أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    "سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقية لتشغيل مركز الأطراف الصناعية في مأرب    شراكة تعاونية بين جمعية البر بأبها والجمعية السعودية للفصام (احتواء)    وزير الدفاع اللبناني: لا حرية لإسرائيل في أراضينا    المملكة تشارك في اجتماعات الدورة ال29 لمؤتمر الدول الأطراف لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي    السفير الجميع يقدم أوراق اعتماده لرئيس إيرلندا    توقيع مذكرة لجامعة الملك خالد ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    وزير النقل: انطلاق خدمة النقل العام بتبوك منتصف العام القادم    انتقادات من جيسوس للتحكيم بعد مواجهة السد    وزير الموارد البشرية: إنجازات تاريخية ومستهدفات رؤية 2030 تتحقق قبل موعدها    المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع يختتم فعاليات نسخته الثالثة بالرياض    الأونروا تحذّر من وصول الجوع إلى مستويات حرجة في غزة    بدء تشغيل الخطوط الجوية الفرنسية Transavia France برحلات منتظمة بين السعودية وفرنسا    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    استقرار الدولار الأمريكي قبيل صدور بيانات التضخم    الأمم المتحدة تدعو إلى تحرك دولي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني    الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    عامان للتجربة.. 8 شروط للتعيين في وظائف «معلم ممارس» و«مساعد معلم»    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    وصول الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    أمير الرياض يطلع على جهود "العناية بالمكتبات الخاصة"    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    وزير الصناعة: 9.4 تريليون ريال موارد معدنية في 2024    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقدم الاصلاح وتراجعه في سورية في تجربتي عامي 1980 و2000 : كي لا يسخر التاريخ
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 2001

في خضم الأزمة في سورية أواخر السبعينات، وبعد ثلاث سنوات من فتح ملف المحاسبة واغلاقه بسرعة عام 1977 بمجرد انكشاف قائمة من يجب ان تطاولهم المحاسبة، كلف الرئيس الراحل حافظ الأسد لجنة من ستة أعضاء من القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة بعقد لقاءات مفتوحة مع القطاعات الاجتماعية المختلفة، وكان ذلك في أواخر عام 1980، وهو ما يتكرر اليوم بعد عشرين عاماً ونيف.
في ذلك الوقت لم تكن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كما هي اليوم. فبعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 شهدت سورية ازدهاراً مادياً اتخذ شكل طفرة مالية شملت الدولة والاقتصاد الكلي الذي شهد معدلات نمو عالية، وارتفعت معدلات الاستثمار والتوظيف حتى بلغت البطالة أدنى مستوياتها، وكانت الرواتب والأجور تنمو مع ارتفاع الأسعار التضخمي الذي نجم عن هذه الطفرة المالية.
كان الطابع الأساسي للأزمة سياسياً بالدرجة الأولى، وكان استقرار المسؤولين في مواقع القرار والمسؤولية لمدة 10-15 عاماً أدى الى خلق مراكز نفوذ وجماعات مصالح متسابقة متصارعة على الاحتكار والاستئثار، وبلغت الحمى المصلحية حداً كاد يصهر بناره البلاد والعباد، ما رفع بالمقابل حمى النقد والمعارضة في المجتمع وحتى داخل الحزب الحاكم الى درجات تعصى على الضبط والتحكم. كانت ما تزال لدى الناس بقايا حية من الطموحات الديموقراطية والقيم والمبادئ الاخلاقية التي يقاومون بها الاحتكار والاستهتار. وتفاءل الناس بفتح ملف المحاسبة عام 1977 لكن اغلاق الملف بعد انكشاف المتورطين في النهب والفساد أصابهم بخيبة، خصوصاً بعد ان استقوى المتهمون بالفساد وسوء استغلال السلطة وشركاؤهم من خارج السلطة ليشكلوا دروعاً متماسكة يمكن الاطلاع على سجل موسع لوقائع الفساد في محاضر المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي دامت جلساته حوالى 25 يوماً في عام 1985.
في مدرج جامعة دمشق، وعلى المنصة اياها وفي أواخر 1980، جلس قادة الجبهة ليقولوا، ان الوطن في خطر، وعلى الجميع أن يتكاتفوا لإنقاذه، وأنهم يقفون أمام الجمهور ليسمعوا بصراحة وشفافية كاملة رأيه فيهم وفي سياساتهم وتصوره لطرق الخروج من الأزمة، مهما كانت هذه الآراء والتصورات قاسية وجارحة.
