحيدة التي عبّر فيها عن الحب... وكثيرون لم يصدقوا أن له رسائل حب إلا عندما رأوها منشورة.