النجاح الدراسي للأبناء هل هو غاية الآباء والأمهات؟ وهل النجاح في الدراسة مقياس نجاح الابناء في الحياة؟ وماذا عن أحلام الابناء وطموحاتهم وما يريدون القيام به بالفعل؟ اسئلة تتوارد في ظل صراع الأبناء لإحراز أعلى الدرجات في جميع السنوات الدراسية وكذلك الصراع المحموم على الدروس الخصوصية وإلحاق الأبناء بمدارس معينة رغبة في تحقيق الهدف. أحمد، طفل لا يتجاوز الخامسة من عمره، لكنه يتحدث بلهجة واضحة محدداً أهدافه: يقول: يسألونني دائماً "لما تكبر عاوز تكون ايه؟" أنا نفسي أكون ضابطاً في الجيش، ماما دائماً تقول لي: ذاكر دروسك، وتمضي ساعات في المذاكرة دون فيديو ولا أفلام كارتون، واقول لها كفاية، لكنها ترد لسّه بدري، ذاكر دروسك مش انت عاوز تبقى ضابط؟ نعم؟ لكن لا أريد ان أذاكر لمدة طويلة. ماما وبابا ايضاً بيصمموا اتعلم السباحة في النادي والجو بارد وأنا أريد أن أتعلم السباحة في الصيف وبس، لكن في الشتا الدنيا برد. "انا نفسي يفهموا ان انا شاطر بس مش عاوز شغل كتير وخصوصاً لما ماما تلاقيني مش عاوز اذاكر تقول لي انها سترسلني للنجار القريب من البيت ولا داعي للمدرسة. طبعاً أنا مش باحب كده، ونفسي أكون ضابط جيش". هكذا كانت تلقائية كلمات احمد التي طرحت سؤالاً مهماً: هل نحن في حاجة الى تغيير مفهومنا عن المهن والنجاح العملي في الحياة؟ يقول استشاري الامراض النفسية الدكتور هاني السبكي: نعم نحن في أشد الحاجة الى تغيير نظرتنا ومفهومنا عن المهن الموجودة في المجتمع ولنرفع شعار "الجميع يعمل في خدمة الجميع" وهو يعني ان كل فرد في المجتمع يعمل من أجل كل المجتمع فمن منا يتصور الحياة من دون عامل النظافة في الشارع أو جامع القمامة او النجار او السباك او غيرها من المهن المهمة والتي لا نستطيع الاستغناء عنها، ويجب ألا يكون هذا الكلام مجرد أحاديث تنشر في الصحف، يجب أن تكون مبدأ في حياتنا، ونعمل على غرسه في نفوس ابنائنا ليفهموا ويقدسوا العمل كقيمة في حد ذاتها". ويضيف السبكي: أذكر انه اثناء زيارتي لأخي في لندن وجدت سيدة تترجل من سيارة فخمة وترتدي ملابس أنيقة فظننتها إحدى صديقات الاسرة ولكنني اكتشفت انها جاءت لتقوم بأعمال في المنزل، ثم انصرفت بعد حصولها على أجرها، هذا ما أقصده، فلنقدس العمل والنجاح من دون النظر الى مستوى المهنة". ماهيناز مصطفى- طالبة في كلية الصيدلة جامعة 6 اكتوبر تقول: "حصلت على الثانوية العامة بعد عامين من الدراسة المتواصلة وبعد كفاح مع الدروس الخصوصية، وكان مجموعي 93 في المئة وكانت إحدى رغباتي دراسة اللغات أو الإدارة، ولكن رغبة اسرتي كانت كلية الصيدلة، وبالطبع لم استطع دخول كلية الصيدلة في الجامعات المصرية لضعف المجموع ولم تكن هناك وسيلة سوى الالتحاق بكلية الصيدلة في جامعة خاصة، صحيح أنني أحببت الدراسة فيها ولكن اشعر أن المجهود الذي أبذله كبير جداً على الهدف الذي اسعى للوصول اليه، فأنا استيقظ كل يوم في الخامسة وأخرج في السادسة صباحاً وأعود في المساء، فلا وقت لممارسة هواية أو الانطلاق في رحلات أو خروج مع اصدقاء. أنا مكبلة بقيود الدراسة". رأفت غنيم طالب في كلية التجارة السنة الثانية يقول: "كان حلمي أن أصبح قبطان طيارة، منذ صغري كنت أذهب مع أبي الذي كان يعمل في مطار القاهرة وأراه وهو يعمل وبعد حصولي على الثانوية العامة أجبرني والدي ووالدتي أن التحق بكلية التجارة، على رغم أني كنت أود الالتحاق بمعهد الطيران. ولكن كيف أحصل على شهادة معهد فقط. رسبت في الكلية في العام الاول ووافق والدي بعدها على سفري الى الولاياتالمتحدة الاميركية لدراسة الطيران وحصلت على شهادة في الطيران من هناك وعدت