بل وصلت النبرة الديموقراطية في الجلسة الثانية الأخيرة وكانت مع أساتذة جامعة دمشق بعد جلسة اليوم السابق التي كانت مع الكتاب والصحافيين الى القول، تشجيعاً للحاضرين على الحديث، بعد استنكافهم "لكم أن تعتبروننا متهمين وتحاكموننا. واننا نعترف لكم بانقطاعنا عنكم طوال السنوات الماضية، وبمخاطبتكم من طرف واحد، والآن جئنا نسمعكم تقولون فينا ما تشاؤون... وان هذه اللقاءات ستستمر من دون توقف مفتوحة من دون قيود أو حدود مع كل القطاعات الشعبية وفي كل المحافظات...".
وكما اغلقت ملفات لجنة المحاسبة لعام 1977 واستقوى المتهمون على الشعب، كذلك لم تحتمل المكاشفة أكثر من جلستين عام 1980، وكان ختام الجلسة الثانية والأخيرة، وبعد سماع آراء الناس التي كانت حرة جداً، كما هي هذه الأيام، في مدرج جامعة دمشق، وفي قاعات المنتديات الخاصة وأمام المسؤولين أنفسهم، كان الختام آنذاك، باللسان الذي افتتح الاجتماع بلغة بالغة الطراوة والإلفة والديموقراطية، يعتمد لغة ماريشالية استعلائية تهديدية لكل "من ظن أن السلطة تواضعت ونزلت الى الجمهور من موقف ضعف، بينما هي في أقوى حالاتها، وتستطيع ان تضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه التطاول على مقاماتها".
بدأ ربيع سورية آنذاك وانتهى في يومين اثنين، لتخسر سورية بعد ذلك عقدين كاملين من تطورها الاقتصادي والاجتماعي. ويكفي توضيحاً لما نقصده بالزمن الضائع ان نقول ان متوسط نصيب الفرد السوري من الدخل القومي اليوم، عام 2001، هو أقل من متوسط نصيبه عام 1980. أما متوسط الأجور الحقيقية اليوم فلا يزيد عن ثلث متوسطه قبل عشرين عاماً، على رغم أن معدل النمو الاقتصادي العام، بحسب الاحصاءات الرسمية، كان على مدى العشرين عاماً، أعلى، بالمتوسط، من معدل نحو السكان بنسبة ملموسة، اذا استثنينا العامين الأخيرين، حيث انخفض من دون معدل نمو السكان. فأين ذهب النمو الاقتصادي على مدى عشرين عاماً، ما دام لم يصل الى الغالبية الساحقة من الشعب؟ الجواب بسيط جداً: لقد حطت الحصائل الهائلة في جيوب وحسابات المستقرين الآمنين من أي نقد أو إشارة الى ممارساتهم وسياساتهم الاقتصادية والاجتماعية وقوانينهم وقراراتهم، أو الضاربين عرض الحائط بأي نقد، فيما لو ظهر على رغم كل الاحتياطات والرهابات، وهي الجيوب والحسابات المفتوحة بعيداً خارج الحدود، والتي تقول، بشهية متزايدة: هل من مزيد؟
والزمن الضائع لا يقاس بالمال فقط، بل بمقاييس اجتماعية وثقافية وعلمية وتكنولوجية وغيرها كثير. ولا ينفي الزمن الضائع ان يتحقق توسع وانجازات على الأرض خلاله. فالمعيار هو الفرق بين ما كان يجب ان يكون انطلاقاً من جميع الاعتبارات الموضوعية.
