لا يزال الرهان قائماً على مدى جدية سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في انقاذ الشعب العراقي من براثن النظام الديكتاتوري في بغداد. ولا يزال كثيرون يرون ان استمرار عمليات القصف العشوائي، التي تطال الناس المحروقين بنار النظام وعسفه وتعذيبه الشعب المغلوب على أمره، ونار عسف الحصار المفروض عليه وليس على النظام، لن تحرك أو تهز النظام قدماً واحد، بل على العكس استطاع أن يوظفها في صالحه عربياً ودولياً، كما لمس وزير الخارجية الأميركي كولن باول عند زيارته الأخيرة لبعض دول المنطقة وغيرها. لقد أثبتت سياسة السنوات العشر الماضية أن إدارة بيل كلينتون كانت تفتقد الجدية في تعاطيها مع العراق، على رغم تظاهرها بخلاف ذلك. والحقيقة، ان تلك السياسة كانت خاضعة لإرادة "حاخامات" وزارة الخارجية حينذاك، الذين كانوا غير راغبين في زعزعة الأوضاع في بغداد، علماً اننا على قناعة تامة بأنه كان بإمكان إدارة كلينتون تفعيل قضايا كثيرة تساهم في عملية التغيير، لا عن طريق "قانون تحرير العراق" الذي جاء بأقدام عرجاء، إنما عبر وسائل مثل: 1 - فرض حظر على الأسلحة الأرضية الميدانية الفتاكة وصواريخها المدمرة، والتي ما زالت تتحرك بحرية في الجنوب والوسط لتفتك بالمواطنين وتدمر الممتلكات. وقد أثبت الحظر الجوي انه ليس قادراً لوحده على منع النظام من استعمال العنف في الجنوب والوسط. 2 - منع النظام من تجفيف الأهوار التي كانت تؤوي ما يقارب خمسمئة ألف إنسان وتدمير سبل عيشهم، من مواش وطيور واسماك وقصب، بالإضافة إلى أرض صالحة للزراعة وحاملة حضارة قديمة منذ خمسة آلاف عام. 3 - انشاء منطقة آمنة في الجنوب كتلك التي في الشمال، لحماية العراقيين هناك من الإبادة المستمرة والموت البشع. 4- الضغط على مجلس الأمن لارسال مراقبين دوليين لمنطقة الجنوب والفرات الأوسط لتوزيع عائدات برنامج "النفط للغذاء"، لضمان حصول المواطنين على حصصهم من الغذاء كما هو مقرر، ومنع النظام استغلالها ومنحها لجلاوزته وأزلامه. 5- تلبية طلبنا الملح بالمساعدة في اقناع دول الجوار في فتح "بوابة عربية" تستطيع المعارضة العراقية من خلالها أن تتجمع فيها وتنطلق منها الى أرضها لتقاتل ضد النظام الديكتاتوري الرابض على الشعب بالظلم والنار. 6- وقف المجازر الوحشية التي ارتكبها النظام بحق الشعب الأعزل في الجنوب والوسط في أواخر التسعينات. ان تفعيل هذه القضايا الرئيسية كان، ولا يزال، مقياس الجدية في دعم المعارضة العراقية من أجل عملية التغيير، ولكن الإدارة الأميركية، وعلى رغم تفهمها هذه النقاط وغيرها كانت تسمع وتعد، ولكنها ترمي كل ما سمعته في سلة المهملات، مصرة على سياسة ابقاء المعارضة العراقية ورقة ضاغطة سياسية تحركها متى تشاء لمواجهة النظام والوضع الاقليمي. وقد أثبتت هذه السياسة عدم جديتها وفاعليتها على كل الأصعدة. ومع مجيء حكومة جورج بوش الابن، ومعها الكادر الملم جيداً بأوضاع النظام الحاكم في العراق المرهق بالمتاعب والمصائب والعذابات، تلقت بغداد خمسة صواريخ أضرت بالشعب أكثر مما أضرت بأجهزة النظام. ولا شك في أن الإدارة الجديدة أرادت ايصال رسالة مفتوحة قبل وصول وزير خارجيتها إلى المنطقة لتعرب عن أمور مهمة: أولاً: أن تطمئن الدول الشرق الأوسطية الصديقة بأن موقف الإدارة الجديدة من نظام صدام لا يعبر عن التساهل والاهمال. ثانياً: على الدول المهرولة للتطبيع مع نظام صدام أن تراجع حساباتها، إذ ان الإدارة الجديدة لها رأي من نظام صدام لم يتبلور بعد، وعليها أن تخفف الهرولة حتى يتبين هذا الموقف. ثالثاً: استعداد واشنطن لاصدار قانون "العقوبات الذكية" ليحل محل القانون القديم "الاحتواء المزدوج"، بعد تصاعد الاحتجاج ضد الحصار الذي أصبح أمراً مرفوضاً لدى كثير من الدول العربية والإسلامية وبعض الدول الكبرى في مجلس الأمن كالصين وروسيا وفرنسا. رابعاً: الحيلولة دون اتخاذ مواقف عربية متشددة بالنسبة الى القضية الفلسطينية تزيدها تعقيداً، خصوصاً مع وصول الجزار ارييل شارون الى رئاسة الحكومة الاسرائيلية. ويبدو أن وزير الخارجية الأميركي نجح في مسعاه إلى حد ما في ايصال الرسالة. ففي ما يتعلق بالعراق، ليس ثمة ما يشير الى وجود مساعٍ أميركية لتغيير في الخارطة، بل الاكتفاء مرحلياً بالاستمرار في تحجيم