لأصطدم بواقع هو معادلة تلك الشهادة من المعهد المصري. سنوات تضيع من العمر من دون هدف، هذا الى جانب الإصرار من الاسرة على أن اكمل دراستي في كلية التجارة". ريهام مصطفى طالبة في كلية التجارة تقول: "النجاح الدراسي ليس مقياساً، فزملائي الذين حصلوا على مجاميع كبيرة لا يتذكرون اي شيء من المواد التي درسوها، وكليات القمة اصبحت من دون مستقبل، فرص العمل قليلة والمهن التي لا تعتمد على دراسة هي التي تحقق ربحاً، وبدأ كثير من الشباب التفكير فيها، النجاح في رأيي هو النجاح في تحقيق الأهداف وليس نجاح مجموع". شاهيناز علي شتا - حصلت في الثانوية العامة على مجموع كبير تقول "اعشق اللغة الانكليزية. وبحكم تعليمي في مدارس أجنبية عرضت على أسرتي ان أدخل كلية الألسن قسم لغة انكليزية، أو كلية الآداب وأدرس الانكليزية ايضاً ولكن أبي رفض مناقشة الموضوع وصمم على إلحاقي بكلية الهندسة لماذا؟ لاني حصلت على مجموع كبير ودخلت الكلية ونجحت فيها، لم أنجح بامتياز ولكني انهيت دراستي وعملت في مدرستي كمدرسة للعلوم، لأني لم اقتنع بما عرض عليّ من وظائف ترتبط بمجال الهندسة، ومع اني احب عملي جداً وأتعجب حالياً لماذا يصر الآباء على تحقيق أهدافهم، لا أهداف ابنائهم؟ هذا غير أن النجاح في رأيي نجاح العمل الذي أقوم به، وللأسف أن كل مشاكل البطالة ومشاكل الشباب ناتجة من عدم قدرتهم على تحديد الهدف والعمل على الوصول إليه وتحقيقه". نماذج للنجاح بعيداً عن الدراسة: ماري لوي التحقت بعد حصولها على الثانوية العامة بكلية الفنون الجميلة وكانت من المتفوقين، ولكن في عامها الثالث اكتشفت أنها تدرس اشياء لا تريدها ولا تحقق طموحها ولا تجد نفسها في ما تدرسه على رغم تفوقها، وكان القرار الجريء، ان تترك اكذوبة الحصول على الشهادة، اي شهادة - وتسافر الى فرنسا، وهناك التحقت بمعهد لتعليم تصميم الازياء واستمرت الدراسة لمدة ثلاث سنوات تفوقت وأجادت وعادت الى مصر وعملت في مصنع والدها، وكان القرار التالي الذي غير حياتها فافتتحت قسماً للملابس النسائية ليصبح مصنعاً منفصلاً عن مصنع الملابس الرجالي الذي يمتلكه والدها. تقول ماري لوي: "النجاح لا يأتي مصادفة بل يأتي بالجد والمثابرة، والمشكلة لدينا أننا ما زلنا نصر على لفظ كليات القمة؟ والسؤال هو أي قمة؟ لا بد أن نعيد صياغة مفهومنا لمعنى كلمة العمل. والحقيقة أن النموذج كان أمامي، فأبي وأمي بدآ عملهما في ورشة بحي المطرية، وبالعمل والاصرار تحولت الورشة الصغيرة مصنعاً كبيراً. مدرسة الحياة أكبر بكثير من مدارس وزارة التربية والتعليم، والنجاح فيها له قواعد أخرى يجب أن نعلمها لأبنائنا". رئيس المجلس القومي للفنون التشكيلية وأحد كبار الفن التشكيلي في مصر الدكتور احمد نوار يقول: "الحقيقة أن مستقبلي كان سينتهي نهاية مفجعة. في يوم من أيام طفولتي إذ كان لي أخ يكبرني وكان أبي من أعيان إحدى قرى محافظة الغربية وكل أمله أن يرى أولاده ناجحين سواء كمزارعين او كأطباء وضباط، هكذا كان تفكيره، وكان أخي الأكبر يحب الرسم ويتقنه وهو الذي زرع في نفسي حب الرسم. وفعلاً بدأت أرسم وفي يوم ضرب أبي أخي الأكبر علقة ساخنة حينما اكتشف هواية الرسم لديه، من يومها وأنا أرسم في السر والخفاء بعيداً عن عين أبي، إلى أن حصلت على الثانوية العامة، وصمم أبي أن يكون التحاقي بكلية الهندسة، وحاولت اقناعه من دون جدوى، وذهبت الى المدينة مع بدء الدراسة ولكني لم استطع استكمال الدراسة منذ الأيام الاولى فاتصلت بأسرتي وأخبرت ابي بأنني سأنتحر اذا لم أدخل كلية الفنون الجميلة، وطبعاً تدخلت أمي وخافوا على حياتي ووافقوا". ويقول نوار: "أقول لكل أب وأم اتركوا