يشكل الصعيد المصري جزءاً مؤسساً وفاعلاً في السبيكة الحضارية المصرية. فكما قال عنه الدكتور سليمان حزين: "إذا كانت الدلتا أمدت مصر بالمال، فإن الصعيد أمد مصر بالرجال". ويؤكد هذه المقولة ان من الصعيد يطلع، عادة، الرجال الذين يوحدون البلاد ويحررونها ويصلحونها سياسياً ويتحملون عبء إدارة شؤونها، بدءاً من الملك مينا حور عحا موحد القطرين في عصر الأسرة الأولى المصرية، وليس انتهاء بالزعيم جمال عبدالناصر قائد الثورة المصرية فجر 23 تموز يوليو 1952، من دون ان ننسى خصوصيته الحضارية الفائقة. فنظراً الى بعده الكبير عن العاصمة المصرية وأماكن التلاقح الثقافي والحضاري، ظل الصعيد بعيداً تماماً من المتغيرات التي طرأت على الشخصية المصرية عبر تاريخها الثقافي الطويل، فبقي محتفظاً بالصفات الأصيلة الحاملة "جيناتها"، ولم يغير من جلده كثيراً، لذا استحق أن يُوصف عن جدارة ب"البوتقة" الحافظة مكونات الشخصية المصرية الحضارية، إذ حافظ على نقائها العرقي الى أبعد الحدود، وأصبحت صفاتها لصيقة به ومميزة له ولها، كبصمة الاصبع. اهمال ولبعده المكاني الكبير من مركز الحكم في الشمال، أصابه اهمال، بعض الوقت، ثم شغل به الشماليون أنفسهم قبل الجنوبيين، وبدأ يظهر في أعمال فنية عدة في مختلف مجالات التعبير الفني. وما يهمنا في هذا المقام، وجوده وظهوره في الأدب، وتحديداً في القصة، ما سيؤدي بالتبعية والضرورة الى فن السينما هدف حديثنا. كانت بداية خروج الصعيد في صورة فنية قشيبة - غالب الظن - في أعمال رواد حركة التنوير المصرية أمثال طه حسين الذي كتب عملين رائدين عن أهله هما "دعاء الكروان" و"المعذبون في الأرض"، اضافة الى أعمال اخرى مهمة عنه. وما لبث ان احتل الصعيد مكانه اللائق به شيئاً فشيئاً في خارطة الابداع الأدبي المصري، فكتب عنه أدباء من طينة يحيى حقي في "دماء وطين" وروايته القصيرة "البوسطجي". وتبعه في الكتابة عن أهل الصعيد ابن اسيوط محمود البدوي راهب القصة القصيرة وآخرون، الى أن حدثت القفزة الحقيقية في تناوله ابداعياً في أعمال عبقري جيل الستينات الراحل يحيى الطاهر عبدالله، خصوصاً في روايته الفاتنة "الطوق والاسورة"، وكذلك في أعمال: بهاء طاهر "شرق النخيل" و"خالتي صفية والدير"، مثلاً، ومحمد مستجاب صاحب "ديروط الشريف"، و"التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ"، وحمدي البطران في روايته المثيرة "يوميات ضابط في الأرياف"، اضافة الى أعمال شباب الأدباء، مثل أشرف الخمايسي وأحمد أبو خنيجر وأسماء هاشم. وتنوع التناول السينمائي لهذا الكنز الفني الهائل بكل ثرواته البشرية والمكانية وعاداته وطقوسه الغرائبية وأجوائه السحرية ومناخاته الاسطورية الفريدة، فجاء مراراً شاحباً جداً، أشبه برؤية سياحية وعين غريبة راصدة لا مصرية، وحدث قليلاً أن جاء معبراً تماماً عن حقيقة الصعيد المصري ووجوده وخصوصيته داخل المنظومة الحضارية المصرية الشاملة. إذاً تنوع التعبير بين الخفة والضحالة تارة، والعمق والروعة والفتنة تارة أخرى. من هنا تولد تأثيره وامتد في أفلام عظيمة عدة، منها "الزوجة الثانية" 1967 لصلاح أبو سيف، و"صراع في الوادي" 1954 ليوسف شاهين، و"المومياء" 1975 لشادي عبدالسلام، و"البوسطجي" 1968 لحسين كمال، و"دعاء الكروان" 1959 لهنري بركات، و"الطوق والاسورة" 1986 لخيري بشارة، و"عرق البلح" 1999 لرضوان الكاشف. وتناثرت اصداؤه