طغى حضور الشعر على مشهد الأحداث الثقافية والإبداعية في المغرب المدة الأخيرة. فقد مثّل الاحتفال بمناسبتين شعريتين حدث شهر آذار مارس في أولهما استضافت مدينة طنجة الشاعر العربي أدونيس في أمسية لم تتح لجمهور المغرب منذ سنوات عدة، ومعه استقبلت ذاكرة شعرية وفنية تمثلت في معرض الصور والطبعات النافذة من كتاباته الشعرية والنقدية التي أصدرها وجسدت مساره الحياتي والشعري اللافت، انسانياً وشعرياً، باعتبار المكانة التاريخية التي يحتلها" ودوره الريادي الأساس في اطلاق الشعر العربي الى أفقه الحداثي ونحو اختياراته المعرفية والنظرية والجمالية الحاسمة، وفي ثانيهما الاحتفال الواسع باليوم العالمي للشعر بمبادرة واشراف من "بيت الشعر" يرأسه الشاعر محمد بنيس في عدد من مؤسسات التعليم والثقافة في كبريات مدن المغرب كالدار البيضاء، الرباط، طنجة، مكناس، فاس، مراكش... فقد حضر أدونيس الى المغرب واصطحب معه المعرض الفني والتصويري الذي كان عُرِضَ في معهد العالم العربي في باريس في تظاهرة التكريم التي خصص بها هناك من قبل تحت عنوان "شاعر من زماننا". وعلى رغم ان اقامة أدونيس كانت قصيرة في طنجة، فقد مثلت حدثاً اعلامياً وشعرياً بالنظر الى النقاشات التي عرفتها أمسيته والكتابات التي تابعت زيارته وحضوره الرمزي في الشعر المغربي" عاملاً على فتح الآفاق أمام هذا الشعر وأسمائه" ومؤثراً في كتاباته وطرائقه الفنية؟ من المؤكد ان مكانة وتأثير أدونيس في المغرب الشعري - كما في كل المشهد العربي - لم يأتيا من فراغ. على ذلك يشهد المعرض الذي لا ينقل لنا أهم المراحل الحياتية والمجتمعية للشاعر صور الوالدين وعلاقته بخالدة سعيد وببناته... وحسب" بل - وفي شكل ذكي في اختياراته للنماذج - ولأهم المفاصل والمنعطفات التي عرفها المسار الشعري العربي من خلال تجربة أدونيس، في علاقاته وصداقاته الشعرية والشخصية: عربياً وعالمياً. بدءاً من مجموعة الشعراء الذين تحلقوا حول مجلة شعر" ومروراً بصداقات ولقاءات مع بعض الرواد كصلاح عبدالصبور ويوسف الخال ونزار قباني عربياً. والقمم كيفتشينكو وبونفوا وميشونيك وغيرهم عالمياً مما أمد الشاعر ولا ريب بقدرة الوفاء لجمرة الشعر ولحذق الاشتغال فيه. وفي ذلك جاءت القصيدة "تقويم للفلك 2001" نشرها ملحق آفاق يوم 10/1/2001 التي قرأها أدونيس وترجمها ألان جوفروا للجمهور الفرنسي الحاضر في الأمسية نصاً شعرياً في الكتابة الباحثة عن معنى ان تكون شعراً على عتبة الانتقال الألفي الجديد، حيث فُقِد المعنى وضاع جوهر الزمن بالحدث العابر وبعجز الإنسان عن ان يكون سيد لغته وشعره" بل ولجسده الذي فقد حضوره وفاعليته في الوجود... ومن هنا يوحي الشاعر لممارسته بأن تكون اختباراً معرفياً وجسدياً للزمن وللعلاقات، ضوءاً يتعرف الى الأشكال ويخترق مجرات المعرفة ليقول عناصرها وآياتها المحتملة شعرياً للإنسان: يقول جسده المهدد بكل الثقافات المغلقة واللغات المسكونة بأشباح ماضيها، المستكينة في حاضرها، المتصدية لكل انقلاب شعري درءاً لكل اقتراب من المستقبل قد يأتي به الشعر تقولها للقصيدة في مسرحة واضحة للعالم - وحيث القصيدة ذاتها بؤره هذه المسرحية الرؤية: "في الشعر الحب/ ضوء آخر لكي نجعل من العقل/ حاسة للمس المجهول، لكي نحوله من قفص الى طائر/، لكي نجري في القلب ماءه/ ونجري فيه خمرة القلب...". ولذلك إذا كانت هذه القصيدة قد جسدت تحدياً شعرياً بالنسبة الى القارئ من حيث قدرته على تمثل رؤيتها واستيعابها ضمن الطرائق التي يحاولها أدونيس والشعر الحديث بحثاً عن الأفق الممكن للتجربة... فإنها طرحت على المستمع في أمسية طنجة تحدياً مضاعفاً من حيث قدرته على متابعة حركيتها وانفتاحها على تعدد الإشارات والرموز، وان لم يغب عنه جوهر خطابها الذي يرى الشعر تجسيداً لسر الوجود والقصيدة ذاتها، وغاية