كان من المتعذّر عليّ أن أجيب عن جميع الأسئلة التي طرحها المشاهدون في أثناء المقابلة التي أجراها معي في تلفزيون "المستقبل" ببيروت، الأستاذ الشاعر زاهي وهبي، في العاشر من نيسان ابريل الجاري. ونظراً لكثرة الأسئلة وتنوعها، ارتأيت أن أخصص مقالتين للأجوبة، وأن أوحد الرد على الأسئلة المتشابهة في جواب واحد، وألا أنشر نصوص الأسئلة، إيجازاً وتبسيطاً. وهذه هي المقالة الأولى، شاكراً الأخوة طارحي الأسئلة، معتذراً لهم عن عدم تمكني من الاجابة عنها في حينها. - 1 - أعتذر للسائلين ومن حقهم أن يفاجأوا، ولجميع الأخوة والأخوات المشاهدين، فقد كان السياق ملتبساً، لأنني حسبت، أو هكذا خُيّل إليَّ، أن السؤال يتناول الكتب الحديثة الصدور، وحدها. وهكذا لم أذكر من الكتب التي كتبت عني إلا الكتابين الأخيرين اللذين صدرا منذ فترة قريبة جداً. وهما كتاب السيدة زهيدة درويش: "التاريخ والتجربة"، وكتاب الأستاذ عادل ضاهر: "الشعر والوجود". ولو كان السؤال حول الكتب التي كتبت عني، في شكلٍ عام، في السنوات الثلاث الماضية على الأقل، لكنت ذكرت في المقام الأول كتابي الروائية الناقدة السيدة أسيمة درويش: "مسار التحولات"، وذكرت، خصوصاً، عملها النقدي الذي درس مشروعي الشعري في "الكتاب"، مفتتحاً، في النقد العربي الحديث، حركة التأمل في العلاقات بين الشعر والتاريخ، والذي صدر بعنوان: "تحرير المعنى". ولكنت ذكرت كتاب السيدة الناقدة البولونية كريستينا بوشينيسكا بعنوان: "أدونيس: الأفكار، الصور، الانفعالات"، وكتاب السيدة الناقدة الايطالية فرانشيسكا كورّاو الذي صدر بالايطالية. ولكنت ذكرت كتاب الفيلسوف والشاعر الفرنسي ميشال كامو الذي صدر في باريس بعنوان: "أدونيس، رائياً"، وكتاب الباحث المغربي الأستاذ خالد بلقاسم، الذي صدر في المغرب بعنوان: "أدونيس والخطاب الصوفيّ"، وكتاب الأستاذ عاطف فضّول: "النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس"، وكتابي الأستاذ صقر أبو فخر بيروت، والأستاذ الدكتور وائل غالي القاهرة. أعتذر مرة ثانية لهؤلاء الكتّاب الذين أُجلّهم، والذين لم أُشر الى كتبهم في جوابي، وذلك عائدٌ الى سوء فهمي أو سوء تقديري. وهو خطأ في حقي أنا شخصياً، قبل كل شيء. - 2 - يُعلّمنا تقليدنا الديني - الثقافي أنّ أمّنا حواء خُلقت من ضلع أبينا آدم. ومعنى ذلك أنّ الأنوثة هي، بدئياً، في داخل الذكورة. فليست المرأة كائناً من "خارج" الرجل، وإنما هي كائن من "داخله". والعكس، إذاً، صحيح. فالرجل مملوءٌ، طبعاً وطبيعة، بالمرأة. والمرأة مملوءةٌ بالرجل، طبعاً وطبيعة. الإنسان الحقيقي ليس ذكراً أكثر مما هو أنثى، إلا بالدرجة. وليس أنثى أكثر مما هو ذكر، إلا بالدرجة كذلك. ان رجلاً لا أنوثة فيه كائنٌ يعيش في خللٍ بيولوجي. وما يقال هنا عن الرجل، يمكن أن يقال عن المرأة، كذلك. تأسيساً على ما تقدّم، ليست هناك خصوصية ذكورة محضة في الشعر والفن. وليست هناك خصوصية أنوثة محضة. فعبارة "شعر المرأة"، مثلاً، أو "الشعر النسائي" غير دقيقة وغير صحيحة، إذا أُريد بها الاشارة الى "النوع". وهذا هو الشأن في عبارة "شعر الرجل" أو "الشعر الرجالي". هناك شعرٌ واحدٌ، والفرق بين ما تكتبه المرأة وما يكتبه الرجل فَرقٌ في الدرجة لا في النوع. - 3 - تقدّم الثقافة العربية السائدة تاريخنا بوصفه يُمثِّل طوباوية يوتوبيا متحققة: أنجزها أسلافنا، المؤسسون الأوائل، كاملة شاملة، مرة واحدة وإلى الأبد. تبعاً لذلك، تعلمنا هذه الثقافة أننا لا نحتاج الى تخيُّل طوباوية أخرى، وأن ما نحتاج اليه، على العكس، هو أن نعيش تلك التي تحققت، وأن نبشر بها وننشرها. بهذا المعنى تقول لنا هذه الثقافة ان تاريخنا كامل، وإن شعرنا هو الآخر كامل، لا يُضاهى، ولا تبديل، إذاً، لأسسه ومفهوماته. ومن هنا نفهم كيف أنه يصعب في ثقافتنا السائدة القبول بإمكان نشوء شعر آخر