وأجواؤه في عدد من الأفلام منها ما اتسم بالقوة والبراعة الفنية مثل "الهروب" 1991 لعاطف الطيب، و"سرقات صيفية" 1988، ليسري نصرالله، أو اتسم بالعادية والتكرار البصري المشهدي من دون "لماحية" واضحة مثل "آخر الرجال المحترمين" 1984 لسمير سيف. وخذل الشاشة مخرجون صعيديون كنا نتمنى أن نرى الصعيد مجسداً فنياً على الشاشة من خلالهم في فن الأطياف الساحر، لكن أخذتهم الاكاديمية والبحث العلمي عن الاخراج السينمائي والعمل في الحقل السينمائي مبدعين وحرفيين في الوقت نفسه، مثل الدكتور مدكور ثابت ابن قرية كوم اشقاو، مركز طما في محافظة سوهاج في عمق الصعيد المصري، وقد هجر الاخراج الى التدريس والتأليف الأكاديمي. وكانت خسارتنا فيه فادحة لأنه كان رائد جيله، على قول الراحل عاطف الطيب. وحاول يوسف فرنسيس برؤيته التشكيلية التعبير قدر الامكان عن نظرته الى الصعيد المصري الذي يسكن بعيداً منه، فجاءت متأرجحة بعض الشيء في فيلمه التلفزيوني "البحث عن توت عنخ آمون" 1997 الذي يروي فيه قصة اكتشاف مقبرة هذا الفرعون الذهبي، على يد المغامر المكتشف الانكليزي هيوارد كارتر 1873 - 1939، فجاء متأثراً جداً في طرحه برائعة شادي عبدالسلام "المومياء". لكن أي مقارنة تجيء في مصلحة الأصل عادة، فكانت قوة التشكيل والتخييل والتفكير في الوقت نفسه عند شادي قوية لا تُضارع. البداية وكانت البداية الحقيقية لأفلام تدور أحداثها في صعيد مصر في بعض أفلام صلاح أبو سيف المبكرة مثل "المنتقم" 1947 و"الوحش" 1954، وهو كتب بنفسه السيناريو في مشاركة الأديب نجيب محفوظ، وصاغ الحوار عبقري الحوار المصري السيد بدير. وكانت هذه الأفلام عموماً أفلام أبو سيف وغيره تعكس رؤية القاهريين الى الصعيد وانطباعهم عنه. لذا لم تأت الرؤية او التناول عن خبرة حقيقية من خلال المعايشة الحياتية لقضايا الصعيد ومشكلاته المؤرقة وواقعه المأزوم عادة. بل استخدم خلفية مكانية لسير الأحداث الدرامية المصورة سينمائياً، جرياً وراء إتمام الحبكة القصصية، والجو العام لمجرى السرد والقص، إذ ان هذا كان الدافع الحقيقي لصنّاع الفيلم الى اختيار الصعيد تحديداً مكاناً لأفلامهم. ولو اختيرت احدى قرى الدلتا في الشمال مكاناً لسير الأحداث لما حدث اختلاف كبير، وكان التصوير يتم عادة في الشمال ويقال انه تم في الصعيد. وكانت هذه الأفلام، في غالبيتها، تثير قضايا تقليدية ترتبط في الاذهان بالصعيد عادة مثل وجود القوي أو المنتقم أو الوحش أو رصد محاولات مستميتة لتجارب الثأر الدموية الحادثة، أو قضايا اجتماعية كالشرف وغيره من الأمور المشينة. وتظل هذه الرؤية عادة هي الماثلة في معظم الأفلام وإن جاءت في شكل باهت في بعضها مثل "عرق البلح"، أو في شكل رئيسي في بعضها الآخر ك"دعاء الكروان" و"البوسطجي" و"صراع في الوادي". وقليلة هي الأفلام التي حملت أبعاداً فكرية عدة ورؤى تأويلية متجددة المومياء وعلى أكثر من مستوى قرائي. ونحاول القاء الضوء على بعض هذه الأفلام الممثلة اتجاهات متنوعة في التعبير عن الأجواء المكانية للصعيد الجواني في السينما المصرية، بغية الوصول الى نتيجة ما من خلال هذه القراءة السريعة. حين شرع صلاح أبو سيف في تقديم البداية الفنية في تناول الصعيد، لم تكن بدايتة على المستوى المطلوب منه في التعبير عن الصعيد كمكان وبشر مهووسين به، فهو انطلق من رؤية أكثر عمقاً وأكثر فهماً وحباً للصعيد وناسه في