يبدو في هذه الأيام بعض التشابه بين ما يحدث الآن في مقدونيا وبين ما كان يحصل في كوسوفو خلال 1998 و1999. فالحرب ليست في ساحات القتال بقدر ما هي في ساحات الاعلام أيضاً. فصحيفة "الاندبندنت" لخصت الأمر بنظرة ثاقبة فقالت: الحرب في مقدونيا ليست بين جيشين، بل بين حقيقتين أيضاً عدد 26/3/2001. فهناك حقائق في كل جانب، ولذلك لا بد من التعرف عليها. وفي الواقع ان هذا ينطبق على وسائل الاعلام العربية التي، بحسب المصادر التي تأخذ عنها، تمايلت ما بين الجيشين / الحقيقيين مما جعل القارئ يحتار بين الطرفين. فوجهة النظر المقدونية، التي وُجد من يروّج لها بحماسة، كانت تركز على وجود "استنفار الألبان في كل البلقان" وعلى "استنفار لجيش تحرير كوسوفو" لتحقيق "ألبانيا الكبرى" وعلى وجود "عدوان على مقدونيا من الخارج/ كوسوفو" مما أصبح يهدد باندلاع "الحرب الرابعة في البلقان". وهكذا، كما لم يحدث من قبل، أصبح الألبان يهددون كل البلقان ب"ألبانيا الكبرى"، التي كثر استخدامها في هذه الأيام. وفي المقابل كانت وجهة النظر الألبانية تركز على وجود مشكلات في الداخل مقدونيا، وتحديداً في انفجار الاحباط من التباطؤ في تصحيح الخلل الحاصل في العلاقة بين الطرفين المقدوني والألباني الذي كانت وعدت به الحكومة الائتلافية الحالية. فالألبان يشيرون الى التعديلات الدستورية التي تمت خلال 1989 - 1990 وجعلت مقدونيا تتحول من "دولة مشتركة" الى "دولة قومية للشعب المقدوني" مما كان يعني تهميش الطرف الآخر الألبان في هذه الجمهورية. وبالمقارنة مع وجهة النظر المقدونية يشكو الألبان من "تزوير" الاحصاءات الرسمية التي تقول انهم ربع السكان، بينما يقولون هم انهم يشكلون 35 في المئة على الأقل، ويشيرون الى تراجع تمثيلهم في ادارة الدولة، وعدم الاعتراف بلغتهم في التعليم العالي الخ. وعلى رغم ان الحكومة الائتلافية الحالية، التي يتمثل فيها الألبان بخمسة وزراء من الحزب الديموقراطي الألباني، تُعتبر انجازاً في جمهورية مقدونيا منذ تأسيسها 1945 الا ان تباطؤ هذه الحكومة في تصويب الخلل بسبب الظروف الاقليمية المجاورة، فقد أكد الألبان في مقدونيا ان العالم لم يسمع عن الألبان في جنوب صربيا، وعن مشكلاتهم المتراكمة منذ عقود، الا بعد أن اندلع العمل المسلح هناك في نهاية 1999 بقيادة "جيش تحرير بريشيفو وبويانوفاتس وميدفيجا" وأدى هذا العمل المسلح الى أن تعترف بلغراد، تحت ضغوط أوروبية، بالخلل الحاصل وتقدم خطة تنمية شاملة تقوم على مشاركة السكان الألبان في الادارة والشرطة. وبالفعل ما ان بدأت الطلقات الأولى في شمال مقدونيا في مطلع آذار مارس الماضي حتى أصبحت مقدونيا والألبان في مقدونيا على رأس الأخبار اليومية في وسائل الاعلام المرئية والمطبوعة. وربما شجعت كل جانب ان يستفيد من هذه الفرصة لمصلحته ضد الطرف الآخر. فمقدونيا القلقة على حدودها منذ استقلالها عن يوغوسلافيا في 1991 رأت في هذا التصعيد العسكري فرصة لاستقطاب التأييد الاقليمي - الدولي، وهو ما حصلت عليه بالفعل في الاسابيع الثلاثة الأولى، ولكنها أخذت تتعرض لضغوط قوية في الاتجاه المعاكس خلال الاسبوع الرابع. فانهالت عليها المساعدات العسكرية واللوجستية من اليونان وبلغاريا وأوكرانيا وصربيا في شكل غير معلن وبعض الدول الغربية، ولكنها أخذت تتعرض لانتقادات في الأسبوع الأخير من هذه الدول بريطانيا وألمانيا وحتى بلغاريا ل"استخدام القوة المفرط". ومن ناحية اخرى أخذت دول الاتحاد الأوروبي التي دعمت بقوة مقدونيا تقوم الآن بالضغط عليها لاجراء اصلاحات تلبي مطالب الألبان. وهكذا يمكن القول ان الذروة في هذا الموقف المشترك العسكري/ السياسي تمثلت في قمة الاتحاد الأوروبي في استوكهولم في 24/3/2001. ولكن المشكلة ان بعض وسائل الاعلام العربية وبحسب المصادر "الموثوقة" التي تعتمد عليها ركزت على جانب واحد فقط. وهكذا استخدمت بعض الصحف العرقية عناوين في الصفحات الأولى تقول "القمة الأوروبية: دعم كامل لسكوبيه في مواجه الألبان" وهو ما يمثل الحقيقة الأولى، بينما الثانية الغائبة تقول ان "الخطوط الحمر" التي كانت تتشبث بها سكوبيه سقطت