} تهدد مسألة القدس منطقة الشرق الأوسط بالانفجار. وأهمية المدينة المقدسة لا تقتصر على صلتها التاريخية بالوجود العربي بل تمتد لتتصل بالديانات السماوية الثلاث. و"انتفاضة الأقصى" التي اندلعت في ايلول سبتمبر الماضي ليست الأولى، فهي جاءت في سياق طويل من الأحداث بدأت بالاحتلال البريطاني، ودخول الجنرال اللنبي المدينة، وانتهاء بزيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون. كتاب "صراع الغرب على فلسطين" يبحث تاريخ المدينة المعاصر من أيام والي عكا احمد باشا في عهد السلطنة العثمانية الى سقوط المدينة بعد شهر من صدور وعد بلفور الإنكليزي. ويصف الفصل الأخير بعنوان آخر الحملات الصليبية اللحظات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى والمواجهة التي اندلعت في قناة السويس، ودور بعثات التنقيب وتحديداً لورنس العرب في استكشاف فلسطين ومواقعها الأثرية ورسم الخرائط العسكرية التي مهدت للغزو الأوروبي واحتلال القدس. مع انتهاء عام 1913 كان العالم يستعد للحرب. فالأزمات المستديمة في البلقان والتوترات المتواصلة في أوروبا ما لبثت أن أفرزت سباق تسلح غير معروف في تاريخ العالم. وتهيأت كتلتا قوة شديدتا العداء هما بريطانيا، وفرنسا، وروسيا من جهة، وألمانياوالنمسا من الجهة الأخرى، للمجابهة المقبلة وجرّتا جزءاً كبيراً من العالم الى معسكريهما. وفي اسطنبول كانت "تركيا الفتاة" راسخة في السلطة، وسعياً منها الى إعداد قواها المسلحة للاندلاع الممكن للقتال في الشرق الأوسط، وافقت على قبول مساعدة الخبراء العسكريين الألمان. كانت مضاعفات ذلك التحالف الضمني بعيدة المدى. فالحرب المقبلة كان من شأنها ان تفضي، بوضوح، الى حسم "المسألة الشرقية" مرة وإلى الأبد. في فلسطين كانت أثار الحشد العسكري التركي جليّة بصورة مرعبة. فجمال باشا، أحد أعضاء ثلاثي "تركيا الفتاة" الحاكمة، أوجد مركز قيادة عسكرية في القدس، راح ينفذ برنامج تجنيد عام، وأمر بالاعتقال والنفي الفوريين للوطنيين اليهود والعرب ممن يمكنهم ان يشكلوا خطراً. كما بادرت القوات العثمانية المتمركزة في فلسطين الى مصادرة كميات وأعداد متزايدة من المواد الغذائية وحيوانات النقل، ومع شروع التوترات العالمية بالتأثير على الحياة اليومية تملّك الأهالي جو كئيب من القلق والارتياب. أما بالنسبة الى علماء الآثار الأجانب في فلسطين، فإن التطورات السياسية والعسكرية أدت الى وقف أعمال التنقيب بصورة شبه كاملة. ومع إتمام حفريات صندوق استكشاف فلسطين الأحدث في عام 1912، لم يتابع الحفر النشيط عدا الألمان. ففي ضوء التحالف بين الأتراك والألمان باتت خطط المستقبل بالنسبة الى الاستكشاف البريطاني في فلسطين محاطة بقدر متزايد من الغموض والشك، فضلاً عن أن اللجنة التنفيذية لصندوق استكشاف فلسطين قررت إيفاد بعثة واحدة أخيرة قبل ان تؤدي الأحداث العالمية الى وقف كل شيء. بقيت منطقة واحدة فقط من "أرض الكتاب" من دون تخطيط من قبل فرقة المسح الكبير لغرب فلسطين، وكان من شأن التخطيط الناجح لتلك المنطقة أن يزود "صندوق استكشاف فلسطين" بتتويج ملائم لعملية الاستكشاف التي بدأها كل من كلارك، سيتزن، وبوركهارت قبل ما يزيد عن مئة عام. وكانت هذه المنطقة تُعرف لدى "الباحثين الكتابيين" باسم بادية صن. أو النقب عموماً، وتمتد جنوباً من بئر السبع الى خليج العقبة. كما كانت هذه المنطقة، المدروزة بالوديان الضيقة والجبال الوعرة والهضاب المقفرة، تحرس المدخل الى فلسطين من سيناء والجنوب. صحيح أن قلة من المستكشفين الغربيين انتبهت الى أهمية تضاريس النقب وآثارها القديمة، غير أن ذلك لم يكن لافتقارها الى الروابط الكتابية. فبنو إسرائيل كانوا عبروا بادية صن في طريقهم الى الأرض الموعودة، وفي عهود كتابية لاحقة، شاد الملوك العبرانيون سلسلة من الحصون هناك لحراسة طرق القوافل المهمة الممتدة من مصر الى "يهوذا". وتلك الطرق والحصون بقيت ضائعة. وفي ضوء خطر الحرب المتزايد، فإن