فيلمه العلامة "الزوجة الثانية"، عن قصة لأحمد رشدي صالح وسيناريو سعد الدين وهبة في مشاركة محمد مصطفى سامي الذي صاغ الحوار الفيلمي منفرداً. في هذا الفيلم غاصت كاميرا أبو سيف في أحشاء الصعيد المصري وأخرجت الى الوجود الفني صعيداً حقيقياً بعيداً تماماً من التناول المسطح الشبيه بالرؤية السياحية أو نظرة الطائر الذي تناول به الصعيد قبلاً. يدور الفيلم على قصة أحد عمد الصعيد الجبارين ذكر أبو سيف في أحد أحاديثه الصحافية ان العمدة في هذا الفيلم هو والده الذي يرغم زوجة أحد البسطاء على الزواج منه، على رغمها ورغم زوجها. والمكان هنا جابته عين أبو سيف عبر دوار العمدة والترعة و"وابور" الطحين الذي كان يعمل فيه أبو العلا شكري سرحان. ومثلت سعاد حسني في هذا الفيلم واحداً من أروع أدوارها على الشاشة الفضية. وجاء التعبير عن المكان هنا كالتعبير عن أي مكان في الريف المصري، سواء أكان الدلتا أو الصعيد، وأظهر عادة التسلط والتجبر لدى بعض رجال السلطة وممارستهم هواية القهر المتسلط على رقاب العباد، أو بلاغة المقموعين في رد القهر والتعبير عنه وفقاً لمعتقداتهم وتصوراتهم الخاصة، ونفاق رجال الدين ورجال السلطة حسن البارودي. ولا يقلل امكان تصوير هذا الفيلم في الصعيد أو الدلتا من شأنه، فجاء معبراً عما يحدث حقيقة سواء في الشمال أو الجنوب، لكن لم يحدث فيه ما يشير الى خصوصية الصعيد تحديداً مثل المعالم المميزة نفسها، وليس في هذا من قصور. متمرد بعد فيلمه الأول "بابا أمين" 1950، اقتحم الفتى المتمرد يوسف شاهين منطقة غير مطروقة في التعبير السينمائي المصري، في فيلمه الثاني العلامة "ابن النيل"، الذي شارك به في مهرجان 1951، وكتبه بمعاونة فتوح نشاطي، وصاغ حواره نيروز عبد الملاك. وقد رصد فيه عدداً من القيم الجمالية المكانية، في علاقة الانسان والأرض وعلاقته أيضاً بالنهر، فأدار كاميراته للتعبير عن ثورة النهر الخالد وهياجه وهجرة الابن حميدة الى العاصمة، في رحلة لا يجلب من ورائها سوى الشقاء، فيعود مرة أخرى الى الأرض التي أنجبته منقذاً طفلاً صغيراً جرفه تيار النهر المنهمر بعيداً من بيته فوق جذع نخلة، ويعيده الى بيته ليعلم انه ابنه الذي ترك امه وهي تلده من دون أن يعرف انه ولده. أجاد شاهين في التعبير عن الصعيد كمكان في فيلم يدل تماماً الى الصعيد كجو مكاني وبعد خصوصي لا تخطئه العين، على عادة شاهين دائماً في الغوص في الأعماق والتعبير في منتهى الصدق عن أدق التفاصيل العاكسة خصوصيته كمخرج وخصوصية المكان. في فيلمه السادس "صراع في الوادي"، يقترب شاهين من المكان الصعيدي أكثر، وتحديداً من مدينة الأقصر، ويدير حواراً سينمائياً بليغاً بين الآثار والانسان. في تلك اللقاءات المتعددة بين عمر الشريف وفاتن حمامة، اضافة الى الصراع بين عمر الشريف وفريد شوقي وحمدي غيث من أجل القضاء على القاتل الحقيقي للشيخ. هنا يظهر المكان بكل صفاته، فحين تتصدع حياة البشر يكون خير معبّر عن آلامهم وهمومهم، وحين يحملهم على أكف السعادة يظهر المكان ابتسامته لهم ويحتضنهم بين ضلوعه الحانية. تحدث المطاردة والقتل في القصب، المحصول الرئيس في الصعيد، وبين البيوت المميزة لتلك المنطقة: بيت عائلة سليم حمدي غيث وبيت الباشا الاقطاعي زكي رستم وبيت الشيخ عبدالصمد عبد الوارث عسر وولده أحمد عمر الشريف. فلشاهين القدرة على انطاق المكان وادخاله شريكاً درامياً فاعلاً