أحياء آمنة وشوارع نظيفة وعدد أكبر من الحضانات ونسبة أدنى من التلوث، هي الهموم المسيطرة على الفرنسيين من سكان المدن الكبرى، ومنها باريس تحديداً، الذين يدلون اليوم بأصواتهم في الدورة الأولى من الانتخابات البلدية. وعلى امتداد الحملة الانتخابية، لعب الإعلام الفرنسي دوراً بارزاً في إلقاء الضوء على هذه القضايا، وتحول إلى ما يشبه المجهر المتنقل من مدينة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى كاشفاً عن المشكلات التي تواجهها كل منها. وهكذا تسنى للفرنسيين أن يتحققوا بأنفسهم من أن هناك أحياء في بعض المدن يتعذر على سكانها النزول إلى الشارع، بعد ساعة معينة، لأنها تتحول مرتعاً لتجار المخدرات أو عصابات الشبان المخلين بالأمن. كما شاهدوا بأعينهم تراكم الأوساخ، خصوصاً منها أوساخ الكلاب، في عدد من الشوارع الباريسية، حيث يكاد يصبح السير على أرصفتها شبه مستحيل. واستمعوا إلى أرقام مفصلة حول التكاليف السنوية التي تتحملها بلدية باريس لرفع هذه الأوساخ، كما تعرفوا إلى أرقام مفصلة عن عدد السيارات التي تسير يومياً في شوارع باريس وكميات اوكسيد الكربون التي تتسبب بها. وفي إطار الحملة الانتخابية، أيضاً، اطلع الفرنسيون على معاناة الأمهات العاملات اللواتي لم يحالفهن الحظ في تأمين حضانات لأولادهن، مما يحمل العديد من الأزواج على عدم الانجاب تفادياً لمثل هذا الوضع. كما القي الضوء على مشاكل الوحدة التي يعاني منها المسنون، وصعوبات المعاقين في التنقل والاستفادة من وسائل النقل العام، وعلى ضرورة زيادة وتنويع الأماكن العامة الترفيهية والثقافية والفنية، إلى ما هنالك. كان لا بد لهذه المشاكل المختلفة من أن تجد أجوبة لها عبر البرامج المختلفة التي أعدها المرشحون الذين يتنافسون في هذه الانتخابات، وانطوت على سلسلة من الوعود والتعهدات الزاخرة بالسخاء والايجابية. فمرشح اليسار لرئاسة بلدية باريس برتران ديلانوي تعهد، مثله مثل منافسه اليميني فيليب سيغان ومنافسه من حزب أنصار البيئة الخضر ايف كونتاسو، بالعمل على خفض التلوث عبر خفض عدد السيارات في شوارع باريس، وتعزيز وسائل النقل العام، واستحداث "ترامواي" للتنقل داخل العاصمة. لكن المرشحين الثلاثة اختلفوا حول عدد خطوط هذا "الترامواي" وطولها، فاقترح كونتاسو انشاء خمسة خطوط، فيما تعهد ديلانوي انشاء خط دائري يلف العاصمة، واكتفى سيغان بخط يمتد بطول 8 كيلومترات في مرحلة أولى. وبالنسبة للأمن التقي سيغان وديلانوي على ضرورة تعزيزه، نظراً إلى التصاعد الملحوظ في عدد السرقات والاعتداءات التي تسجل في العاصمة، لكنهما افترقا في تحديد الوسائل. إذ اقترح سيغان انشاء شرطة بلدية تتولى السهر على الأمن في شوارع العاصمة، وهو ما عارضه ديلانوي باعتباره تجاوزاً لدور الشرطة التي ينبغي العمل على تعزيز أجهزتها في الأحياء المختلفة. وأكد المرشحون، على اختلافهم، عزمهم على بذل المزيد من الجهد من أجل نظافة شوارع العاصمة، لكن كونتاسو انفرد من دون سواه بتلبية دعوة إحدى الجمعيات المحلية، لإزالة أوساخ الكلاب عن أحد الأرصفة بفضل كيس وعصا صغيرة مخصصة لذلك. الاجماع نفسه يبرز بالنسبة إلى ضرورة زيادة الحضانات وتعزيز المساحات الخضراء والمراكز الترفيهية والثقافية. لكنه يتحول إلى موضوع اتهامات متبادلة بشأن تمويلها. وكان هذا الموضوع احتل حيزاً مهماً من المناظرة التلفزيونية بين سيغان وديلانوي اللذين اتهم كل منهما الآخر بأن تمويل وعوده الانتخابية سيضره إلى رفع موازنة بلدية باريس، التي تبلغ حوالى 32 بليون فرنك فرنسي، وبالتالي تحميل الباريسيين المزيد من الضرائب المحلية. واختار رئيس بلدية باريس الحالي جان تيبيري اليمين، الذي يخوض الانتخابات مستقلاً بعد فصله من حزب "التجمع من أجل الجمهورية"، تركيز حملته على الانجازات التي حققها في المجالات كافة، منذ توليه لمنصبه عام 1995، والاحتكام إليها لقطع الطريق على ديلانوي ومنعه من الفوز برئاسة البلدية. لكن مشكلته الشخصية مع حزبه طغت على الجزء الأكبر من حملته، التي ركزت على التحذير من أن عدم التصويت له يعني هزيمة لليمين. وعلى عادتها، وعلى رغم الغياب شبه التام لقضايا الهجرة عن الحملة الانتخابية، على الأقل في باريس، عزت "الجبهة الوطنية الفرنسية" يمين متطرف تدهور الأمن في باريس إلى "الهجمات التي تقوم بها مجموعات اتنية" على أحياء العاصمة، ورأت ان هذه المجموعات هي "المسؤولة عن الأوساخ في الشوارع والاضرار التي تلحق بالحدائق وانتشار المخدرات بين طلبة المدارس". واعتبرت أن عدم السيطرة على الهجرة المتدفقة على أحياء باريسالشرقية، يشكل تهديداً حقيقياً للأحياء الغربية، طارحة مجموعة من الاقتراحات الهادفة لتطويق المهاجرين كاجراء كفيل بحل معظم المشاكل القائمة.