لهما في آن... وقد انعكس هذا الانطباع في ما دار في القاعة بعد القراءة من نقاش تقاطعت فيه التصورات المسبقة وأحكام القيمة التي يحملها الناس تجاه أدونيس كابتعاده عن القضايا القومية والمواجهة... مع آراء تسعى الى ان تكون اقرب الى المنظور الشعري الحديث، ترجمتها في كلمات ساءلت الشاعر في تجربته وتصوره لمفهوم الممارسة التي لا تركن لقيم الثبات... ومن هنا يلاحظ "أدونيس" أن "التجربة الإنسانية تغيرت ولم يعد الشاعر يتناول القضية معزولة: فالشعراء المعاصرون سواء تبنوا القضية أو لم يتبنوها، فإنهم يتعاطفون معها كقضية انسانية، حاضرة في تأملاتهم وفي أشعارهم. لم يعد ضرورياً كما يفعل الشعراء القدامى النظر الى القضايا منفصلة. فحين أتكلم على زهرة يمكن ان اتكلم على فلسطين. ان الفن لا يسمي الأشياء بأسمائها، فهذا موقف سياسي وليس موقفاً فنياً. فهل الشاعر الذي لا يكتب عن البطولة والوطن ليس وطنياً؟ الشاعر يخلق رؤية عن الحب وعن العلاقة مع الآخر، وقد يكون أكثر وطنية من الشاعر الذي لا يتحدث إلا عن البطولات. ولذلك فإن كل القصائد التي كتبت عن الشهيد محمد الدرة كانت دون مستوى الحدث. هذا الحدث شعرياً هو رمز، ولا يجب النظر اليه من الجانب الشخصي، لأن في الاتجاه الشعري الحديث تغيرت المقاربة والطريقة. ومن هنا حدد أدونيس تجربته في طموحه الى جعل القصيدة بؤرة للعالم، الى نقل الشعر العربي من "التعبير عن الانفعال أو فكرة معينة الى ان تتجسد كالشجرة الممدودة الأغصان في كل الاتجاهات، منها تدخل القصيدة الى كل أشكال المعرفة الفلسفية والعلمية، الفيزيقية والميتافيزيقية... تصبح متاهة. وفي العمق لا يمكن ان يلتقي الإنسان بنفسه ويلتقي بالآخر ويشعر بوجوده إلا بنوع من هذا الضياع الذي يعيشه كل منا في لحظة التجربة الكبرى. وكل انسان لا يعيش هذه التجربة يحتاج الى اعادة النظر في حياته. ولذلك فإن تحدياً ما يطرح على القصيدة اليوم أمام التطور التكنولوجي هو تحدي المعرفة: فلكي تكتب عن شيء يجب ان تعرفه، وإلا فقدت الكتابة معناها". وعن توفُق أدونيس نقدياً وفشله شعرياً قال: "لا يحزنني سوى انني لست ناقداًَ. فما كتبته ليس نقداً بسبب لا منهجيته. اللامنهج طريقي في الكتابة... أما في الشعر فأنا ما زلت فاشلاً، وأحس بأنني انتهيت عندما أنجح في الشعر". ولا يمكن العبور بالأحداث من دون التعرض لتلك التي تعود ان يصنعها بيت الشعر في المغرب منذ انشائه واعلانة الاحتفال بيوم الشعر، والذي أخذ في السنة الماضية بعده الدولي بإقراره يوماً عالمياً من منظمة اليونيسكو وعرضت لمناسبته كلمة في ضرورة الشعر للحياة المعاصرة والحاجة الى ادماج تعليمه في المقررات التربوية والتعليمية... وفي هذا السياق نظم بيت الشعر في المغرب بدعم من وزارة الثقافة والتعليم وبمشاركة بعض الجمعيات المحلية في أهم المدن المغربية وفي بعض المراكز الحضرية الصغرى أنشطة كثيرة التقى فيها الشعر بالتشكيل وبالمسرح والموسيقى... ولم تنحصر الاحتفالية بالشعر المعاصر ولا بالشعراء الأحياء فقط، بل واستعادت بعض أنشطتها أصوات الشعراء المغاربة الذين رحلوا... وأخرى لشعراء عرب كالمبادرة التي أقدم عليها ديوان الأدب في مراكش بتقديم واخراج نصوص ومختارات من شعر الفلسطيني عز الدين المناصرة... أو بعض المختارات من الشعر الصوفي ومن شعر الملحون المغربي بالدارجة وهو غير الزجل. وكان الإعلان عن احتفالية هذه السنة تميز بكلمة كأنها محاولة لإعادة بناء صورة محمد الصباغ باعتباره شاعراً مغربياً له اضافته للمتن الشعري الحديث، وكان نشر أولى مجموعاته مترجمة الى الاسبانية قبل صدورها بالعربية... وقد نلمس في كلمته بالمناسبة وهي بعنوان "الشاعر" ما راهن بيت الشعر على إظهاره في تجربة محمد الصباغ الغنية أولاً" والاحتفاء باللغة وبحذق العمل والانصات الشعري.