له صفات الفعل والمشاركة في المشهد من دون اضافة. بل يؤدي غيابه أو فقده الى خلل درامي ساطع الوضوح سطوع الشمس في وضح النهار. شاهين يستخدم المكان ويوظفه ولا يستخدمه المكان أو يوظفه. عن قصة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين "دعاء الكروان" أخرج هنري بركات عام 1959 واحداً من أهم الأفلام المصرية التي عبرت عن أجواء الصعيد، وكتب السيناريو بالاشتراك مع الأديب يوسف جوهر الذي صاغ الحوار منفرداً. الفيلم جاء معبراً على المستوى السيكولوجي عن الصعيد، كاشفاً عن قضية الشرف فيه. وانعكست الأجواء المكانية في التعبير عن خصوصيات البيئة المسيطرة، كصوت الكروان المميز في الصعيد المصري والبيئة الزراعية الفريدة، والوظائف التراتبية التي شغلها عادة كبار موظفي الدولة المصرية، وكذلك البيوت الصغيرة، وناس الصعيد الملتصقين به بشدة واللهجة المعبرة. وسيطرت أحداث السرد على الاهتمام بجماليات المكان. حين ماتت الابنة ويدور في الأجواء نفسها أيضاً فيلم "البوسطجي" 1968 عن رائعة يحيى حقي وسيناريو الأديب صبري موسى وحواره، ومن اخراج حسين كمال في ثاني تجاربه الاخراجية بعد "المستحيل" 1965. في هذا الفيلم يتضح الجو الصعيدي المكاني بخصوصيته وبيوته وعائلاته ومدارسه والتعليم والعمل داخله وخارجه في عاصمة الاقليم أو المدن الكبرى كالقاهرة والاسكندرية، من خلال علاقة غير مشروعة بين فتى وفتاة، يقع على سرهما البوسطجي شكري سرحان، فنعرف ما يدور في الصعيد ومشكلاته اليومية. يحاول البوسطجي اصلاح غلطته، تحترق الرسالة. ويقتل الأب ابنته بعدما شاهد علامات حملها ظاهرة، عندها يبدد البوسطجي ما معه من رسائل وأوراق خاصة يريد تسليمها الى اصحابها. المكان هنا ممثل في شكل جيد حيث تبدو للصعيد بيئته الخاصة ونخيله العالي والبيوت الفلاحية الكبيرة الواسعة ذات الأحواش والأجران، كذلك بيت البوسطجي الآتي من خارج البلد الى قرية في صعيد مصر، فيلاحظ العجائب. "البوستة" البريد التي يعمل فيها ووجودها الحتمي في الصعيد المصري، تنقله بين القرى على الحمار نظراً الى المسافات الشاسعة بين قرى الصعيد وبعضها بعضاً. فيلم يلتصق بتراب الصعيد ويعبر عنه في أدق الأشياء وأصغرها، يضاف الى قائمة أفضل الأفلام المصرية المفصحة عنه. هو واحد من ثلاثية حسين كمال الرائعة التي تضم "المستحيل" 1965 و"البوسطجي" 1968 و"شيء من الخوف" 1969. المومياء عام 1975، عرض فيلم "المومياء" لشادي عبدالسلام الذي أنجزه بعد هزيمة حزيران يونيو 1967، تحديداً عام 1969، وهو يعد واحداً من أفضل أفلام السينما المصرية ان لم يكن أفضلها على الاطلاق، وقد دخل ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في العالم. في هذا الفيلم، مزج عبدالسلام بين مستويات قرائية ثلاثة: الأول يتعلق بمصر الناصرية ومأزقها القائم في الهزيمة أمام العدو الاسرائيلي، والثاني: القرن التاسع عشر وتحديداً العام 1881 عام اكتشاف خبيئة الدير البحري في غرب مدينة الأقصر على يد الفرنسي غاستون ماسبيرو ومساعده المصري أحمد كمال رائد المدرسة المصرية في علم المصريات ما يظهر عظمة المصريين القدماء والمحدثين كذلك في مواجهة الآخر الأوروبي، سواء الفرنسي أو الانكليزي المحتل مصر بعد عام واحد من1882. والثالث: الذهاب الى مصر القديمة نفسها وطريقة الاهتداء الى فكرة الخلود، والبعث والنهضة، مرة أخرى بعد الانكسار والهزيمة