مختلف، أو فهم آخر للتاريخ، مختلف، أو تصوّر ثقافة تغاير في أسسها ثقافتنا الموروثة الراسخة. من هنا كذلك نفهم كيف ان النضال الأصولي ينهض على أساس أن الطوباوية العربية - الاسلامية قائمة راسخة، وأن "جريمتنا" الحاضرة هي في أننا لا نراها، اليوم، وفي أننا ننحرف عنها بعوامل "تغريبية" أو "تخريبية"، أو بعامل أو آخر. والهدف من هذا النضال، فكراً وعملاً، هو "إعادة" الأمة الى "الصراط المستقيم" - لكي نرى، من جديد، ذلك الكمال الطوباوي التاريخي، في كماله، وفي بهائه. - 4 - تبدو القصيدة في رؤية كثير من الشبان الشعراء مجرد ترجمة لحاجة معينة. وهي إذاً "بضاعة" أو "سلعة" تدخل في الية الاستهلاك والسوق والتبادل التجاري. الأزمة في هذا المنظور هي أزمة العقلية التي تهيمن على عالم اليوم: لا يمكن تحويل الشعر الى سلعة، مهما كانت هذه العقلية مهيمنة لذلك تعمل على أن يُهمل، وأن يُطرد من المدينة. - 5 - في كل لغة شعرية ذاكرة من جهة، واستباقٌ من جهة ثانية: الماضي والمستقبل في شهيق واحد. - 6 - أتاح هذا العصر للعرب انفتاحاً لم يُتحه أي عصر سابق. لكن لا يمكن أن نكون في قلب هذا الانفتاح وأن نفيد منه إلا إذا كنا على مستوى من الفكر يهيئنا للتأمل في معناه - تاريخياً، وحضارياً - ولتحويل هذا المستوى الى تجربة حية. - 7 - كلّ مذهبيةٍ حُبْلَى بالجلاّدين، - ببشرٍ يُفكرون ويعملون لا لكي يخدموا ما يرونه، بل لكي يخدموا، على العكس، ما لا يرونه. إنه الغيابُ الذي يقتلُ الحضور. - 8 - تكاد الثقافة العربية في حركتها الراهنة أن تصل الى نقطة تبدو فيها الأفكار عائمة، مطروحة في الفراغ، لا تُقبل تماماً ولا تُرفض تماماً. بل يبدو العقل، هنا، كما يقول نيتشه، كمثل "حمار ينوءُ تحت حِمْلٍ ضخمٍ لا يقدر أن يسير به، ولا يقدر أن يتخلص منه". - 9 - ينتج العرب العاملون باللغة السياسية كلاماً كثيراً حول مشكلات معظمها وهميٌّ أو ثانوي، ويهملون الكلام على الجوهر الذي لا معنى من دونه ولا قيمة لأي شيء، وأعني بهذا الجوهر: الانسان، حُرّاً، مُبْدعاً، مُستقلاً. وإذا قَرَنّا لغة هؤلاء بلغة العاملين في حقول الدين، نجد أن النظام الفكري المهيمن قائم أساسياً على إدانة الانسان والحياة. - 9 - التاريخ هو كذلك أن نُدرك بعمقٍ ماضينا وما حققناه. وهو، إذاً، لا يكون مضيئاً لحاضرنا وعنصر بناءٍ في مستقبلنا إلا بقدر ما نعيد النظر فيه، وبقدر ما نعيد اكتشاف ماضينا عبره، انطلاقاً من حاضرنا. - 11 - الانسان الذي يعيش ويفكّر في مصالحة كاملة ودائمة مع ماضيه ومع نفسه، يفقد انسانيته ويتحول الى كيان آلي. لا مصالحة دائمة داخل الذات إلا في مخاصمة دائمة. - 12 - ثمة نزعة سياسية - ايديولوجية عند كثير من القراء العرب تُصِرّ على أن تجعل من عمل اللغة نفسها عملاً يدوياً. كأنّها تريد أن تجعل من القصيدة سيارة لنقل "بضائع" الأفكار والمشاعر. - 13 - "الشجرة تحبّ جارتها": هذه جملة عبثية في المعيار العقلاني المنطقي. لأن الشجرة ليست كائناً حياً لكي تحب. وفعل "أحبّ" يقتضي فاعلاً حيّاً - الانسان. غير أن العقل أو المنطق هنا لا يرى من الشجرة إلا اسمها، وخصوصيتها النباتية غير العاملة. بينما الشعر يرى علاقاتها مع الكائنات الأخرى، فيما وراء الاسم، ويرى تبعاً لذلك أبعادها الرمزية ودلالاتها. بهذا المعنى تحديداً، أقول إن الشعر لاعقلاني ولا منطقي. - 14 - إذا قلت، في يوم صاحٍ مشمس: الشمس، اليوم، ساطعة. أو لا غيم اليوم في الفضاء، فإن هذا ليس "وضوحاً" ولا "تواصلاً". إنه بالأحرى حشو أو لغوٌ. أنت لا تكون "واضحاً"، وأنت لا تتواصل مع الآخر، إذا نقلت إليه شيئاً "واضحاً". أنت هنا تكرر له ما في ذهنه، أو ما هو أمام عينيه. تتواصل مع الآخر حين تنقل إليه ما يستثير فيه الأسئلة وما يولّد الرغبة في الاكتشاف، أي عندما تصلُه بالمجهول. للمقالة تابع، الخميس في 6 أيار مايو المقبل.