السؤال الاول الذي يطرحه اي سوري مهتم بالشأن العام عندما يلتقي او يتحدث بالهاتف مع صديق او زميل له هو: هل من جديد؟ ما الاخبار لديك؟ ان قضية الساعة في سورية خلال الاشهر الاخيرة هي مجريات الاصلاح. واذا كانت هناك تصورات مختلفة جداً حول وتيرة ومضمون الاصلاح المطلوب وهو امر طبيعي، الا ان هناك اجماعاً شعبياً على وجوب الخروج من الثوب القديم الذي شبع اهتراء منذ سنوات طويلة. اما على المستوى الرسمي، فالمواقف مختلفة جداً بين من لا يتصور التغيير لأنه اعتاد ان يفصل حقائق التاريخ على قياس مصالحه واهوائه وبين من لا يرى اي امكان لاستمرار الاشكال القديمة، ولكنه مع ذلك لا يرى الوقت قد حان لتغييرها. وهذا ما يرتب على قوى الاصلاح مسؤولية مضاعفة، اولاً للعمل على تقصير الزمن الضائع، وثانياً للحيلولة دون ان تستمر خطة ومهمات قوى الجمود والفساد في منع الاحياء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ان يكون مضمون المرحلة القادمة، واحداث التغييرات التي تقطف منها الزبدة بينما تترك للشعب الزبد. ان الافشال المتعمد لمحاولات الاصلاح المتتالية من تشكيل لجنة المحاسبة عام 1977، الى تكليف لجنة من قيادة "الجبهة الوطنية التقدمية" بعقد لقاءات مصارحة مع الكتاب والادباء والصحافيين واساتذة الجامعة في خريف عام 1980، والى التغيير الحكومي عامي 1987 و2000، هذه المحاولات التي كانت تنتهي بخلاف ما تحتاجه البلاد وما ينتظره الشعب من تغييرات، في اشخاص السلطة او في السياسات و الممارسات، كل ذلك يجعل السوريين يتطلعون الى نجاح عملية الاصلاح بأمل. في بعض الدوائر ما زالت تتكرر منذ مطلع التسعينات وحتى اليوم، عبارات التخويف والتحذير من اي مطالب اصلاحية على انها ستقود الى النموذج الروسي في الاصلاح، بما يعنيه ذلك من المحافظة على الوضع الذي اعتادوا عليه كأفضلية لا بديل عنها. وكان الثمن عشر سنوات من الجمود والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي - التكنولوجي، وتسارع الافقار وتزايد البطالة، وتعاظم الثروات عند القلة التي "تحمي" البلاد والشعب من "الكارثة الروسية". والآن نفدت وسائل "الحامية" في الاستمرار في محاولتها حجب الشمس باصبعها. الا ان الحقائق العارية لم تكن كافية لوضع قطار الاصلاح على السكة في الاتجاه الصحيح، ذلك للافتقار حتى الآن الى القوى الشعبية الحية المنظمة الواعية التي تستطيع التأثير على قرارات واختيارات السلطة التنفيذية "الاصلاحية"، والتي لم تقدم حتى الآن برامج او اتجاهات مختلفة نوعياً عما كان سائداً في المراحل الماضية، وبالاخص في المجال الاقتصادي. هناك لدى نسبة عالية من المواطنين امل، يتخذ حتى الآن شكل حلم، بالاصلاح، لكنه يحتاج الى رعاية وارواء حتى لا يبهت ويذبل بمرور الايام والأشهر. ان افضل سقف زمني لبرنامج اصلاحي يحدث الاحياء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هو موعد الانتخابات المقبلة لمجلس الشعب، وهو خريف عام 2002. ان تحديد مضمون ومهمات برنامج الأشهر العشرين المقبلة هو الذي يحدد وتيرة العمل في انجاز هذا البرنامج. الا ان مرور المناسبة من دون اي انجاز نوعي سيكون اضاعة لفرصة لا تعوض تضاف الى قائمة الفرص السابقة الضائعة وربما تكون نتائجها اكثر سلبية نتيجة اختلاف الظروف والمعطيات المحلية والاقليمية والدولية. ولماذا لا تكون الاشهر العشرون المقبلة كافية لوضع وتنفيذ برنامج احيائي يغير نوعياً البيئة المادية والمعنوية لحياة الشعب السوري؟ أليست مهلة مثالية شريطة الاستغلال الاقصى للوقت ولجميع الطاقات واستنهاض القوى الشعبية صاحبة المصلحة في الاصلاح؟ ان الشرط الاهم الذي يجب اعلاؤه كمحدد للاصلاح هو استبعاد المحذور الذي يحب ان يكرره الدكتور جلال احمد امين وهو ان جميع الثورات في التاريخ تقوم باسم الفقراء ولأجلهم وعلى اكتافهم ثم يكونون الخاسر الاكبر منها في نهاية المطاف. وينطبق ذلك على تجارب العقود الماضية التي دفع خلالها الفقراء ثمناً باهظاً "للانجازات" التي كانوا وقوداً لها. والسؤال الاهم هو كيف يمكن تجنب هذا المحذور ما دامت الجماهير مستبعدة عن المشاركة في الخيارات، وما دامت اوضاعها والتغيرات التي تطرأ عليها بنتيجة الخيارات الرسمية مغيبة عن الانظار، بينما يتولى البت في القرارات والخيارات غالباًَ من لم يسجلوا يوماً اي فعل خير لمصلحة الجماهير بل لأنفسهم فقط ومن حساب الجماهير؟ ان استنهاض الشعب بجميع فئاته للمشاركة في اختيار الاصلاحات وتنفيذها هو الضمانة لتأتي الاصلاحات بالخير للشعب والوطن. واذا كان حزب "البعث" القائم على السلطة قد ادرك ضرورة التخلي عن اسلوب تعيين القيادات الحزبية من الاعلى الى الاسفل، وهو النهج الذي ساد على جميع مستويات وقطاعات السلطة خلال العقود الثلاثة الماضية وهو المسؤول الاكبر عن الركود والعطالة وانصراف الجماهير عن الشؤون المصيرية وتعطيل دور الحزب الريادي نفسه، مما دعاه الى البدء اعتباراً من مطلع عام 2001 الجاري الى انتخاب القيادات الحزبية من القاعدة صعوداً الى القمة لينجز هذا التحول مع مطلع العام 2002 بانتخاب قيادة قطرية جديدة، فإن من الحري به ان يدرك ان حاجة المجتمع لممارسة الانتخاب الحر للسلطة التشريعية ولسلطات الادارة المحلية ولقيادات المنظمات الشعبية لا تقل عن حاجة الحزب الحاكم لهذه الممارسة. ان الانتخابات الشعبية الحرة هي التي تضمن نجاح التجربة داخل الحزب بينما خوض الحزب للتجربة في ظل سلطات معينة على الطريقة السابقة يضعف الى حد كبير الآثار الايجابية المتوقعة. وعلى الاقل، يمكن ان تكون النتائج افضل بكثير على مستوى الحزب والشعب اذا بدأت التهيئة منذ الآن، ومن دون اضاعة ست سنوات اخرى ثمينة لاجراء انتخابات حرة مفتوحة لجميع السلطات المنتخبة ولقيادات المنظمات الشعبية حتى ولو اضطر الامر لتعجيل مواعيد الانتخابات لما سيكون لها من آثار ايجابية بالغة الاهمية. ان الاستعداد يجب ان يبدأ منذ الآن لضمان ان تكون الانتخابات المقبلة مختلفة نوعياً عما خبرناه حتى الآن من انتخابات. ولكي تكون كذلك من الضروري البدء باصلاح قانون الانتخابات الصادر عام 1974 والمعدل عام 1984، والذي بسبب من