والموت، وانتصار الحياة في النهاية، ومعرفة كيف كان المصريون يقدسون ويحترمون موتاهم وتراث أجدادهم. عبر عبدالسلام عن صعايدة القرن التاسع عشر وهم يبكون ويتألمون لخروج موتاهم من بينهم، لاعتقادهم انهم تراث خاص بهم وحدهم. فهم أهلهم سواء باعوا تراثهم أو حافظوا عليه، وهم الأحق والأولى به. جاء التعبير مكانياً عن الصعيد من خلال مشهد الجنازة وشواهد القبور البيض، والصعود الى الجبل الغربي، وزيارة قبور الأجداد وأجرانهم، والأقصر والسير ليل نهار بين معابدها الكبرى والصغرى كالكرنك والرامسيوم وبيت العائلة المميز، ومعسكر الآثار ورجال الحفائر الآثارية، والعلاقة العاطفية بين الأطلال التي صورها شادي في سقارة بديلاً من الأقصر، لأن سقارة تمتاز بمصاطبها الظاهرة على عكس الأقصر ذي المقابر المحفورة في باطن الجبل الغربي، كذلك وكر مراد مساعد أيوب تاجر العاديات، وأخيراً دخول رجال الآثار مقبرة الأميرة اين حابي زوجة الملك أحمس طارد الهكسوس، والتي استخدمها الملك بيي نجم وزوجته نس خنسو. قدم شادي الصعيد في صورة فنية لا تتكرر إلا كل قرن على الأقل، نظراً الى موهبته الفنية والتشكيلية الرفيعة، وديكور صلاح مرعي الأروع. "المومياء" تحفة فنية ناصعة على جبين السينما المصرية. عام 1986، قدم خيري بشارة ثالث أفلامه "الطوق والاسورة" عن رواية يحيى الطاهر عبدالله الحاملة الاسم نفسه، وكتب السيناريو مشاركة مع يحيى عزمي، وصاغ الحوار الشاعر العامي عبدالرحمن الابنودي. في فيلمه الكبير هذا عاد خيري بشارة الى موطن الأجداد: الأقصر، وتحديداً قرية الكرنك موطن يحيى الطاهر، والى حقبة الثلاثينات ليظهر كم كانت معاناة الصعيد في ذلك الوقت من خلال تعاقب الأجيال. مع بقاء بعض الأجداد والتحول والتبدل، يظهر الصعيد هنا مكاناً بالغ الغربة والاسطورية: المعبد وما يحدث داخله، الدار ووضعها المميز، حياة الأشخاص وسماتها الواقعة، النهر وطبيعته، البقال أحمد بدير ووظيفته، المغني والمدرس محمد منير وحياته المعربدة والمضطربة، الجد والخال عزت العلايلي، حزينة فردوس عبدالحميد. وعلى رغم حدوث الفيلم في ثلاثينات القرن العشرين، فإن هذا لا يبدو واضحاً. وهو يعد من أروع الأفلام المعبرة عن الصعيد المصري. ويبقى لدينا من هذه السلسلة واحد هو من أهم أفلام 1999، وقد لاقى نجاحاً نقدياً كبيراً واغتيل لدى عرضه في دور السينما، إذ تآمر المنتج والموزع عليه، علماً ان السينما المصرية انتظرته طويلاً. انه فيلم "عرق البلح" فيلم رضوان الكاشف الثاني، وهو حلم به طوال عمله في الحقل السينمائي منذ ما يربو على عشر سنوات، وأجله حتى يجد منتجاً شجاعاً، وأراد به التعبير عن منطقة محرومة التعبير عنها سينمائياً، أو على حد تعبير أحد رجال الأعمال لرضوان "انهم أناس يستحقون القتل". ذهب رضوان الى الواحات الداخلة والخارجة في قرى موط بلاط والدينارية، ليصور لوحة فنية مبهرة عن الجنوب، قلما جاء التعبير عنها بهذا الشكل الرائع والمتناسق: المجاري المائية الصغيرة، البيوت الكبيرة، النخلة البيضاء، الطقوس الحياتية المميزة، الخروج الى الخلاء والطبيعة الساحرة. هجر الرجال القرية فأصابها الوهن وحل بها الموت وغزاها الغرباء وانتهك بعضهم حرماتها ومات بعض نسائها. يقدم رضوان فيلماً عنا وعن زمننا، يضمنه رثاءنا ونحن احياء، وقد أحسن الأداء لكن الرسالة لم تصل. فقد قام الوسيط بدوره البغيض بالامتناع عن البلاغ!