تحدثت الحلقة الأولى عن اصل المفرد اللغوي وكيف تطور استخدام كلمة تاريخ واختلاف معناها الاصطلاحي في الثقافتين الاوروبية والعربية. وهنا الحلقة الثانية. جاء في كتاب الكافيجي: 788-879ه 1386-1474م "المختصر في علم التاريخ" كتب في سنة 867ه/1463م التعريف الآتي: "... التأريخ في اللغة تعريف الوقت وفي العرف والاصطلاح هو تعيين وقت ينسب اليه زمان مطلقاً سواء كان قد مضى او كان حاضراً او سيأتي. وقبل التاريخ تعريف الوقت باسناده الى اول حدوث امر شائع كظهور ملة او قوع حادثة هائلة، من طوفان او زلزلة عظيمة ونحوهما من الآيات السماوية والعلامات الارضية. وقيل التاريخ مده معلومة بين حدوث امر طامر وبين اوقات حوادث أخر". ويرى الكافيجي "ان لكل واحد من هذه الاصطلاحات وجه وجيه فاختر منها ما كان احلى عندك وأولى" هذا ويميز الكافيجي بين "التاريخ اللغوي والتاريخ الاصطلاحي"، فيقول: "إن الفرق بينهما بالعموم والخصوص، فاللغوي اعمُّ من التاريخ الاصطلاحي عموم الحيوان من الانسان". وفقاً لهذا التمييز يعرّف الكافيجي "التاريخ" كمصطلح في نطاق تصنيف العلوم فيقول: "وأما علم التاريخ فهو علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته" الكافيجي، المختصر في علم التاريخ، من المخطوطة المنشورة في: روزنتال، علم التاريخ ص326-327. أما السخاوي توفي 902ه فإنه يوسّع تعريف الكافيجي ولا يخرج عنه، فيشدد على "موضوع التاريخ ومسائله": "فموضوعه الانسان والزمان ومسائله أحوالهما المفضلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للانسان وفي الزمان". "وفي الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الاحوال: من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة وعقل وبدن ورحلة وحجج وحفظ وضبط وتوثيق وتجريح وما اشبه هذا مما مرجعه الفحص عن احوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم. ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة من ظهور ملمة وتجديد فرض وخليفة ووزير وغزوة وملحمة وحرب وفتح بلد وانتزاعه من متغلب عليه وانتقال دولة. وربما يتوسع فيه لبدئ الخلق وقصص الانبياء وغير ذلك من امور الأمم الماضية وأحوال القيامة ومقدماتها ... او دونها كبناء جامع او مدرسة او قنطرة او رصيف ان نحوها مما يعم الانتفاع به مما هو شائع ومشاهد او خفي سماوي كجراد وكسوف وخسوف او ارضي كزلزلة وحريق وسيل وطوفان وقحط وطاعون وموتان، وغيرها من الآيات العظام والعجائب الجسام. والحاصل انه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت، بل عما كان في العالم". السخاوي ص7. بل ان السخاوي يفرد في كتابه صفحات عن "التصانيف في التاريخ" اعتماداً على الذهبي فيقول: "إنها لا تدخل تحت الحصر"، واذ يعدد ابوابها فإذا هي كل شيء "في المجتمع والحياة اليومية: فإلى جانب تواريخ الانبياء والرسل والأمم والأئمة والملوك، والأمراء والولاة والقضاة والفقهاء والعلماء والشعراء والأدباء اللغويين والمحدثين، يورد تأسيساً على التصانيف التي شهدتها الكتابة التاريخية العربية حتى وقته: "تاريخ المعلمين والوراقين والقصاص، والطرقية والغرباء، والوعاظ والخطباء، وقراء الانغام والندباء والمطربين. تاريخ الاشراف والأجداد والعقلاء والاذكياء والحكماء. تاريخ الأطباء والفلاسفة والزنادقة والمهندسين، ونحو ذلك تاريخ المتكلمين والمعتزلة والأشعرية ... تاريخ انواع الشيعة ... والخوارج ... تاريخ اهل السنة ... تاريخ البخلاء والطفيلية والثقلاء وذوي الحمق والخيلاء والسفهاء ... تاريخ الاضراء والصم والخرس والحدبان. تاريخ المنجمين والسحرة والكيمائيين والمشعوذين ... تاريخ الشجعان والفرسان والشطار ... تاريخ التجار وعجائب الأسفار وغرباء البحرية، تاريخ أولي الصنائع العجيبة ... تاريخ الرهبان وأولي الصوامع والخلوات ... تاريخ قطّاع الطريق ولعّاب الشطرنج والنرد والقمار ... والرمي بالنشاب، تاريخ الملاح والعشاق والمتيمين والرقّاصين وشربة الخمور والغرر وأهل الخلاعة والقيادة والكذب ... تاريخ أولي الدهاء والحزم والتدبير والرأي والخداع والحيل، تاريخ الصانعين، والمخنثين وأهل المجون والمزاح ... والكذب، تاريخ عقلاء المجانين والموسوسين ... تاريخ السائلة والشحاذين والمتمنين والحرافشة، تاريخ قتلى القرآن والحب والسماع وتاريخ الكهان وأولي الخوارق والكشف ..." السخاوي ص84-85-86. تشير هذه الموضوعات وغيرها والمبوبة تحت عنوان: "تصانيف التاريخ" عند كل من الذهبي والسخاوي، الى استدخالها كل ظواهر المجتمع ووقائع الحياة اليومية في الكتابة التاريخية العربية حتى حينه 902ه. هذا، غير ان اللافت في تحديد اهداف التاريخ وأغراضه، وكذلك منهجه وطرائقه ظل في النظرية التي يقدمها كل من الكافيجي والسخاوي حبيس نظرتين سائدتين: أولاً، النظرة الى "علم التاريخ" على انه وسيلة اعتبار واختبار في السياسة والأخلاق والدين. انه عبر ودروس ومواعظ. من هنا حديث السخاوي عن فوائد علم التاريخ "الأخروية" للآخرة وفوائده الدنيوية للدنيا السخاوي، ص23-24. ومن هنا ايضاً دمجه علم التاريخ بالعلوم الشرعية وبالسياسة وبالأخلاق. يستشهد برأي للقاضي الحموية الشافعي في "فائدة التاريخ الاسلامي" فيقول: "انما الفائدة في التاريخ الاسلامي ... ذكره لعلماء هذه الأمة ... وذكر محاسنهم وعلومهم ومواعظهم وحكمهم وسيرهم التي يستدل العامل بها في أموره ويتدبرها ويتفكّر فيها فينتفع بما قالوه وما ينقل عنهم من المحاسن دنيا وأخرى". التاريخ وفقاً لهذه النظرة "استكمال" للعلوم الشرعية والسياسة والخطابة. يقول: "هذا العلم كالعلاوة على ما يعتمده من العلوم الشرعية ونتوخاه من الفنون السمعية والعقلية" السخاوي، ص25. وفي مكان آخر، يرى علم التاريخ "مندرجاً" في علوم أخر كالسياسة والأخلاق. فيقول: "ويستفاد من ابناء هذا الفن أي علم التاريخ ما لعله مندرج في علوم أخر كالسياسة، العلم الذي يتعرّف منه على انواع الرياسات والسياسات والاجتماعات الفاضلة وتوابع ذلك. وكعلم الاخلاق الذي يعلم منه انواع الفضائل وكيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها، وكعلم تدبير المنزل الذي يعلم منه الأحوال المشتركة بين الانسان وزوجه وولده وخدمه ووجه الصواب فيها..." السخاوي، ص45. النظرة الثانية، الذي ظل علم التاريخ لدى السخاوي مرتبطاً بها، هي ان هذا العلم جزء من العلوم الشرعية الفقه والحديث، فهو في شكل اساسي علم مساعد لعلم "الجرح والتعديل" اي علم ضبط الروايات والتحقق من صدقية اسانيدها وتواترها لكشف التزوير والكذب فيها. يستشهد السخاوي بالمحدث سفيان الثوري الذي يقول: "لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ" السخاوي، ص9. والتاريخ هنا، يعود لينحصر في مفهوم "التوقيت" و"العمر"، يستشهد بحسان بن زيد الذي قال: "لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ، يقال للشيخ سنة كم ولدت، فإذا أقر بمولده مع معرفتنا بوفاة الذي انتمى اليه عرفنا صدقه من كذبه" السخاوي، ص9. نستنتج من هذا انه على رغم اتساع رقعة التاريخ واهتماماته وحقوله خلال هذه الحقبة المديدة من التاريخ العربي - الاسلامي، تسعة قرون، وعلى رغم غنى انجازاته وتراكماته الضخمة، فإن التنظير لهذا العلم أي وضع نظرية وقواعد له ظل دون المستوى الذي وصل اليه ابن خلدون قبل السخاوي بحوالى مئة سنة توفي ابن خلدون 808 ه، وتوفي السخاوي في العام 902ه، كما ظل دون التعريف الذي اعطاه ابن خلدون لعلم التاريخ ك"علم مستقل" عن العلوم الشرعية وعن علوم السياسة