واليوم لا بد من السؤال: ماذا فعلنا، نحن، جماعة المنتديات ولجان إحياء المجتمع المدني عام 2000 - 2001، حتى نستحق نزول القيادات، للمرة الثانية خلال ثلاثين عاماً، الى قواعد الحزب والجماهير، للرد مرة ثانية بأبشع الاتهامات على المنتقدين؟ الأمر ببساطة: لا نحن تغيرنا، بأشخاصنا وبأفكارنا وبمارساتنا ولا هم تغيروا، بأشخاصهم وبأفكارهم وبممارساتهم! فهل هناك بلد آخر في العالم ينعم بمثل هذا الثبات والاستقرار والاستمرار على ضفتي نهر الحياة الجاري، الذي يقال انك لا تستطيع السباحة فيه مرتين؟
شاءت الأقدار أن نسبح في النهر نفسه عقوداً عدة، بخلاف قوانين الطبيعة الثابتة. وللإجابة عن سؤال: ماذا فعلنا وماذا فعلوا؟ من المفيد ان أذكر ببعض ما قلته في مدرج جامعة دمشق لقيادة الجبهة قبل عشرين عاماً، وأظنهم يذكرونه جيداً. قلت، مما أتذكر الآن: "إننا نعيش في جمهورية، ولدينا دستور عروبي تقدمي، ولدينا جبهة وطنية تقدمية تضم مجموعة من الأحزاب السياسية، ولدينا مجلس شعب ومجلس وزراء ومجالس ادارة لا تضاهي في كل مكان، ولدينا منظمات شعبية تضم جميع السكان ولدينا ولدينا... فماذا ينقصنا إذاً؟ لماذا دعوتمونا لتقولوا لنا إن الوطن في خطر؟ اذا كان ما تقولون صحيحاً، وهو صحيح آنذاك، فهذا يعني ان هذه الهياكل والأشكال جميعها ميتة، لا تمثل الشعب والوطن، وأن الخروج من الخطر يستوجب تغييرها. إنكم تتساءلون، ببراءة الأطفال، لماذا يحصل في وطننا ما يحصل؟ أما أنا فأقول: لو لم يكن يحصل ما يحصل لكان يجب ان نسأل لماذا لا يحصل؟ لأن ما يحصل هو النتيجة المنطقية والحتمية لسياساتكم وممارساتكم. لقد وضعتم الدستور والقوانين على الرف، واحللتم محلها جميعاً قانوناً واحداً من سطر واحد غير مكتوب أصبح يحكم نواحي حياتنا العامة بعد تعطيل القوانين الأخرى، وينص على أن كل من تثبت كفايته في الفساد والتخريب والتهريب يرتقي من أدنى المناصب الى أعلاها، وكل من تثبت كفايته في العلم والعمل والوطنية والاخلاص يخفض في المناصب الى أدناها أو الى الحضيض. لقد كان شعبنا محسوداً بحسه الوطني الثوري الأصيل. كان يتحرك بصورة عفوية ليحطم مصالح الدول المعادية قبل ان ينطق الأعداء بمخططاتهم، فما الذي قتل روح هذا الشعب وجعله كالسردين المعلب لا يتحرك ولو أحرق الاعداء بيته الا بتوجيه؟ إن أي خسارة مادية مهما بلغت قابلة للتعويض. أما خسارة روح الشعب ومبادئه فهي الوحيدة التي لا تعوض أبداً... الخ الخ".
وقال الآخرون الكثير. ولسنا في حاجة لشرح كيف سار التطور بعد وقف تلك الاجتماعات، وكيف "استفادت" السلطة من الرأي الآخر!
الآن، بعد عشرين عاماً، لا يقتصر الشبه بين المناسبتين على أن معظم الأشخاص الطبيعيين ما زالوا أنفسهم، بل على ان المشكلات والقضايا، بل منطق ومضمون الخطاب، الرسمي وأسلوب "الحوار" مع الرأي الآخر ما زالت نفسها لم تتغير، وكأن عشرين عاماً من أواخر القرن العشرين لا تعني شيئاً أبداً!
