هل كان مصادفة ان يبدأ اهتمام الأدباء والفنانين الروس، عند بدايات القرن الثامن عشر، بالحس الشعبي التراثي وادخاله أعمالهم، في وقت كان "التغريب" قد وصل الى ذروته، وتحديداً على يد اثنين من المبدعين كانا من ابناء الطبقات المرفهة ومن الذين تربوا على الفنون الغربية تحديداً؟ ولنوضح أكثر: عند بدايات ذلك القرن، كان في "عموم روسيا" ثمة نزوع الى الاهتمام بالآداب الفرنسية خصوصاً، والأوروبية عموماً، وكان ينظر باحتقار الى أية محاولة تهدف الى اعطاء الفنون الشعبية، من موسيقية وأدبية وغيرها، مكانها في المجتمع. تلك الفنون كانت للعامة. أما الفنون والآداب السائدة لدى المثقفين ولدى الطبقات التي أصابت نصيباً من الثراء والمكانة والتعليم، فهي عصرية وتقدم حتى بلغات أجنبية، على رأسها الفرنسية. وحتى ابناء تلك الطبقات كانوا يتكلمون في ما بينهم بالفرنسية. ومن هنا لم يكن غريباً، حين بدأ الكسندر بوشكين شاعر روسيا العظيم، تعاطفه مع الثوريين الديسمبريين، يهتم أول ما يهتم بالالتفات الى الملاحم الشعبية الروسية مستلهماً اياها بعض أجمل اعماله وأكثرها قوة. وفي هذا السياق تأتي قصيدة "رسلان ولودميلا" الملحمية التي كتبها بوشكين بين العامين 1817و1820، لكنه لم ينشرها إلا في العام 1822، اذ كان قبل ذلك في المنفى بسبب آرائه السياسية. وكذلك، لم يكن غريباً على ميخائيل غلينكا الموسيقي الشاب، المتحدر بدوره مثل بوشكين من اسرة بورجوازية ثرية، وصديق بوشكين وغوغول، ان يلتفت بعد ذلك بسنوات الى تلك القصيدة الملحمية نفسها، ويحولها الى واحدة من أولى الأوبرات الشعبية في تاريخ الموسيقى الروسية الكبير. ومن هنا، في ذلك التمازج الخلاق بين نص بوشكين وموسيقى غلينكا، كان حجر الاساس في تلك الموسيقى الروسية، ذات الطابع الشعبي، والتي راحت تنهل من التراث ومن الحس الجماهيري العام. ولئن كانت أوبرا "رسلان ولودميلا" قد قدمت للمرة الأولى في العام 1842، بعد ربع قرن من كتابة بوشكين القصيدة، فإن هذا العمل لا يزال حياً حتى اليوم، يسمع ويقدم ويحول الى افلام وأعمال متلفزة. وهي، في اختصار، أحدالأعمال الأكثر حيوية في الفن الروسي. ومع هذا علينا ألا ننسى هنا ان تقديم "رسلان ولودميلا" للمرة الأولى، في سانت بطرسبرغ، قوبل باستنكار شديد، وأعلن النقاد والمهتمون انها لا ترقى الى المستوى الذي كان ميخائيل غلينكا قد بلغه في عمله الأول "حياة من أجل القيصر". صحيح ان ذلك الموقف لم يبعد غلينكا من اهتمامه الدائم بالموسيقى الشعبية، لكنه أحبطه تماماً حيث انه زهد لاحقاً في انتاج المزيد من الأعمال الضخمة المشابهة. استقى ألكسندر بوشكين أجواء قصيدته الملحمية من تلك الملاحم الشعبية الروسية التي يطلق عليها اسم "بيلين"، لكن موضوعها يبدو، بحسب الكثير من الدارسين، مستقى الى حد ما من رواية "اورلاند فوريوزو" للايطالي اريوستو. ناهيك بأن كثيرين سوف يرون في نهاية بوشكين نفسه بعد كتابة "رسلان ولودميلا" بسنوات، في مبارزة خاضها مع نبيل فرنسي اراد مغازلة زوجته الحسناء، نوعاً من التماشي مع موضوع "رسلان ولودميلا" نفسه. تتحدث القصيدة والأوبرا بالتالي عن الأمير رسلان الذي تختطف عروسه الحسناء