منير شفيق. الديموقراطية والعلمانية في التجربة الغربية رؤية اسلامية. المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن. 2001. 144 صفحة. الكتاب الذي بين أيدينا فريد في مضمونه، لا سيما اذا اخذناه ضمن ظروف الزمان والمكان الذي يتحرك كاتبه خلالهما. فهو يجدف عكس تيار جارف انساق معه اكثر المفكرين، حتى اولئك الذين وقفوا زمناً طويلاً في الخندق الآخر، اضافة الى جحافل من الذين يتحركون على ذات الارضية التي يقف عليها المفكر الارضية الاسلامية، ممن اخذوا ينبهرون بالتجربة الديموقراطية الغربية ويعتبرونها الملاذ الآمن من حمى الديكتاتورية التي تلقي بظلالها على العالم العربي والاسلامي، وان ارتدى بعضها شيئاً من الاثواب الخارجية للتجربة الديموقراطية الغربية. من هنا تبدو اهمية الكتاب والافكار التي يطرحها في مواجهة موجة عاتية من التبشير بالديموقراطية والعلمانية على النسق الغربي، او الاميركي لكون اميركا قائدة الركب الغربي. ولأن الكثيرين سينظرون الى الكتاب بوصفه تبريراً للديكتاتورية، كونه يعمل على تعرية التجربة الغربية في الديموقراطية والعلمانية من اثوابها الزاهية، لا يفتأ الكاتب بين فصل وآخر يذكر بأنه لا يقصد ذلك البتة، بقدر ما يسعى الى التأصيل لتجربة تأخذ من الديموقراطية جوهرها، وتكون اكثر انسجاماً مع الواقع الاجتماعي والثقافي للامة العربية والاسلامية، كي لا تكون آلية نقل التجربة مدخلاً لتكريس الديكتاتورية اضافة الى تجريد المجتمع العربي والاسلامي من خصوصياته. وبذلك نكون قد ربحنا الديكتاتورية وخسرنا ما هو ايجابي في بنيتنا الثقافية والاجتماعية في الآن نفسه. يعتقد منير شفيق ان تقديم التجربة الديموقراطية الغربية باعتبارها احتراما لحقوق الانسان، وسيادة القانون والاحتكام لصناديق الاقتراع والفصل بين السلطات والمجلس النيابية والتشريعية والتداول على السلطة والقبول بالآخر والتعددية الثقافية والسياسية، انما هو تعامل مع السطح فقط من تلك التجربة وقراءة لها من خلال النصوص لا من خلال حركتها في تعاملها الداخلي مع الآخر الاضعف، مثل السود والاقليات، او مثل الهنود الحمر في التجربة الاميركية. فنقل التجربة دون ادراك خصوصيتها التاريخية وظروف نشأتها ومسار تطورها ومعوقات تطبيقها في الواقع العربي والاسلامي الخاضع لاشكالية التجزئة وامكانات التدخل الخارجي لن يفضي الا الى تكريس الديكتاتوية، تلك التي شجعها اصحاب الديموقراطية الغربية انفسهم عندما سيطروا على اغلب اجزاء العالم العربي بالقوة العسكرية وكرسوا فيه انظمة ديكتاتورية بدل ان ينشروا القيم التي يزعمون الايمان بها، وينادون بضرورة نقلها الى العالم اجمع. ان تكريس الديكتاتورية عند الآخرين لا سيما الذين يراد السيطرة عليهم، جزء من نظام الاستعمار والامبريالية، لأن المطلوب اخضاع هؤلاء. والنظام الديموقراطي قد يفضي الى التمرد ورفض التبعية، وهو سيفعل ذلك حقاً، لا سيما في عصر "العولمة" التي يرفضها حتى الكبار لشعورهم بخطرها عليهم، فما بالك بالصغار