والخطابة والأخلاق، كما يظل على مستوى القواعد ومنهج التحقق والتثبت من دون المستوى الذي دعا اليه ابن خلدون لتجاوز طريقة الجرح والتعديل في الاسناد للوصول الى استخدام المعيار البرهاني العقلي والتجريبي في إمكان حدوث الشيء او امتناعه، بالعودة الى طبيعة الاشياء و"طبائع العمران". ويذكر ان ابن خلدون يقدم تعريفاً اصطلاحياً لعلم التاريخ على مستويين، مستوى الظاهر ومستوى الباطن. وهو يستعين من اجل ذلك بمنهج التأويل الذي ظهر في اتجاهات الفلسفة وعلم الأصول والتفسير. يقول في المقدمة: "اما بعد فإن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد اليه الركائب والرحال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، اذ هو في ظاهره لا يزيد على اخبار عن الايام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الاقوال وتضرب فيها الامثال وتطرف بها الاندية اذا غصها الاحتفال وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الاحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمّروا الارض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظرٌ وتحقيق وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيقٌ وعلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقٌ فهو لذلك اصيلٌ في الحكمة عريقٌ وجديرٌ بأن يعد في علومها وخليقٌ" ابن خلدون، المقدمة، ص4. التاريخ والأسطورة هل الاسطورة هي تاريخ ايضاً؟ وهل اقتبس اليونانيون تعبير Istoria وIstor عن احدى اللغات السامية الكنعانية او الحميرية؟ رأينا ان الدارسين المعاصرين لفكرة التاريخ عند العرب يجمعون على ان مفردة "التاريخ" كانت جديدة في الاستخدام العربي، فلم ترد لا في الجاهلية ولا في القرآن. وانها استخدمت اول ما استخدمت في التعبير عن حاجة الخليفة عمر بن الخطاب لتوقيت الوقائع والأحداث والمكاتبات في صيغة "أرّخ" و"أرّخوا" ثم أُلبست الكلمة معاني اصطلاحية عدة، في غضون القرنين الأولين للهجرة، كان من بينها في شكل اساسي معنى التدوين التاريخي، او كتب التاريخ وبما هي الكتب تسجيل للوقائع والأحوال في الزمان، الى ان استخدم المصطلح بمعنى علم او "فن"، له منهجه ومسائله وموضوعاته، وكما اضحى عليه الحال في المحاولات التي تصدت لوضع نظرية وقواعد لعلم التاريخ في القرنين الثامن والتاسع للهجرة، عند كل من ابن خلدون والكافيجي والسخاوي. السؤال: ما موقع "الأسطورة" في الكتابة التاريخية وما علاقتها بالتاريخ؟ بل ان ما يستحق الاستدراك ايضاً هو المقارنة بين المفردتين Istoria إسطوريا اليونانية، وأسطورة العربية. هل من علاقة بين التعبيرين في اصولهما اللغوية واستخداماتهما الاصطلاحية في الحضارتين: في الحضارة العربية - الاسلامية من جهة وفي الحضارة الاوروبية من جهة ثانية. ونعني بهذه الاخيرة مرحلتها الكلاسيكية اليونانية - اللاتينية ولاحقاً النهضة والأنوار حيث اعيد احياء معنى التعبير اليوناني واللاتيني في الثقافة الاوروبية الحديثة والمعاصرة، اي اعيد احياء وتجديد معنى لإسطوريا Istoria في مصطلح History وHistoire، واشتقاقاته المختلفة في اللغات اللاتينية الحديثة؟ اللافت ان الكلمة العربية "الاسطورة" التي استخدمها العرب قبل الاسلام ووردت ايضاً في القرآن الكريم في مواقع عدة "اساطير الأولين" و"القلم وما يسطرون"، تعني الكتابة وهي مشتقة من سطَرَ وسطّرَ. جاء في "لسان العرب" نبذة موسعة عن معاني مفردات سطَر وسطّر وأسطور وأسطورة وأساطير واشتقاقاتها. ولعله من المفيد ان نوردها حرفياً: "سَطَرَ السَّطرُ والسَّطَرُ: الصف من الكتاب والشجر، ... وقالوا "أساطير الأولين" معناه ما سطّره الأولون ... وواحد الاساطير اسطورة، كما قالوا احدوثة وأحاديث ... وسطر يسْطرُ اذا