لودميلا، ليلة عرسهما. والخاطف هو الساحر الأحدب الذي يفتتن بالفتاة ويريد الاستيلاء على قلبها، لكنه لا ينجح في ذلك، على رغم اختطافه لها. أما رسلان فإن اختطاف حسنائه يثير حزنه وغضبه، لذلك يسارع الى الاستعانة بساحر آخر ويصل معه الى جبال الشمال، حيث يقيم الساحر الشرير خاطف لودميلا. وتدور معارك عنيفة بين رسلان والساحر لثلاثة أيام متعبة. وفي النهاية ينتصر رسلان وحبه على الساحر وشره ويتمكن الأمير الشاب من انقاذ عروسه واستعادتها. غير ان المعارك التي يخوضها رسلان ليست معارك عادية أو ليست مبارزة مع شخص شرير وحسب، بل هي صراع عنيف يخوضه الأمير ضد القوى الشريرية، والأرواح الفالتة من عقالها، والحيوانات الغريبة، وشتى أنواع السحرة والكائنات الخرافية. والحقيقة ان تلك المعارك هي التي تعطي العمل غرابته وتتيح للموسيقى والأجواء الغنائية أن تبدو انعكاساً خلاقاً للمأثور الشعبي الروسي، ذي الطابع الشرقي والأجواء الغرائبية. عبر الموسيقى التي وضعها ميخائيل غلينكا لهذا العمل التأسيسي، تمكن الموسيقي من ان يضع نفسه وعمله في مقدم مجموعة "الموسيقيين الخمسة"، تلك المجموعة التي كانت أخذت على عاتقها باكراً ان تعيد الى الموسيقى الروسية اجواءها الشعبية بإدخال المأثور الموسيقي والغنائي في الأعمال المبتدعة. وحتى الآن تظل أوبرا "رسلان ولودميلا" العمل الأبرز في ذلك التيار الذي سيكون له لاحقاً تأثير قوي في بناء نوع من الحس الثوري الشعبي في الفن، بالتواكب، مع نزوع سياسي شعبوي ساد خلال منتصف القرن الثامن عشر... وسيكون من اعلام ذلك التيار، اضافة الى غلينكا، كل من بورودين وموسورغسكي. ولد ميخائيل غلينكا العام 1804، وهو اعتبر على الدوام أول موسيقي روسي عرف كيف يعثر على إلهامه في موسيقى الشعب، بالتعارض - كما أشرنا - مع تلك النزعة الاستعلائية التي كانت سائدة لدى الارستقراطية ومثقفيها من الذين كانوا ينظرون الى لغة الشعب وفنونه على انها "همجية" مفضلين عليها الفرنسية، كلغة ذات فنون متحضرة. واللافت ان غلينكا ابن العائلة الثرية والمثقفة، بدورها، على النمط الغربي، آثر باكراً ان يكسب عيشه بنفسه منصرفاً الى دراسة الموسيقى في سانت بطرسبرغ. وهو ما إن أحس ان تعليمه الموسيقي قد اكتمل، حتى قام برحلة أوروبية، اذ ترك وظيفته في وزارة الاتصالات، وجال على الكثير من البلدان التي كانت تغص بالنشاط الموسيقي، وعاش فترات متقطعة في فيينا وبرلين ونابولي. وهناك بالتحديد زاد اهتمامه بالموسيقى الشعبية الروسية، وبدأت الرغبة في التعبير بواسطتها تسيطر عليه. وهو ما ان عاد الى روسيا في العام 1834 إثر موت والده، حتى راح يجمع القطع الموسيقية والغنائية الروسية، انما من دون ان يتخلى عن التأثيرات الايطالية فيه. أما أوبراه الأولى فقد كتبها وملأها بالموسيقى الشعبية المحلية مباشرة تحت تأثير صديقيه بوشكين وغوغول. و"رسلان ولودميلا" كانت عمله الثاني. ويوم قدمت وفشلت قال كثيرون ان فشلها كان بسبب تقدمها على زمنها. ولقد أحزن الفشل غلينكا وجعله يبارح روسيا من جديد في جولة أوروبية قادته هذه المرة الى اسبانيا. ومنها انتقل الى برلين، وهناك توفي في العام 1557، بعد اصابته بمرض قضى عليه.