الذين ستلتهم مقدراتهم لحساب الاقوى ممثلاً في الولاياتالمتحدة. يبدأ الكاتب بعدها بطرح اسئلة نظرية وواقعية حول الديموقراطية في الغرب مثل: هل الديموقراطية نابعة من فلسفة بعينها ام انها محصلة صراعات سياسية واقتصادية واجتماعية اقتضتها حاجات الرأسمالية الصاعدة، وهل هي مجرد آلية ام محصلة لعملية تاريخية كانت لها ظروف نشأة وتاريخ وتطور، وهل هي من طراز واحد ام لها الوان متعددة حسب خصوصية كل بلد من بلدانها، وهل للعلمانية فلسفة واحدة، ام لها مراجع متعددة حسب الجهة التي تتعامل معها وخلفيتها السياسية والدينية والمذهبية؟ واقعياً، ما علاقة الديموقراطية بالامبريالية وسياسة النهب الاستعماري التي وفرت لدول الغرب امكانات هائلة تتيح لها منح شعوبها امتيازات كبيرة لا تتوفر لسواها، ووفرت لها فرصة عقد مساومات تاريخية توزع الغنائم على طبقاتها وصولاً الى دولة الرفاه. وهل اللعبة الديموقراطية حيادية ام ان ثمة قوى تمسك بها من وراء ستار مثل الجيش والاجهزة الامنية، ولا تسمح لها بتجاوز الحدود، ولا تفضي الى وصول متمردين عليها من خارج دائرتها، وكيف يتم اختيار القادة في الغرب وما هي المصافي التي يمرّون من خلالها قبل الوصول الى المراكز العليا، وهل نظام الحزبين خيار حقيقي ام انه اختيار بين متشابهين، او سيء واقل سوء، ولماذا يعزف الناس عن المشاركة في الانتخابات، وهل تتم لعبة الانتخابات باساليب مستقيمة، ام ان مراكز القوى والاعلام والمال هي التي تتحكم بها، ومن هم الذين يمكنهم الوصول الى مراكز القوى تلك؟ اميركيا، الا تتحكم الموارد المالية ووسائل الاعلام بالحملات الانتخابية، وتحديد من يمكنهم الوصول الى مراكز صنع القرار، حتى لو تجاوزوا الجوانب الاخلاقية كما حصل في قصة كلينتون وفضيحة مونيكا، وكما هو شأن النفوذ اليهودي الذي تجاوز باضعاف مضاعفة حدود الامكانات الديموقراطية لليهود؟ اين هي امكانات التمرد على الوضع هناك، الا يعاقب الخارجون عن حدود اللعبة بالحصار والملاحقة في لقمة العيش والحرمان من النشر والتواصل الحقيقي مع الجماهير وصولاً الى التجريم العلمي لهم، كما هو شأن التعامل مع منتقدي الصهيونية السياسية؟ وماذا عن العلمانية في الغرب؟ هل تعني بالفعل فصل الدين عن الدولة، ام ان العلاقة بين الدولة والدين شيء والعلاقة بين الدين والمجتمع شيء آخر؟ الم تفض المساومات التاريخية بين الدولة والكنيسة الى نموذج آخر تمتنع فيه الكنيسة عن التدخل في الدولة او التحول الى حزب سياسي، مع المحافظة على حقها في دعم هذا الحزب او ذاك، اضافة الى حرية الحركة في المجتمع تبشيراً وتعليماً من خلال مؤسسات تعليمية واجتماعية واقتصادية واعلامية، اضافة الى حق الاحزاب في ان تسمي نفسها مسيحية، فيما تقبل الكنيسة بحق الافراد في الاعتقاد الحر؟ لا يمكن، حسب الكاتب، وسم الدولة الغربية الراهنة بأنها لا دينية، والحضارة الغربية بأنها علمانية لا دينية، فهي عموماً حضارة مسيحية غربية ممتزجة بخليط معقد ومركب من اليهودية والوثنية الرومانية واليونانية واللادينية الليبرالية والاشتراكية والشيوعية. ماذا عن التجربة الديموقراطية والعلمانية وتطبيقها في بلادنا؟ ان اية محاولة لتطبيق الديموقراطية في بلادنا ستصطدم باشكالين، الاول اشكال السيطرة العالمية ودورها سلباً في الشؤون الداخلية لبلادنا ماذا لو حملت الديموقراطية في مصر مثلاً من يريدون الغاء المعاهدة مع الدولة العبرية؟. اما الاشكال الثاني فهو دولة التجزئة التي تحمل في طبيعتها بذرة الاستبداد بصرف النظر عن القوة السياسية او العقائدية التي تمسك بالسلطة. ان المطلوب، حسب الكاتب، هو الثقة بالشعب واحترام ارادته، وهو شعب يصعب التلاعب بخياراته كما هي الحال في الغرب، نظراً الى المرجعية التي يتحلى بها ونظرته الى قيم العدل والشجاعة وسواها من الخصال الحميدة. ولذلك فقبول مختلف الاطراف بمن فيها الاسلامية بخيارات الشعب هو المدخل للديموقراطية. ذلك ان ترك السلطة من قبل اصحابها حتى لو كانوا اسلاميين هو افضل من القمع المفضي الى التفكك الداخلي والعزلة الخارجية والحصار الذي هو نقيض تقوية شوكة المسلمين واقامة العدل. اضافة الى ذلك، لا بد من بناء اجماع وطني حقيقي لا يكون غطاء للديكتاتورية وانما سلماً للوصول الى معادلة جادة بكل ما تتضمنه من تنازلات ومساومات صعبة على كل طرف. ويلخص الكاتب موقفه بشكل اوضح بالقول: "اذا كان هنالك من امل لانتصار تعددية حقيقية او انتخابات حقيقية وتداول على السلطة فعلي، او لحريات صحفية وسياسية واسعة، او لاحترام لحقوق الانسان، فسيأتي عبر الصراع ضد العولمة والتسوية والتطبيع والفساد، أي ليس هنالك ديموقراطية في بلادنا، او هي غير ممكنة بلا استقلال وعزة وارساء علاقات عربية متضامنة فعلاً، بما في ذلك، سوق عربية مشتركة، ومقاومة للصهينة والتطبيع، او بلا عقد اجتماعي جديد فيما بين كل القوى الحية لتنظيم "لعبة" التعددية والانتخابات والتداول مع السلطة واحترام حرية العقيدة والرأي وحقوق الانسان، ومن خلال اجماع تقبل به الاغلبية الساحقة ولا يتعارض مع ثوابتها ومصالحها وامانيها". اما العلمانية التي يقدمها لنا سادتها في العالم العربي فهي ابعد ما تكون عن علمانية الغرب. ذلك انها لا تقدم لنا دولة تعددية ديموقراطية ذات استقلال وسيادة، بل ديكتاتورية هجينة تجزيئية تابعة. وبدلاً من استنادها الى مجتمع مدني قوي، فهي تشن الحرب على المجتمع ومرجعيته الاسلامية ومسجده واوقافه، ولكي تربح تلك الحرب، فلا بد لها من اللجوء الى سلطة القمع في مواجهة المجتمع. ولتكون اسوأ بكثير من نموذج الملك العضوض في التاريخ الاسلامي الذي ابقى على مجتمع مدني قوي ممثلاً في العلماء والاوقاف. ويتساءل الكاتب، هل يمكن للعلمانيين في بلادنا ان يكونوا امناء لشعار فصل الدين عن الدولة؟ والاجابة هي لا، فما يريدونه حقاً هو تحكم الدولة في الدين ومؤسساته وليس الفصل بينهما، لأنهم لا يستطيعون المنافسة في المجتمع مع الدين اذا تركت لدعاته ومؤسساته حرية الحركة والاستقلالية عن الدولة كما يحدث مع الكنيسة في الغرب.