مع توالي فصول الحرب العراقية - الايرانية تعمقت ظاهرة اجتماعية لم يكن يعرفها العراقيون فأصبحت آلاف الزوجات الشابات أرامل. وتصاعدت الآمال مع انتهاء الحرب بإيقاف زحف اللون الأسود وهو يغطي ملامح الحياة الشابة غير ان ظاهرة "الأرامل الشابات" عادت مع فصول الألم العراقي الجديدة أكانت تلك التي حملتها حرب الخليج الثانية أم وقائع الحصارات المريرة التي عاشها العراقيون طوال عقد كئيب ما زال مفتوحاً. ومع ظاهرة الموت المفاجئ لشبان عراقيين طوال السنوات الماضية والتي عزاها الأطباء الى السكتتين الدماغية والقلبية عادت ظاهرة "الأرامل الشابات" الى العلن ولتتصل معها أسئلة عن تعامل المجتمع العراقي مع الأرملة انسانة ووجوداً. فتيات بالكاد نزعن ثوب الزفاف الأبيض، فلبسن ثوب الحداد الأسود ولتبدأ حكايات طويلة عن الألم والانتظار ويرى طبيب نفساني ان "الشابة المتزوجة تفخر بنفسها وبزواجها غير ان شعوراً ينتابها ما إن يتوفى زوجها، بأن شيئاً ما سلب منها وهو ما يسمى ب"الجرح النرجسي" والشعور بأنه مهانة وبأن قيمتها النفسية والاجتماعية انتقصت بغياب زوجها". ويؤكد الأخصائي في الطب النفسي أن الارملة الأم قد تجد سلوى في عنايتها بأولادها حين تفقد زوجها غير ان الحال مختلفة عند الأرملة الشابة فالتأثير السلبي لوفاة الزوج ينعكس عليها مباشرة. مشيراً الى ان قدرة الأرملة الشابة على تجاوز محنتها تعتمد على مدى المساعدة التي يبديها القريبون والتأكيد ان لها وجوداً وحضوراً انسانياً وإلا فإن الأرملة الشابة تسقط في حال اكتئاب نفسي ومن ثم في انهيارات تسلب منها حضورها. "الأرامل الشابات" في العراق يعانين ضغوطاً عدة، منها ضغط الأهل للزواج مرة أخرى و"قبل فوات الأوان" وضغط أهل الزوج بسلبها أولادها اذا ما قررت الزواج مرة أخرى، وضغط شخصي نابع من تأنيب الذات "خوفاً من نسيان الزوج" واخلاصاً لذكراه من جهة والحاجة الطبيعية لوجود الرجل في حياة المرأة من جهة اخرى. ومع التشديد على دور الحاضنة الاجتماعية: العائلة ومؤسسات الرعاية للأيتام والأرامل في تخفيف وطأة ما تعانيه "الأرملة الشابة" الا ان وقائع المجتمع العراقي الصعبة وغياب المؤسسات الراعية تجعل من هذا الدور غائباً وضعيف التأثير ان وجد ولتتحول البيوت الى حكايات وأسرار عن محن انسانية لا يعرف العراقي كيف اجتمعت مرة واحدة لتسقط على رأسه. حكايات أرامل حياهن الموت أرامل شابات بحن بحكاياتهن الى صحيفة عراقية اسبوعية فتقول ايمان خضر حيدر 28 عاماً انها تزوجت وهي في الخامسة عشرة ورزقت طفلتين قبل أن يموت زوجها "في ظروف غامضة" وهي في العشرين مؤكدة ان حياتها تغيرت من زوجة شابة مدللة الى "أرملة وأب وأم في آن واحد". وما زاد محنة ايمان أن أهل زوجها تخلوا عنها "لأني لم أنجب صبياً يحمل اسم ابنهم المغدور واسم عائلتهم". وتضيف ايمان: "أصبت بانهيار عصبي وتردت حالي النفسية بعد أن أصبحت المسؤولة عن