ما زالت المسؤولية على الأشياء والظروف والعوامل الخارجية واسقاطاتها على الوضع الداخلي لماذا لا تذكر إلا الاسقاطات السلبية؟ لماذا يصرون دائماً على تجاهل "الايجابيات"؟!. من هذه الظروف: "حرب تشرين، وحرب لبنان، والسادات واتفاقه مع اسرائيل، واحداث الإخوان المسلمين، ومرض الرئيس الراحل ومشكلة رفعت الأسد، والحرب العراقية -الايرانية والاجتياح الاسرائيلي الثاني للبنان واجتياح العراق للكويت... الخ"، هذه هي الأحداث التي أدت، بحسب الخطاب الرسمي، الى نمو الكثير من السلبيات، وهي المانع لإلغاء الأحكام العرفية، وعلى رغم الأخطاء التي مورست في تطبيق قانون الطوارئ، إلا ان "الغاء قانون الطوارئ يؤدي الى ان تفلت البلاد"؟ وكأن البلاد غابة وحوش برية! ملاحظة: الكلام بين قوسين كبيرين من عندنا
والأهم، الجديد مما لم يُقل عام 1980، هو التأكيد على أنه "إذا كانت الاشتراكية تخلق وتشيع الفساد فنحن نعمل ضد الاشتراكية"!! وهذا في اطار ما يسمونه "البحث عن مفاهيم جديدة"!! فهل احتاج مسؤولونا الى ثلاثين عاماً لاكتشاف سبب الخلل، "الاشتراكية"، أم أنهم كانوا مبدعين جداً إذ اكتشفوا هذا السبب وعملوا ضده منذ اليوم الأول لوصولهم الى السلطة باسم الاشتراكية وقبل عقود من سقوط الاتحاد السوفياتي؟ ألا يستحق هذا الاكتشاف المبكر والعمل على هديه منذ ذلك الوقت، ومن دون ان يؤثر حتى اليوم على التمسك بالقطاع العام وممانعة تخصيصه، جائزة نوبل في العلوم السياسية؟
أما الاكتشاف الجديد حقاً فهو الاختيار بين طريقين للتخلص من "مساوئ الاشتراكية"، وهو ما لم يكن متاحاً تاريخياً عام 1980. إنه رفض المسؤولين الطريق الروسي واختيارهم الطريق الصيني! ومبرر هذا الاختيار، بحسب دعاته، هو أن "التجربة الصينية تجلت باصلاح اقتصادي كبير وخطوات صغيرة في الاصلاح السياسي"!
ولأن مغزى هذا التفضيل، حسبما يفهم الجميع من الكلمات أعلاه، هو "البقاء والثبات"، بالمعنى الشخصي، فإننا، للحقيقة والتاريخ ومن باب النصح، نقول ان الطريق الروسي للإصلاح برهن على انه أكثر تمسكاً من الطريق الصيني بالأشخاص الطبيعيين، وهو عين القصد. فبينما تبدلت أطقم وأجيال القيادات الصينية، الحكومية والحزبية السياسية والاقتصادية والادارية مرات عدة خلال مرحلة الاصلاح فإن القيادات الروسية وكذلك قيادات دول الاتحاد السوفياتي السابق برهنت على ثبات واستمرارية تحسدان عليها. انها حتى اليوم، وقد بلغت في عدائها للشيوعية الحد الأقصى، ما زالت هي تلك القيادات السوفياتية الشيوعية جداً قبل سقوط الاتحاد السوفياتي! ألا يجرنا ذلك الى السؤال: من الذي يستطيع قيادة سورية الى الطريق الروسي: المسؤولون، أم النقاد؟ وهل النقاد هم الذين قادوا التحول في روسيا على طريقة يلتسن، ومن قبله غورباتشوف، أم هم الذين ارادوا استبعاد احتمال هذا الطريق، وما زالوا خصوماً له حتى اليوم؟ فلنضرب مثلاً، ليس بالنقاد الشرفاء من الشيوعيين والمواطنين السوفيات الوطنيين، بل بأشهر منشق ومعارض للاتحاد السوفياتي آنذاك، وهو الكاتب الروسي سولجنستين، وكذلك عالم الذرة الشهير زخاروف، اللذان هاجرا الى الغرب، وعملا كل ما بوسعهما لتقويض النظام السوفياتي، لاكتشافهما المبكر بموت آليات التطور في هذا النظام، هذا الاكتشاف الذي حصلا فعلاً بسببه، وبفضل انجازاتهما الأدبية والعلمية، على جائزة نوبل، هذان المنشقان هما اللذان وقفا ضد أشكال التحول من الشيوعية الى الرأسمالية التي طبقت أيام حكم يلتسن وعصابات سلطته في التسعينات، وفضحا هذه الأشكال والقائمين عليها، الى جانب نقدهما الرأسمالية الغربية، والأميركية خصوصاً!!
إذاً، حتى هؤلاء الأكثر تطرفاً ضد "النظام"، كانا يتطلعان الى نظام آخر، نظام وطني يحافظ على كرامة وطاقات وانجازات البلاد والعباد، ولا يقوم على رفات البلاد والعباد، لمصلحة الرأسمالية العالمية المعادية لبلادهم وشعبهم.
