الرواية: خشخاش تأليف: سميحة خريس الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2001 تؤكد رواية "خشخاش" للكاتبة سميحة خريس على استحالة الوقوف على تعريف محدد للرواية، ولكنها في الوقت نفسه تحافظ على العناصر الأساسية للقص، وهي التي يحاول البعض في هذه الأيام تجاهلها، كالحكي والحبكة مثلاً... وهي عناصر قد تتلون أو تتبدل هيئاتها وأشكالها، وهذا ما يجعل من رواية ما حديثة وأخرى تقليدية! في هذه الرواية - كأي رواية - لعبة قائمة على الإيهام. وإذا كانت الرواية بعامة تقوم على شيء من البوح الذاتي، فإن "خشخاش" كلها رحلة بوح ذاتي مكشوف، على رغم كل ما تسلحت به المؤلفة من تقنيات للإيهام بعكس ذلك. وربما يكون ضمير السرد أحد أبرز هذه الأسلحة! توجد المؤلفة من نفسها شخصية اخرى، في عملية أشبه ما تكون بالهلوسة - على حد تعبيرها - ولعل عنوان الرواية - خشخاش - مرتبط بهذه الحال التي أوجدتها المؤلفة! ولكني لا أظن أن وجود هذه النبتة في المنزل كاف لخلق هذه الحال، إذ يتضح في سياق السرد ان هنالك محفزات اخرى من جهة، واستعدادات ذاتية من جهة أخرى. ولأن هنالك شخصية مفاجئة - شخصية الخشخاش - ولأن هذه الشخصية ستكون بطلة لرواية تكتبها الساردة، فإن المؤلفة تسارع لإيضاح التباس قائم بالضرورة... فالساردة تعني المؤلفة ذاتها، ولكنها تلجأ للقول إنها تحاول أن تكون كاتبة، وإنها تغار من بعض الكاتبات، كالروائية التي كتبت "شجرة الفهود"... أي كسميحة خريس نفسها!! وهكذا تصبح امامنا ثلاث شخصيات لامرأة واحدة - الروائية سميحة خريس صاحبة "شجرة الفهود" و"أوركسترا"، ثم الكاتبة المبتدئة، ثم الشخصية الوهمية الثالثة الطالعة من زهرة الخشخاش - وهذا يعني ان ثمة ارباكات محتملة في ضمائر السرد التي تعد واحداً من مفاتيح التقنية الروائية! في الحديث المقتضب عن الروائية المعروفة، تلجأ المؤلفة الى ضمير الغائب من دون اي صعوبة. وهكذا حاولت ان تحافظ على مسافة ما بين الروائية سميحة خريس في اعمالها السابقة، وبين الروائية سميحة خريس في رواية "خشخاش"! ويبدو لي ان هذه المسافة كانت ضرورية حقاً، ذلك ان هنالك اختلافاً واضحاً بين "شجرة الفهود" - الرواية التي كرّست سميحة كروائية - وبين "خشخاش" الرواية الجديدة المختلفة تماماً... لا أعني الموضوع وحده، بل كل ما يتعلق بالفن الروائي! ولكن مشكلة الضمير ظلت قائمة في ما يتعلق بالشخصيتين الأخريين... شخصية "الخشخاش" وشخصية الكاتبة المبتدئة. وإذا كانت المؤلفة لجأت الى حرف الطباعة للتفريق بين كلام الاثنتين، فإنني أظن ان التوفيق جانبها في هذه الحال، وبخاصة ان حرف الكتابة - وعلى رغم اهميته - لا يشكل عنصراً من عناصر التقنية الروائية! وعلى أي حال، فنحن امام رواية في رواية، وهو الأمر الذي لجأ إليه آخرون من قبل. ولعلنا نتذكر في هذا السياق الرواية الأخيرة لامبرتو ايكو "جزيرة اليوم السابق"، حيث يقوم الروائي بنقل يوميات بحار غريق الى القارئ مشفوعة ببعض تعليقاته وملاحظاته، قبل ان يصل البحار في يومياته الى مرحلة جديدة، تتمثل في كتابته لرواية، ويقوم الروائي بنقل هذه الرواية ايضاً عبر نص لا ينقصه التماسك والوضوح. ليس ثمة مقارنة هنا، بل إشارة الى أن الرواية في الرواية لا تعني حرفين مختلفين في الكتابة، وهو الأمر الذي وجدته فائضاً ولا مبرر له، حيث كان الاختلاف بين الشخصيتين في خشخاش كافياً جداً للتفريق بينهما في السرد. ونأتي الى السؤال الرئيس: لماذا الرواية؟ قلتُ من قبل إن الرواية - خشخاش - رحلة بوح ذاتي، ولكن البوح يحتاج الى المبررات وتقنيات السرد، وإلى ما يمكن البوح به. الكاتبة المبتدئة تعيش حالاً من الاضطراب والقلق والخوف، ولهذه الحال اسبابها... فهي تقدمت في العمر - الى حد ما -... "حاولت المرأة القبيحة استفزازي، كشفت كل ضربات السنين فوق وجهي، لتقول انه متورم ومتغضن، وأن عيني فقدتا بريقهما، أترى، كان لهما بريق ذات يوم؟". ثم "أتذكر أن جفنيّ كانا مشدودين وألمح ارتخاء طفيفاً، أعرف معناه، هو العمر يداعبني". ولعل حياتها واقعة في الرتابة والاعتياد وملفات الحياة اليومية... "أمرأة، عادية، هكذا، مثل ملايين النساء، تمضي الحياة حولي بوقع رتيب". ثم... "مجرد امرأة تربي الأطفال للحياة، ولا من يربي من أجلها زهرة... ها أنذا أرتجف بين أوعية الطبخ وحبر القلم وثرثرة الكلمات... كل ما مضى ثرثرة". ثم تأتي الى العلاقة الزوجية، وتكشف بهدوء طبيعة هذه العلاقة الذابلة والباهتة... فأثناء مراقبة المرأة والزوج لحوار تلفزيوني مع مؤلفة "شجرة الفهود"، وبينما تشعر سميحة الخشخاش بالغيرة من سميحة الفهود، نرى الزوج وقد ظل يقشر البرتقال! وفي الوقت الذي تشتبك فيه المؤلفة مع الفجر شعرياً، نرى الزوج "منقلب الى جنبه الآخر وقد تكور تحت اللحاف ولم يوقظه شفيف الفجر". ثم "زوجي يأخذ وضعاً مائلاً في طرف السرير، ويشخر". و"كان وجه شريكي منطفئاً تماماً، غائباً، نائماً كل ما فيه، أغمضتُ عينيّ بعصبية... ثم غفوت". و"إن لي زوجاً أحببته ودخلنا معاً نفق الاعتياد، أشاركه صحنه والمناوشات الخفيفة". هذه الحال تولد عند الكاتبة شعوراً بالأسر، إذ تشبه الحياة السالفة الذكر سجناً كبيراً يفتح في أعماقها براعم الرغبة في التحرر والانطلاق، ولكن رغبة كهذه ليست سهلة التحقق في ظل وجود الزوج والأطفال والعمر المتقدم. وهنا تلجأ المؤلفة الى تحرر وهمي من خلال شخصيتها الطالعة من زهرة الخشخاش، بعد ان تفزعها الصيغة الأولى في كتابتها "قررت الفرار". هكذا تنبثق الشخصية الخشخاشية من اعماق الكاتبة، وتنشأ بينهما علاقة معقدة ومتقلبة، هي في الأصل علاقة الكاتبة بماضيها وأحلامها وطموحاتها ورغباتها وأشواقها... وفي ظل هذه العلاقة تنشأ الرواية، ونقف أول ما نقف على ما يمكن تسميته بالرواية الأسرية التي يتبناها علماء التحليل النفسي، حيث يؤكدون على أن لكل منا روايته على هذه الأرض، وعلى أن الرواية بعامة تنبع من تلك الرواية الأولى!! هل كان الزوج معادلاً موضوعياً للأم؟... "في الطفولة كنت مرياع امي المفضلة تشنشلني بالأجراس كيما تتابع وهي نائمة تفاصيل حركاتي، مثل ذئب، تنام امي بعين مغلقة وأخرى مفتوحة، تحرسني". والمرياع، هو كبش يتعرض للخصاء، كي لا تشغله رغباته عن قيادة القطيع، ولكن الخصاء هنا متمثل في سجن الأم التي تقول لصغيرتها: "اقبعي في مكانك حتى يحضر السيد الموت. لا شيء في الخارج يستحق ان نخرج له، عديني". لكن الطفلة تكبر "عافية مفاجئة انضجت جسدي فتمطّى وتدور واتخذ هيئة الأنثى الكاملة، عندها أدركتُ انه صار من المستحيل ان أعود الى البيت. ولم أخش غضبة أمي أو موتها تحسراً". واللافت هنا هو ان للجسد علاقة مباشرة بالرغبة في التحرر... أعني في الحالين، الطفولة، والراهنة! لكن الفرق يكمن في صيغة التحرر، حيث تستطيع الشابة الصغيرة الانعتاق من قيد الأم موضوعياً، بينما لا تستطيع ذلك الآن إلا على الورق، بل نراها تُصر كثيراً على جنون امرأة الخشخاش، وهذا مجرد تقييم "عقلاني" زائف لسلوك المرأة الشابّة المتمردة، وهو السلوك الذي تعجز عن اجتراحه الآن. إذاً، فامرأة الخشخاش، هي تلك التي كانتها الكاتبة ذات يوم، واختفت في ظلمات البحر بذيل السمكة، كما اختفت الكاتبة بين طيات الحياة اليومية، ولكن... ما الذي يوقظ تلك المرأة المتمردة والحالمة؟ وعودة الى بداية الرواية، ثمة إشارة عابرة الى شاب، وهي إشارة قد لا تستوقفنا... بل هي حقاً كذلك، لكنها تعود إلينا أثناء البحث عن حافز الذاكرة عند الكاتبة... والشاب هو ذاته الذي حمل إليها زهرة الخشخاش وهي تستعد لقيادة سيارتها ومغادرة المكان... "نحيل شاحب بعيون قوية وشفاه دقيقة، وذقن تتوزع فيه الشعيرات بعشوائية". ثم تقول "لم أرغب في حمل زهرته تلك، ولكني حوصرت بعينيه الواسعتين مما جعلني احسم الأمر" ثم "كان رأسه في قعر سيارتي حين جاءني صوته مثل صدى آت من بعيد: ضعيها في الشمس، انها تحب الشمس". وما يعزز اجتهادنا في دور الشاب وطبيعته كمحفز لذاكرة الكاتبة المتبدئة، هو ذلك الفصل اللاحق، حيث تذهب الكاتبة الى محل بيع الأزهار والنباتات الذي ابتاعت منه زهرة الخشخاش. وعلى رغم ان الكاتبة لا تفصح عن اسباب عودتها الى ذلك المكان، إلا أننا نتلمس في أعماقها بعض مشاعر القلق والاضطراب. "أغالب بنجاح شعوراً بائساً يحاول الانتصار على ارتياحي، ويهمس لي أن ثمة فاجعة تنتظرني في الداخل، أسخر من هذا الشعور اللئيم، ماذا سيكون هناك؟ لن يكون "دراكولا في انتظاري"... كما انها تؤكد على أنها عادت من أجل شيء ما... "ما لي وللذوق الآن؟ عليّ أن أركز على ما جئت من أجله". وفجأة تقول "فتى هزيل ظهر امامي فجأة" فتصاب بالخيبة!! ذاك النحيل، ذو العينين الواسعتين، والشفتين الدقيقتين قال "ضعيها في الشمس، إنها تحب الشمس"، وها هي تعود إليه بعد الحال التي وصلت إليها... أعني بعد أن فتحت امرأة الخشخاش مسامات الذاكرة كلها، فهل كانت الكاتبة المبتدئة في تلك اللحظة - عودتها - وصلت الى النقطة التي وصلت إليها فتاة الخشخاش الصغيرة حين تحررت من أمها؟ وهل شكّل الفتى الهزيل إحباطاً مفاجئاً أو صدمة مؤثرة؟ كانت النبتة ذبلت، فعادت إليها... بمعنى أنها اكتشفت ان تحررها الآن غير ممكن إلا على الورق، فتعود الى امرأة الزهرة المتمردة... المرأة التي تصيب الكاتبة بالارتجاف وهي تذكرها بالحب وزلزلة الجسد وكل ما هو غائب عنها! وأخيراً نكتشف ان ذلك الفتى الهزيل لم يكن سوى فان كوخ، الفنان الذي آمن أنه "على الأغلب فإن الحياة مدورة"!! وهكذا، تقرر ان تتابع المشوار حتى نهايته، مشوار الحرية الوهمية من خلال رواية تركض فيها، وتجتاز الأزقة الضيقة، وتدخل الى أماكن لم تطأها قدماها من قبل، وبالتالي "هنالك شخص ما، آخر، لا يعرفها، سأضيعه، وأضيع نفسي... سأركض حتى آخر الصفحات. سأجتاز الغلاف وأختفي، سأنتهي من هذه الرواية، سأنتهي". ولكن... كيف؟ وأي رواية ستنتهي منها؟ ألم تقل قبل صفحة واحدة إن تلك المرأة اختفت "وكأنها مجرد قطرة ندى تبخرت وتركتني في سلام"؟ فأي سلام هذا الذي جعلها تقرر بعد صفحة واحدة ان تضيع في أماكن لم تعرفها من قبل؟ ما حدث حدث، ولم يعد في استطاعتها السكون، فكانت الرواية بوحاً يشكّل انعتاقاً مشروعاً من قيود الحياة اليومية، ورتابة الأيام المتشابهة!!