الآن لمصلحة الألبان. أكدت القمة الأوروبية فعلاً على دعم سكوبيه في وجه العمل المسلح للجماعات الالبانية "المتطرفة"، ولكنها في المقابل سجلت نقطة تحول في الضغط على سكوبيه للأخذ في الاعتبار مطالب الألبان. وكان أول من عبر عن هذا الموقف الجديد المستشار غيرهارد شرودر الذي قال انه "يجب ممارسة الضغط على المسلحين ولكن يجب التعاطي أيضاً مع الأقلية الألبانية بمزيد من العقلانية"، وهو ما كرره وزير الخارجية يوشكا فيشر من انه "يجب الأخذ في الاعتبار الظلم الذي تواجهه الأقلية الألبانية". ومع هذه القمة الأوروبية بدا ان الموقف الجديد يُسمع بوضوح أكثر في واشنطن، إذ تم أول اتصال بين كولن باول والرئيس المقدوني بوريس ترايكوفسكي في 25/3/2001، و"دان أعمال المسلحين وأشاد بالتحركات الرامية الى تعزيز الائتلاف في مقدونيا". وكان باول سبق الآخرين ب"نصح الحكومة المقدونية بمعالجة شكاوى الأقلية الألبانية"، وأشار للمرة الأولى الى أن "التعديلات في مقدونيا يمكن أن تشمل تعديلات دستورية ومنح فرص أكبر للألبان للدراسة في لغتهم". وللتأكيد على هذا الموقف الجديد قام مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافير سولانا بزيارة خاطفة الى مقدونيا في 27/3/2001 والتقى بقادة الأحزاب الالبانية آربن جعفيري وعمر عمري وأبلغهم بضرورة "وقف العنف وبدء الحوار السياسي الداخلي لخدمة الاستقرار في الدولة". وبعد عودته من مقدونيا قدم سولانا الى البرلمان الأوروبي في 28/3/2001 تقريره الذي قال فيه: "ان رسالتنا التي تقول ان أي مسعى سياسي لا يمكن باستخدام السلاح قد فُهمت من كل الاطراف". ومن هنا نقل لأعضاء البرلمان ان سكوبيه بدأت التجاوب مع مطالب الألبان بفتح محطة تلفزيون في اللغة الألبانية وعلى بدء التعليم الجامعي في اللغة الألبانية في تشرين الأول اكتوبر المقبل، بينما لم يشر صراحة الى التعديلات الدستورية. ويبدو الآن ان سولانا في زيارته الى مقدونيا ولقائه مع الطرفين انما كان يتحرك بالاستناد الى خطة اوروبية سُرّبت الى الصحافة المقدونية في 24/3/2001 لهدف معين. وبحسب ما سُرب فإن الخطة الأوروبية تتضمن ثلاثة بنود: تعديلات دستورية، الاعتراف بالألبانية لغة رسمية، واصدار قانون جديد حول الادارة المحلية يفضي الى تطبيق اللامركزية في الجمهورية. ويبدو ان هذا التسريب كان متعمداً لاثارة مخاوف الطرف المقدوني، إذ ان الصحافة المقدونية انتقدت بعنف هذه الخطة لأنها تخترق "الخطوط الحمر" التي يتمسك بها الطرف المقدوني. واضطر وزير الخارجية المقدوني سرجان كريم الى امتصاص الموقف في لقاء مع محطة "دويتشه فيله" في 24/3/2001 أنكر فيه مثل هذه الخطة في استوكهولم. ولكن الأيام الأخيرة توضح ان مثل هذه الخطة موجودة، أو انه على الأقل يُعمل بموجبها في هذه الأيام، مما يعني فعلاً سقوط "الخطوط الحمر"، التي كانت سكوبيه لا تقبل النقاش فيها في السنوات الماضية. وهكذا كان من المفارقة ان يعود وزير الخارجية المقدوني بعد أربعة أيام فقط 28/3/2001 الى الحديث مع "دويتشه فيله" ايضاً ليقول هذه المرة ان "كل المطالب الألبانية ستناقش في البرلمان بما في ذلك تعديل الدستور". واعترف كريم في هذه المناسبة انه يجب تمثيل الألبان بحجم أكبر في ادارة الدولة، إذ "لا يجب السكوت عن هذا الوضع بعد الآن". والأهم من هذا وذاك ان وزير الخارجية المقدوني اعترف في اليوم نفسه 28/3/2001 ان سكوبيه قدمت خطة للحل الى الاتحاد الأوروبي تتألف من أربعة بنود تعديل الدستور، تعديل قانون الادارة المحلي، استخدام اللغة الألبانية، فتح جامعة باللغة الألبانية، وأوضح ان المباحثات مع الألبان حول ذلك ستبدأ قريباً نشرة "تشيك" 28/3/2001. وهكذا يمكن القول ان "الحرب الرابعة في البلقان" لم تندلع، بل سقطت "الخطوط الحمر" التي كانت مصدراً للتوتر بين الطرفين. وبعبارة اخرى تبينت أخيراً بعض الحقائق لدى كل طرف، أي ان مقدونيا لم تتعرض الى "عدوان من الخارج" وان الألبان لم يعد لهم مبرر لاستخدام السلاح بعد ان حققوا ما كانوا يطالبون به منذ سنوات. * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت، الأردن.