النظام، وتقديم بعض المساعدات لبعض جهات المعارضة العراقية لتنفيذ عمليات هامشية لا تهدف الى اسقاط النظام، وإنما هي عملية "إلهاء" حتى يتبلور رأي موحد لدى الإدارة الاميركية، ولا أحسب ذلك سيحصل في القريب العاجل. إن معيار جدية الإدارة الأميركية الجديدة في سياستها نحو العراق - حسب قناعتنا - ينحصر في مصداقيتها للعمل على مساعدة المعارضة العراقية عن طريق إقناع دول عربية معينة لمنح العراقيين "بوابة عربية" ينطلقون منها الى أراضيهم، مع تقديم الدول العربية والجوار مساعدات، ومدهم بالإمكانات العسكرية للمجابهة الجادة مع النظام الذي تفشى بين أطرافه الصراع على القيادة المستقبلية بعد صدام. وفي حين يشعر كل الأطراف المتعلقة بالنظام بأن الصراعات بينها قد تنفجر، يخشى بعض الدول العربية من انهيار النظام دفعة واحدة مما يؤثر على أوضاعه الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية. وقد ينعكس ذلك، أيضاً، على الوضعين الإسرائيلي والفلسطيني فتقوى الجبهة المعادية للخنوع العربي وتتصدى للامبالاة العربية والإسلامية بالنسبة إلى الانتفاضة الفلسطينية. إن الادعاءات الحالية لحكومة بغداد بشأن الانتفاضة الفلسطينية، والمزايدات البائسة في الوقوف إلى جانب أشبال الحجارة، والمسيرات العسكرية تحضيراً لغزو إسرائيل، تبدو بكل وضوح أنها مجرد "دعاية فارغة" يقصد منها "إلهاء" الشعب العراقي عن تصاعد أصواته المطالبة بانهاء محنته القاسية التي يسببها النظام السطوي الغاشم، إضافة الى تسويق أوضاعه على الصعيد العربي، خصوصاً في الداخل الفلسطيني. اننا نرى، من خلال تجارب العقد الماضي، أن الرهان على سياسات الإدارة الأميركية في دعم الشعب العراقي في جهاده لعملية التغيير فيه الكثير من عدم الوضوح، علماً اننا نعتقد بقوة ان واشنطن قادرة على التغيير لو قررت، ولكنها لا تريد ذلك لوجود مصالح مرحلية في استمرار هذا الوضع ما يؤمن بقاء اسطولها في الخليج لتنفيذ مآربها في المنطقة. لذلك، من مصلحة المعارضة العراقية في الخارج والداخل - والتي هي الأساس في المجابهة مع النظام - ان تعيد النظر، وتوحد خطابها السياسي ومواقفها لتبقى قادرة على تحديد علاقاتها وسياساتها مع الدول الكبرى والدول الإسلامية والعربية بشكل أدق، مع مرونة سياسية تمكنها من التحرك بفاعلية، ما يكسبها صدقية وتقدير كل المهتمين صدقاً بالقضية العراقية. علينا ايضاً ان نواجه الواقع المر، ونعترف بأن النظام استفاد كثيراً من الوضع الذي تعيشه المنطقة، لا سيما ان بعض الدول العربية اخذ ينظر للنظام نظرة استعطاف، ويعمل بجد على تأهيله بغية عودته الى الحظيرة العربية ومن ثم للحظيرة الدولية. كما واصل النظام حملته الديبلوماسية والدعائية في العواصم العربية، مركزاً على اجتذاب الهيئات الشعبية غير الرسمية، فتدفق المال العراقي من جديد بسخاء لشراء الضمائر والمواقف في اكثر من عاصمة عربية. على المعارضة اليوم ان تكون واضحة في رؤيتها السياسية، وان تكف عن تأملاتها الفلسفية التي لا تُشبع جائعاً، ولا تحمي هارباً، ولا تُغني فقيراً، ولا تحقق هدفاً. وقد علّمتنا الايام الصعبة طيلة هذه السنين السود التي جاوزت العقود الثلاثة ان الاعتماد على الغير - مهما كان هذا الغير عربياً أم أجنبياً - سراب بسراب، إذ ان هذا "الغير" يهتم بمصلحة بلده قبل مصلحة العراق والعراقيين. ان أقل ما يمكن ان تساعد به الادارة الاميركية - بالتفاهم مع دول الجوار الاقليمي من جهة، والدول الدائمة العضوية في مجلس الامن من جهة اخرى - الشعب العراقي من اجل الخلاص من صدام ونظامه ان تتبنى مشروعين مهمين: الاول، إطلاق حملة دولية جادة وفاعلة لمحاكمة صدام وزمرته لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، خصوصاً ان البرلمان الاوروبي أيّد هذا المشروع قبل اكثر من شهر. الثاني، اقامة منطقة آمنة في الجنوب والفرات على غرار ما جرى في شمال العراق كردستان لحماية من تبقى من المواطنين ومن تدمير بنيتهم التحتية. يمكن هذين المشروعين، لو تم تحقيقهما، ان يغيّرا الكثير من المعادلة التي يفرضها نظام صدام على العراق وشعبه، ويساعدان المعارضة في المجابهة القوية مع النظام، الذي يبقى أمر إسقاطه اولاً وآخراً شأناً عراقياً بحتاً. * كاتب وسياسي عراقي معارض مقيم في لندن.