فإذا كان الطريق الصيني أكثر تغييراً للقيادات من الطريق الروسي في الاصلاح، فأي من الطريقين اذاً تفضلون؟ ومن هو المسؤول عن الانحراف الروسي عن مصالح الوطن والشعب: المسؤولون أم النقاد؟
نحن متأكدون من وجود ارادة قوية ورغبة عميقة في الاصلاح، انطلاقاً من وعي وشعور صحيح بحجم الخسارة المتراكمة، التي لا يجوز تحميل مسؤوليتها الى الاعتبارات والظروف المزعومة أعلاه، هذه الظروف التي كان يجب ان ترفع، على العكس، الى مزيد من الاخلاص والالتزام والوطنية والفاعلية والعقلانية، وانما يتحمل مسؤوليتها من حولوا كل شيء على أرض الوطن الى باب رزق، وكل مبدأ وكل قيمة الى سلطة وتجارة، الى ان وصلنا الى أوضاعنا الراهنة. نشك أن الله وحده هو الذي يحمينا. فلو، لا سمح الله، حدثت هزة أرضية متوسطة، كما حصل في تركيا أو الهند، لكشفت كل الأستار، ولبينت حجم الفساد والإهمال والتنكر للمصلحة العامة الذي منينا به على مدى الزمن الضائع، الذي أصبح فيه كل أحد، وكل شيء، يحمل في الداخل ضده، ويعمل عكس ما هو مطلوب منه أو مناط به، وذلك بعد ان مات الاحساس بالهزات الاقتصادية والاجتماعية.
ارادة الاصلاح شيء، والواقع ما زال شيئاً معاكساً تماماً. ولقد آن الأوان لنوقف الأشياء على ساقيها، بعد ان مشت على رأسها دهراً طويلاً. ولا يمكن ان تعود الأشياء للسير على رأسها ما دام الواقع، بكل قواه المشخصنة، يقاوم بكل شراسة الاصلاح الحقيقي، أي الاصلاح الذي يصب في صالح الوطن والشعب، وليس في الجيب!
من سخرية التاريخ، هذه المرة، أن الرد على الاتهامات التي اطلقها المسؤولون على النقاد جاء على لسان أبناء السلطة أنفسهم، من كوادرها الحزبية المخضرمة، أولاً، ومن اوساط الجيل الجديد الذي لم يقرأ أو يسمع يوماً، وقد قضى حياته في أطرها ومنتظماتها، سوى الكلام الدعاوي الرسمي. فبماذا سيُتهم هؤلاء، وهم يزيدون على افكار وانتقادات "الغير"، من منتديات ولجان؟
وهل نذكِّر بأن الانقلاب الفلسفي الذي يرجع اليه الفضل في نجاح الاصلاح الصيني النسبي، يتلخص في اعتبار "الواقع هو المصدر الأول للحقيقة" وذلك بدلاً من اعتبار افكار وخطابات القادة والمسؤولين المصدر الوحيد الأوحد للحقيقة على مدى ثلاثين عاماً من عمر الثورة الصينية حتى بدء الاصلاح؟
مضى على "ثورتنا" أكثر من ذلك الزمن من عمر الثورة الصينية، وأكثر من نصف عمر الثورة الروسية، أما آن الأوان لأن نقلب الفلسفة السائدة لدينا، والتي ما تزال تسير على رأسها حتى الآن، والتي لا تؤمن بأي مصدر للحقيقة غير الخطاب الاعلامي والرسمي، لتسير على قدميها، باعتبار الواقع الفعلي المصدر الأول للحقيقة؟
الاصلاح المطلوب ليس "روشنة" يضعها شخص ما أوجهة ما، وانما هو العمل المستمر بما يلبي متطلبات التطور واحتياجات البلاد ومصالح الشعب. وهكذا اصلاح لا يمكن فرضه وانما يحتاج الى استشارة ومشاركة الشعب صاحب المصلحة مباشرة وعبر ممثلين حقيقيين له يخدمون باخلاص مصالحه وليس فقط مصالحهم الخاصة. من أجل ذلك، نقطة البداية ومفتاح الاصلاح هما الافراج عن الرأي الآخر عبر جميع قنوات التعبير المتاحة والممكنة في الداخل واعطاء الناس حرية تمثيل أنفسهم بأنفسهم أو بمن يختارون بإرادتهم الحرة، وأي اصلاح يفرض عليهم قبل ذلك سيكون نقيضاً للاصلاح الحقيقي المطلوب. هذه هي الضمانة لكي لا يعيد التاريخ نفسه.
* كاتب سوري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.