هذا التعديل اصبح من المستحيل بموجبه ضمان حد ادنى من النزاهة في العملية الانتخابية. فحسب القانون تجرى الانتخابات على مدى يومين بينهما ليل مظلم طويل، وهي حال فريدة من نوعها في العالم ولا حاجة لاكثر من نهار واحد اطلاقاً. وبموجب التعديل ألغيت قوائم الناخبين، فيمكن للمواطنين ان ينتخبوا اينما شاؤوا من دون شطب اسمائهم في القوائم. وبموجب التعديل تعتبر نتائج الانتخاب صحيحة اذا كان الفارق بين عدد الاوراق داخل الصندوق وبين عدد من ادلوا بأصواتهم في الصندوق لا يزيد او ينقص بأكثر من 5 في المئة، أي 50 صوتاً في كل صندوق فقط لا غير! واما الاشراف على المراكز الانتخابية فيجب ان يكون للسلطة القضائية وللجنة انتخابية مستقلة بعد ضمان استقلالية القضاء ونزاهته وليس لوزارة الداخلية. واضافة الى ذلك، يجب ان يكون عدد الصناديق الانتخابية محدداً مسبقاً، وكذلك المراكز الانتخابية، ولا تترك اي فرصة ل"اضافة" صناديق جديدة او تغيير المراكز الانتخابية يوم الانتخاب. ويجب ان تكون هناك محكمة دستورية كاملة النصاب مؤهلة للنظر السريع في الطعون الانتخابية وتعتبر قراراتها قطعية ولا تخضع لتصديق مجلس الشعب نفسه، المطعون في شرعية هذا العضو او ذاك من اعضائه، كما ينص القانون الحالي! ويجب ان يحدد القانون حجم الانفاق الدعائي لكل مرشح، وان يلغي تسابق وكلاء المرشحين عند المراكز الانتخابية يوم الانتخاب مما يخالف نص القانون بوقف الدعاية الانتخابية قبل 24 ساعة من موعد الانتخابات، إضافة الى المظهر اللاحضاري من الابتزاز والابتذال الذي تتخذه هذه الظاهرة. وبالتالي ليقتصر دور الوكلاء على حضور ومتابعة اجراءات التصويت وفرز الاصوات فقط، وتسجيل الملاحظات او التدخل لمنع الانحرافات وفق ما يعنيه القانون من اجراءات. ولقد آن الاوان لاعادة تقويم تجربة تخصيص نصف مقاعد مجلس الشعب "للعمال والفلاحين" والتي لم تؤد عملياً الا الى السكوت عن استباحة المصالح الحقيقية للعمال والفلاحين وايصال من لا علاقة له بهم الى مقاعد السلطة التشريعية، بحيث يمكن القول ان مصالح العمال والفلاحين يمكن ان تتحقق على أيدي منتخبين بصورة حرة على اساس برامج ومبادئ واضحة اكثر بكثير مما تتحقق وفق الصيغة الحالية. هذه هي بعض الاصلاحات الضرورية وربما ليست كاملة، لقانون الانتخابات. فهناك من القضايا الجدية جداً، ايضاً، اختيار النظام الافضل للانتخابات التشريعية والمحلية، والذي يقوم الآن على اعتبار المحافظة بكاملها دائرة انتخابية واحدة، وهو مما يضعف الصلة الوثيقة بين المرشح والناخب وتمثيل النائب لمطالب الناخبين. وقد يكون نظام الانتخابات المختلط على اساس القوائم النسبية على مستوى البلاد الى جانب الدوائر الصغيرة الفردية اقدر على تحقيق التمثيل الافضل لارادة الشعب لما يوفره من تمثيل سياسي ومطلبي للشعب. الا ان المسألة الاكثر حاجة لاعادة النظر في النظام الانتخابي هو التقسيم المسبق لمقاعد مجلس الشعب بين الحزب الحاكم واحزاب الجبهة التي يرأسها من جهة، وبين "المستقلين" من جهة اخرى، وذلك بما يضمن مسبقاً الغالبية