كتب. قال الله تعالى "والقلم وما يسطرون"، اي وما تكتب الملائكة ... وسطر يسطر سطراً: اذا كتب. كما يورد لسان العرب معنىً حملته لفظة اساطير هو معنى اباطيل، والاساطير بهذا المعنى: "احاديث لا نظام لها واحدتها اسطار واسطارة، وأساطير، وأسطيرة، وأسطور وأسطورة ... وسطَّرها: ألّفها" أيضاً. نخلص من هذا الى ان مفردة اسطورة واساطير واشتقاقاتها المختلفة كان لها معان متعددة عند العرب ولم تكن تعني بالاطلاق: الاباطيل فقط. بل كانت تعني ايضاً في شكل اساسي الكتابة والتأليف، تعبيراً عن "الاحدوثة" و"الاحاديث" و"الحديث". والحديث استخدم كما سنرى ايضاً بمعنى "الخبر". و"الخبر" هو العنصر الاساسي في تكوين ما سيسمى في الحضارة العربية "علم التاريخ". تأسيساً على هذا التأصيل اللغوي يكتب حسن قبيسي في مقالته "الفكر التاريخي والأسطورة" رداً على بعض الكتّاب "الحداثيين" العرب المعاصرين الذين يعتقدون بثنائية فكرية تقول بشعوب تاريخية وشعوب غير تاريخية، وبفكر تاريخي ارتبط بالحداثة الاوروبية، وبفكر "اسطوري" ويعنون به انه غيبي وخرافي تمثل بالتراث التقليدي. يرد الكاتب على هذه الفرضية بفرضية اخرى يدعمها بالاستدلال على المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة اسطورة وأساطير، فيقول: "هذا الذي نسميه اليوم بلغتنا العربية المعاصرة مسجلاً ومدوناً ومكتوباً، كانوا يسمونه بالعربية القديمة او بأرومتها التي انبثقت وتفرغت منها سطوراً ومسطراً، وواحد فعله اسطوراً وأسطورة. وهذا على ما يبدو كلام حميري قديم، فالسيوطي يذكر في "الاتقان في علوم القرآن": "وأخرج جويبر في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: "في الكتاب مسطوراً". قال مكتوباً وهي لغة حميرية يسمون الكتاب اسطوراً" قبيسي، المتن والهامش، ص144. هذا فضلاً عن أن "اسطورة" حتى ولو اصطلح اعتمادها كترجمة عربية للتعبير اللاتيني Mythe فإن الاسطورة بهذا المعنى - وعند معظم الإتنولوجيين - ليست خالية من وقائع التاريخ وأخباره. فهي تروي تاريخاً بطريقة رمزية ومن خلال الذاكرة الجماعية. بل حتى في تاريخ العلوم والأفكار الحديثة، غالباً ما تتحول النظريات المؤسسة لمفاهيم معينة الى ايديولوجيات احادية مقدسة اي الى "اساطير" بالمعنى الذي يؤديه مصطلح Mythe، عندما تكتسي "النظرية العلمية" كصراع الطبقات والجدلية المادية والديموقراطية والليبرالية والاشتراكية، والمجتمع المدني الخ... والعقلانية، الخ... بتصورات مختلفة تضفي عليها صفة "اليقين" و"المقدس" و"النموذج. ومهما يكن من أمر الاسطورة وفقاً لاستخدامها اليوم بمعنى Mythe وهو امر ينتمي الى مجال الإتنولوجيا، والى مجال العلاقة المعرفية بين التاريخ والإتنولوجيا فإن تساؤلنا يظل قائماً حول مسألتين: اولاً: حول العلاقة بين التاريخ والاسطورة، وكما وردت الاسطورة في اللغة العربية الحميرية القديمة، وفي القرآن الكريم بمعنى كتاب وكتابة، وبين كتب التاريخ التي شهدها التاريخ العربي الاسلامي على امتداد القرون الاربعة عشر. والمسألة الثانية: هل من علاقة بين اسطرَ وسطّر، واسطور واسطورة الخ... من جهة وبين Istoria وIstor وIstorien وكما وردت في الاصل اليوناني واللاتيني من جهة ثانية؟ واللفظ الصوتي يكاد يكون واحداً في الاصلين العربي واليوناني؟ هاتان المسألتان تحتاجان الى جهود في البحث والتنقيب، من خلال ما استجد من معارف مؤسسة على الحفريات الاثرية، وعلى الجهود الفيلولوجية والألسنية وعلى معرفة أقنية التفاعل اللغوي والثقافي بين الحضارات العالمية. وبالنسبة الى المسألة الأولى، تثير هذه المسألة سؤالاً: لماذا استخدم العرب كلمة تأريخ وتاريخ، مكان الاسطرة والتسطير، والاسطورة؟ الجواب يكمن في المعنى السلبي الذي اعطاه مفسرو القرآن لتعبير "اساطير" وانطلاقاً من تفسير الآية "واذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ان هذا الا اساطير الأولين". فعند المفسرين ادى سياق الآية الى تحميل اللفظ معنىً سلبياً منبوذاً، اذ دمج الموقف السلبي من الدعوة الجديدة بالاساطير نفسها، ففسرت الاساطير في هذا السياق ب"أباطيل"، لسان العرب، وانظر ايضاً قبيسي، المتن والهامش، ص145. ولعله بسبب هذا التفسير نُبذت كلمة اسطر وسطّر وأسطورة ولم تستخدم في التراث العربي مكان تاريخ وتأريخ. بل ان المعنى الحيادي للكلمة بمعنى "كتب"، وكما وردت في الآية "والقلم وما يسطرون" لم يذهب في الاشتقاق منحى استخدام المصدر: أسطور وأسطورة، بمعنى الوصف والتحقيق كتابة، اي بالمعنى الذي استخدم في الثقافة اليونانية، ولا سيما في كتابات المؤرخ اليوناني "هيرودوت" Histories ويترجمها الفرنسيون تحقيقات. ومع ذلك فإن ابن خلدون يستخدم كلمة "إسطار" في مقدمته بمعنى كتابة التاريخ. المسألة الثانية: تثير تساؤلاً مؤسساً على نظرية مفادها ان الحضارة اليونانية ليست "معجزة" مقطوعة الجذور عن الحضارات السابقة لها في شرق المتوسط وجنوبه: حضارات وادي النيل وبلاد كنعان والهلال الخصيب وبلاد ما بين النهرين. بل ان هذه الحضارات وبشرها هي المؤسسة للانبعاث الحضاري اليوناني الذي ازدهر بدءاً من القرن الخامس قبل الميلاد، انطلاقاً من مستوطنات مصرية وفينيقية قديمة قامت في كريت وبلاد اليونان منذ الألف الثاني قبل الميلاد. بل ان معطيات أثرية وفيلولوجية تؤكد جزءاً من الاصل الفينيقي - الكنعاني للأبجدية اليونانية. يقول مارتن برنال صاحب كتاب "أثينا السوداء"، ان ربع الكلمات اليونانية فينيقية الاصل وان الابجدية اليونانية اقتبست من الابجدية الفينيقية التي نقلها الى اليونان المستوطنون الكنعانيون بدليل تشابه اصواتها ودلالاتها "ألفا، بتّاً". وأسطورة قدموس وأخته اوروبا تشير بدلالاتها الرمزية والخيالية الى الوقائع التاريخية واللغوية التي تؤكد الانتشار الفينيقي البشري والثقافي واللغوي في بلاد اليونان. بل ان المؤرخ اليوناني هيرودوت يشير بوضوح الى هذا الاقتباس، يقول: "ان الفينيقيين الذين قدموا مع قدموس واستقروا في هذه الارض احضروا معهم بين اشياء اخرى كثيرة علموها اليونان الحروف التي لم تكن معروفة لدى الاغريق من قبل في ما اعلم. فهم يدينون بهذه المعرفة للفينيقيين. وبمضي الوقت ادخل الاغريق بعض التعديلات على شكل الحروف وأصواتها. وكان آنذاك الايونيون من بين الاغريق هم الذين يقطنون حولهم فتعلّم الايونيون الحروف من الفينيقيين واستخدموها بعد ان ادخلوا عليها بعض التعديلات في الشكل ..." راجع "أثينا السوداء"، الجذور الأفرو - أسيوية للحضارة الكلاسيكية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة. وقارن ايضاً: علي الشوك، "ملامح من التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب، دمشق، 1996. فماذا اذا ثبت ان المصطلح اليوناني Istor وIstoria الذي اعتبر، عبر استخدامه عند المؤرخين الاغريق الأوائل هيرودوت، وتوسيديد المحطة التأسيسية لعلم التاريخ Histoire في اوروبا الحديثة والمعاصرة، هو المصطلح العربي نفسه ذو الاصل السامي الحميري وربما الفينيقي اسطور وأسطورة؟ اننا نرجح بناء على صحة فرضية تأثر اليونان باللغات السامية القديمة، وبناء على ان لفظة "اسطور" وأسطورة الحميرية، كانت تعني الكتب "كتب الأولين"، وليس الخرافات فإنه يصح اعتبار الكلمتين Istor وIstoria، المستخدمين كأصل لمعنى التأريخ في الحضارتين اليونانية والرومانية، ولاحقاً في الحضارة الاوروبية الحديثة، من اصل سامي حميري، جاء من شبه الجزيرة العربية ومرّ ربما عبر اللغة الكنعانية الى بلاد اليونان. * مؤرخ لبناني.