لأولادكم العنان لخيالهم وأفكارهم، لدينا آلاف الاطباء، وآلاف المهندسين، ولكن كم منهم يحب عمله وناجح فيه؟". واذا كانت تلك نماذج مشهورة حققت لنفسها النجاح على مستوى المجتمع، فهناك نماذج استطاعت تحقيق النجاح ولكن على نطاق أضيق. هيثم - شاب تخرج في كلية الفنون الجميلة ولم يجد عملاً، وكان التفكير، ولحظة الوقوف مع النفس، حين قرر ألا ينتظر ويضيع سنوات جديدة من عمره. فبدأ بمشروع صغير وهو محل صغير لبيع أشرطة الكاسيت، وبالإصرار نجح في توسيع المشروع الى أن صار محلاً كبيراً، وحالياً يستعد لإنتاج مستقل، يقول: "النجاح في نظري ليس نجاح شهادة أو مجموع، وليس معنى هذا التخلي عن التعليم، بل على العكس، فالتعليم يُهذب النفس البشرية، ولكن بشرط ان يكون وسيلة لتثقيف النفس والارتقاء بها وليس هدفاً في حد ذاته، وأنا أتعجب حينما أجد شاباً يقول إنه لا يجد عملاً، الحقيقة هو يبحث عن الشكل لا المضمون، ولهذا فالنجاح لا يرتبط بمكان أو مهنة. أنا واجهت صعوبات كثيرة، ولكنني تحديتها كلها وقررت الصمود". محمد عرفة، شاب أنهى تعليمه المتوسط، من صغره يهوى الخشب وإصلاح كل ما يحتاج لصيانة من أثاث المنزل، كان والده يعاقبه دائماً لعدم اهتمامه بالدراسة، وحصوله على درجات ضعيفة في سنواته الدراسية. وعدم اكتراثه بالدراسة، مثل شقيقيه. أصبح أحدهما طبيباً والآخر مهندساً، وكان والده يعيره دائماً بقلة شأنه ولكنه لم يهتم، بل كان يذهب في أوقات فراغه وأيام الاجازات الى ورشة نجارة ويتمرّن فيها، وحاز عمله على إعجاب الاسطى صاحب الورشة فعلّمه الكثير من أسرار المهنة الى أن أصبح أسطى نجّار ممتاز، وكان دخله من عمله في الورشة يدخره لتحقيق هدفه في افتتاح ورشة خاصة به، وفعلاً اشترى ورشة صغيرة وبدأ فيها بإصلاح الأثاث القديم. ويوماً بعد يوم بدأ بإنتاج قطع صغيرة من الأثاث، ثم توسّع، وحالياً يصنع غرفاً متكاملة، وهكذا صارت الورشة معرضاً لبيع الموبيليا. يقول: "هدفي حالياً البحث عن معرض آخر، أما عن أبي وإخوتي فقد أدركوا قيمة نجاحي بعد افتتاحي معرض وشرائي سيارة وشقة في حيّ راق لأتزوج فيها، وأتمنى أن يترك الاهل الابناء ليختاروا عملهم، يجب أن نكسر شعار "بلد شهادات". أستاذ الاقتصاد في الجامعة الاميركية في القاهرة الدكتورة شيرين الاشرفي تقول: "الاساتذة والمعلمون هم الأكثر قدرة على ملاحظة عدم اهتمام الطلاب بالدراسة، والمشكلة هي أن الآباء يدفعون أبناءهم الى الدراسة بالإكراه، والطلاب مدفوعون الى الدراسة، وكأن هناك من يُمسك لهم العصا. يكفي أن أرى طالباً يعشق الأدب ويدفعه أهله الى دراسة الهندسة أو العلوم لمجرد أنهم يريدون ذلك أو لتحقيق رغبة لديهم أو ليواصل الإبن عمل الأب أو الأم". وتضيف: "الحياة تتغيّر والعالم أصبح ينظر الى الأمور نظرة مختلفة، وقد يكون هذا هو الفرق الذي بيننا وبين العالم المتقدم، حيث العمل عمل والراحة راحة. يعرفون كيف يعيشونها لكن نحن فقدنا القدرة على العمل والراحة". الاستاذة في كلية الفنون التطبيقية الدكتورة اسماء أبو طالب تقول: "نحن في تربيتنا لأبنائنا لا نعلمهم أسس النجاح في أي شيء، ولكن دائماً نغرس في نفوسهم روح التنافس وإحراز التقدم على أقرانهم من دون أن ندرك إمكانات أطفالنا وميولهم، ونوازعهم وتطلعاتهم ونظل نضغط عليهم وندفعهم الى التنافس في الدراسة على وجه الخصوص من دون أي مراعاة لنفسية الإبن. نؤكد على قيمة التفوق لا لتحقيق السعادة بالنجاح كنتيجة للتفوق، ولكن من منظور "لا تدع أحداً يسبقك أو يفوز عليك" وبهذا يشب الطفل وفي كيانه مبدأ واحد "ممنوع نجاح أي أحد غيري" ولعل ذلك احد اسباب حالة التردي الأخلاقي التي نعيشها.