قبل خمسة وعشرين عاماً، بدأ فريق من العلماء والباحثين المتعددي الجنسيات أميركية، استرالية، كندية، أوروبية رحلته الاستكشافية عن تاريخ مصر الحضاري، وبالتحديد تاريخ منطقة واحة الداخلة، تحت اشراف البريطاني توني ميلز، مدير مشروع الداخلة للآثار. وانضم اليهم الفنان التشكيلي البريطاني جون أوكارول قبل خمسة عشر عاماً فقط، ليكون مواكباً لاستكشافاتهم في شكل مباشر. ولأنه كان شغوفاً بمصر كمكان ومصدر للحضارات فقد كان ذلك مبرراً أساسياً في حرصه على دراسة تاريخ الفن في بريطانيا. ومنذ انضمامه الى فريق توني ميلز للبحث في تاريخ هذا البلد الغني بالحضارات، وهو يتولى الرسوم التوضيحية للآثار التي تكتشف. من هنا قدم الفنان البريطاني جون أوكارول خلاصة تجربته الخاصة بهذه الرحلة التي يمتد عمرها نحو خمسة عشر عاماً هي عمر وجوده داخل فريق البحث. وذلك من خلال معرض متميز في مقر السفارة في القاهرة. ضم المعرض مجموعة هائلة من الأعمال المرسومة والمصورة مستخدماً فيها عدداً من التقنيات القديمة كالشمع الساخن والغرافيتي، اضافة الى القماش القطني والورق المصنوع يدوياً والخشب الرقيق. وكلها خامات تصلح لأن تكون مساحات وسطوحاً مجهزة مناسبة للرسم أو التصوير أياً كان تصنيف التشكيل. والمعرض كفكرة يعكس انطباعاً دافئاً لدى الفنان في التعبير عن الحضارة المصرية القديمة، وقدرته الفنية في ترجمة هذا الانطباع، سواء جاء ذلك مرسوماً أو مصوراً. ولعل قيمة العمل تكمن في كيفية تناول العنصر وكيفية توظيفه، وفي فلسفته عموماً. والأعمال في شكلها تعبر عن مختلف الظروف. والحالات في منطقة واحة الداخلة وقدرة سكانها طوال العصور المختلفة على التأقلم مع البيئة المحيطة. وكل ذلك في إطار توضيحي مرسوم استخدم له الفنان أقلام الرصاص والحبر على الورق المعد سلفاً، مستعرضاً بشيء من التفصيل أهم التغيرات التي طرأت أو توالت في أساليب الحياة هناك: الزراعة، المعتقدات الدينية، الجوانب الصحية، العادات الغذائية... يصوّر الفنان بعض الحفريات التي عثر عليها فريقه كالسكين والمشط العاجي، والآنية الفخارية، والتاج الملكي والزي التقليدي، وغيرها مما يرجع تاريخه الى آلاف السنين. وقد تناولها أوكارول في شيء من التوضيح بالرسم، كما عُني بتصوير بعض المناطق والظواهر الجغرافية. وذلك من خلال أعماله المصورة التي استخدم لها عدداً من التقنيات المخلوطة العجائن في تشكيل بعض اللوحات التي تعبر عن الصحراء وتأثير الرياح والعواصف على المكان الواحد مع اختلاف الزمن. ولم يكن هدفه الأول تصوير الظاهرة بقدر ما كان تركيزه على رصد حالة فريدة في ملاحظتها، غنية بالوجود والحضور البيئي. وهو يدعم عمله باللون والحركة، كأن يعبّر عن الصحراء باللون الأصفر الرملي بينما تمثل العاصفة شكل دائرة متحركة في ايحائها التشكيلي داخل العمل عند قراءته. وتضاف الى رصيد العمل التشكيلي قيم أخرى خاصة بالتكوين والتوازن اللوني والحركي. فهناك الكثير من الاعتبارات التي لا يمكن الفنان الحقيقي التخلي عنها مهما شطح تفكيره أو تشكيله. ولا يمكن المتلقي إنكار أو تجاهل وجودها داخل العمل مهما كان غريباً عن المعالجات المألوفة. ففي حين نعهد حدثاً تاريخياً حضارياً خاصاً باكتشاف هائل من باطن هذه المنطقة وهو الكشف عن أقدم جبل يرجع تاريخه الى العصر الحجري القديم قبل نحو مئتي ألف سنة، يقوم الفنان في الوقت نفسه، برصد هذا الحدث تشكيلياً ليكون شاهداً ابداعياً لاكتشاف فريقه التاريخي. وفي مجموعة أخرى من الأعمال المتكاملة يبرز اهتمام الفنان بتصوير الأقنعة التي عثر عليها الفريق أيضاً. والقناع الذي يصوره أوكارول يرجع تاريخه الى مئات الآلاف من السنين وهو كان يستخدم لأغراض كثيرة كالحماية من تأثير الشمس أو كتقليد عند الاحتفال بأي مناسبة. خصص الفنان مساحة كبيرة من الخشب الرقيق لرسم القناع، مستخدماً تقنيات من العجائن والوسائط المختلفة. والعمل الفني عند قراءته يأخذ شكل الوجه البشري، لكن الاقتراب منه أكثر يصحح الانطباع الأول له ويعطي تفاصيل أكبر للقناع. واللوحة في حجمها الكبير مستغلة كاملة وليس هناك محيط من الفراغات أو المساحات الزائدة، فالقناع يستغل المساحة كلها، ويضيف اليها بعداً خاصاً عند التعرف على آلياتها. في أعمال أخرى مرسومة يبرز أيضاً تركيز الفنان على تصوير بعض الحيوانات كالزرافات والأسود وغيرها من الحيوانات التي كانت تعيش في المنطقة، موقع البحث منذ زمن بعيد. نرى بعض الزرافات المرسومة وقد لفّت اعناقها في محاولة لاصطيادها. ينم المعرض عن حال من التدفق الشعوري عند الفنان وعن حب المكان وحرصه على رصد الظواهر والتقاليد القديمة التي تم التعرف عليها خلال رحلته التي واكبت فريق البحث عن الحضارات في مصر. ولأنه أحب مصر كثيراً وزارها مرّات، قرر دراسة تاريخ الفن. وكان لهذه الدراسة الفضل في تحقيق أحلامه.