الساحقة للحزب الحاكم والجبهة في مجلس الشعب، وهذا على رغم عدم السماح حتى الآن بأية احزاب مستقلة، وبالاحرى معارضة، وكذلك بأية تنظيمات فاعلة للمجتمع المدني. وللتذكير فقط، فقد استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي في اواسط الخمسينات ان يقود مجلس النواب المؤلف من 150 نائباً آنذاك ويفوز برئاسته ديموقراطياً بكتلة من 16 نائباً فقط، مما يؤكد على ان الاصرار المسبق على غالبية كبيرة ليس مبرراً بأي شكل من الاشكال، وبالاخص وان هذه الغالبية تتحول الى غالبية صامتة تعطل وظائف وفاعليات السلطة التشريعية كما هو جارٍ حالياً. ان التعددية الحقيقية الحية هي التي تعيد الى ممثلي الحزب الحاكم الحيوية والفعالية المفقودتين بسبب الغالبية المريحة، المضمونة سلفاً وشبه المعينة سلفاً، وعندها لن يكون بحاجة الى المادة الدستورية التي تمنحه صفة "قائد الدولة والمجتمع"، فالقيادة التي تكتسب بالجدارة والارادة الشعبية الحرة هي القيادة الشرعية وليست تلك التي يكرسها النص الدستوري. هكذا تبدأ عملية الاحياء من القلب، السلطة التشريعية، لتنتشر دماؤها في سائر انحاء الجسد. فالسلطة التشريعية الفاعلة هي الضمانة لتكون جميع السلطات الاخرى كفؤة وفاعلة الامر الذي لا يمكن ان يكون معكوساً كما هو عليه الامر الآن. والنتائج بالغة الوضوح، فلا السلطة التشريعية تقوم بوظيفة التشريع في الشكل المطلوب او بوظيفة متابعة عمل السلطة التنفيذية، ولا السلطة التنفيذية مضطرة لتقديم برامجها وحساباتها للسلطة التشريعية لتناقش في الشكل الجدي المفترض، ومناقشات واقرار الموازنات العامة السنوية اكبر دليل على ذلك. فلم يحدث خلال ثلاثين عاماً ان تغير اي رقم في الموازنة الحكومية المقدمة الى مجلس الشعب، فهذه "عادة سيئة" يجب ان لا يتعودها مجلس الشعب لأن ارادة السلطة التنفيذية هي العليا! ان تطور جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية رهن بتطور الشكل السياسي وتحديثه. وان الاصرار الرسمي على ان "الجبهة الوطنية" التي تتألف من الحزب الحاكم في شكل اساسي وعدد من الاحزاب الاخرى كافية لتمثيل كل القوى الشعبية بما ينفي الحاجة الى أية احزاب او تنظيمات اخرى، سيعوق عملية الاحياء المرجوة ليستمر الركود. فأحزاب الجبهة هي الاحوج الى الانتقال الى العمل المستقل عن السلطة في ساحة مفتوحة والى المنافسة، وخصوصاً وقد منحت الآن حرية اصدار وتوزيع صحفها الحزبية الخاصة وافتتاح مقرات لها في جميع المحافظات، ويفترض ان يحميها تكتلها في "جبهة" من اخطار المنافسة، وخصوصاً مع عدم وجود احزاب اخرى خارج السلطة معترف بها حتى الآن. من هنا نؤكد اهمية ان يعاد الى الحياة قانون المطبوعات والذي اوقفت قوانين الطوارئ العمل به منذ 1963، وذلك إضافة الى قانون للاحزاب، وآخر للمنظمات الاهلية وان يفتح باب الترخيص القانوني امام الاحزاب والمنظمات الاهلية الجديدة. وللحقيقة، فإن الشعب السوري يمتلك تراثه الخاص وقواه الجديدة القادرة على الارتقاء الى المستوى الحضاري الديموقراطي الحديث. * كاتب سوري.