طفلتين وكان أهلي مأوى لي فانتقلت للعيش معهم الا ان ظروفهم المادية السيئة دفعتني للبحث عن عمل لتربية أطفالي فلاقيت الكثير من شفقة الناس ومواساتهم لي وكأنني أنا من مت". ايمان قضت ثمانية أعوام "وحيدة مخلصة لزوجها الذي لم تتسن لها الفرصة لمعرفته جيداً" ومنعتها شكوك الناس وأهل زوجها من قبول الزواج ثانية وخوفاً منها على ما قد تتعرض اليه طفلتيها من سوء المعاملة راضية بحداد طويل وهي في عز الصبا. ولسان حالها يقول كلمات: "لا تذهب عني في غفلة من الزمان/ فيموت قلبي وينتهي الزمان/ لا تتركني الى عالم مجهول يتوهمني/ أو عالم جديد يتوعدني/ إني أشتاق اليك عند كل صباح ومساء/ أشتاق اليك بغير حدود ولا قيود/ لا تتركني وحدي أهيم في تفكيري/ لا تتركني وحدي إلا في مصيري/ وأعرف ان القيد يتوعدني/ وأدري ان الموت يحييني". أرملة شابة أخرى هي ج. س تبوح لصحيفة "الرافدين" بأنها تزوجت في الثانية والعشرين من عمرها الا ان زوجها سرعان ما تفاقمت معاناته من مرض في القلب ليتوفى وهي حامل وليكون طفلهما الأول يتيماً. وحال هذه الأرملة الشابة أفضل لجهة عناية أهل زوجها بها وبولدها، قد يكون ذلك انها انجبت صبياً وليس بنتاً، وتؤكد انها لا تفكر في الزواج مطلقاً "أنا أحب زوجي ومخلصة لذكراه وأريد العيش من أجل ابني". الأرملة الشابة آمال كاظم تقول: انها تزوجت وهي في الثامنة عشرة وتوفي زوجها في حرب الخليج الثانية لتظل تدور بين دوائر حكومية لصرف راتب زوجها التقاعدي أو بحثاً عن مكافأة حكومية تمنح عادة ل"الشهيد". وحيال انهيار قيمة الدينار العراقي لم يعد الراتب التقاعدي ولا مكافأة الحكومة يؤمنان القوت اليومي، فيما كان البحث عن العمل وسط شكوك الناس عن خروج الأرملة الشابة الى الحياة أشبه بالمحنة ما دفعها الى المجيء الى عمان وتأمين وسيلة للاتصال بشقيقها الأسير السابق في إيران واللاجئ السياسي حالياً في استراليا كي يأخذها الى هناك أملاً بحياة هي حلقات متصلة من الألم. وعند باب "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" في عمّان عشرات من الأرامل الشابات اللائي حملن الشكوى من تردي أوضاعهن الانسانية وسواد مستقبلهن بعد وفاة ازواجهن من الذين اعدمتهم السلطات العراقية خلال العامين الماضيين بتهمة العمل ضدها ومعهن تبدأ حكايات لا تنتهي من الألم، بل ان صنوف المعاناة تلاحقهن وهنّ في المكان الجديد، فتتكدس أكثر من عائلة في بيت واحد، بل في غرفة واحدة أحياناً على أمل الحصول على صفة "لاجئ" تمكنهن من الهروب بعيداً من بلاد اختلطت فيها مشاعر الحنين بمشاعر الفقدان والموت. وفي حال حصول الأرملة الشابة على حق اللجوء الى "بلد آمن" تبدأ حكايات اخرى يختلط فيها الجد بالهزل، فتصبح الأرملة مقبولة جداً، وتنهال عليها عروض الزواج من شبان عراقيين في الاردن كي يضمنوا التمتع بحق اللجوء السياسي، لا سيما من أولئك الذين جربوا العمل أو السفر وفشلوا!!