فرصة مناسبة لتحديد أماكنها قد لا تتاح ثانية لسنوات عدة. وفي 13 كانون الأول ديسمبر من عام 1913 انطلق عالما آثار بريطانيان شابان من موقع حفرياتهما في كركامش في سورية للسفر جنوباً الى فلسطين والمشاركة في المسح الوشيك لبادية صن. ولدى وصولهما الى غزة استقبلهما نائب القنصل البريطاني ورئيس محطة جمعية الكنيسة التبشيرية اللذان زوداهما بالتعليمات التفصيلية الأولى. وكان عليهما الاتصال بعدد من فرق المهندسين الملكيين التي كانت تتقدم باتجاه بئر السبع عبر سيناء، ومع مرافقتهما للمساحين كان عليهما دراسة طبيعة البلاد، وتعقب طرق القوافل القديمة في المنطقة، وإيلاء اهتمام خاص لواحة عين قادس، التي كان كثير من "الباحثين الكتابيين" يعتقد أنها موقع نبع قادش برنيع، الذي بعث موسى منه جواسيسه الى أرض كنعان. كان عالما الآثار الشابان اللذان استخدمهما "صندوق استكشاف فلسطين" لهذه المهمة، يملكان وثائق مثيرة تدعو للثقة وينتظرهما مستقبل مشرق. فأحدهما، ليونارد وُلي، كان سيحقق، وفي حياته المهنية اللاحقة شهرة عالمية بوصفه منقب مدينة أور في بلاد ما بين النهرين. أما زميله، الذي كان اسمه تي.اي.لورنس، فكان سيجد الشهرة في مجالات أقل تحلياً بالصفة الأكاديمية البحثية. طاف لورنس عبر فلسطين من قبل. ففي عام 1909 أمضى، وهو في الحادي والعشرين من عمره، صيفاً، مستكشفاً حصوناً صليبية خَرِبة ومواقع استراتيجية متقدمة في شمال البلاد، وكانت أطروحته في جامعة أكسفورد بعنوان "تأثير الحملات الصليبية على هندسة العمارة العسكرية الأوروبية" نتاج ولعه بالآثار وانبهاره بالاستراتيجية العسكرية. وكان يأمل سراً في أن يوفر له مَسْح بادية صن فرصة إضافية للجمع بين تينك الهوايتين، لأن المنطقة المرشحة للمسح باتت ذات اهمية عسكرية متزايدة في السنوات الأخيرة. ولدى قيام إدوارد روبنسن بزيارة بئر السبع في عام 1838، لم تكن "المدينة" اكثر من مجموعة من الآبار على تخوم الصحراء. غير أن الأتراك كانوا، مع حلول الأعوام الأولى من القرن العشرين، شادوا هناك مركزاً إدارياً إقليمياً لتولي حكم منطقة النقب المستحدثة. ومع قيام البريطانيين بإحكام سيطرتهم على مصر وسيناء، بادر الأتراك، بالمثل، الى إقامة المواقع الدفاعية في فلسطين الجنوبية، منشئين خطاً من الثكنات والتحصينات العسكرية عبر المنطقة. ونظراً لأهمية هذه المنطقة الواضحة في حال نشوب اي قتال بين بريطانيا والسلطنة العثمانية، توجّس لورنس، منذ البداية، بأن تعيينه لم يكن إلا لتوفير غطاء أثري لعملية استطلاع عسكرية. ومع ذلك فإن آفاق المشاركة في مهمة سرية أثارته بوضوح. سافر لورنس وليونارد وُلي من غزة الى بئر السبع، واتصلا بالنقيب ستيوارت نيوكومب، من المهندسين الملكيين، وقاما بزيارة مجاملة للحاكم التركي. وبعد تأمين عدد من الجمال والحصول على وعد بالحماية من عدد من شيوخ البدو في المنطقة، تحرك لورنس ووُلي جنوباً بحثاً عن الآثار، في حين اضطلع نيوكومب بمهمة إدارة عمل فرق المسح. وعلى رغم ان المنطقة لم يكن فيها إلا عدد قليل من التلال، فإن لورنس ووُلي أمعنا في استكشاف الأطلال المهيبة لعدد من مدن القوافل القديمة التي شادها النبطيون خلال الحقبة الرومانية. وبعناية قاما بتصوير تلك الأطلال ضوئياً ورسم اشكالها، ملاحظين آثار شبكات المياه، وحقول الزراعة، والمباني العامة، والكنائس الأثرية الضخمة، وكلها بينات دالة على الحضارة الغنية التي ازدهرت يوماً في تلك الصحراء شبه المهجورة الآن. وعلى قمة الموقع المرتفع لمدينة نيتسانا النبطية، التي بنى الأتراك تحتها حصناً وثكنة عسكرية، توافرت للورنس أيضاً فرصة معاينة خط الصحراء الدفاعي العثماني عن كثب. ومن ملاحظاته استنتج ان استعدادات الأتراك كانت بلا فائدة أساساً. فامتداد وتعقيد الممرات والدروب الصحراوية الممسوحة للمرة الأولى من قبل المهندسين الملكيين اقنعا لورنس بأن "الحصون لا تنطوي على أية فائدة ذات شأن في التصدي لعدو متحرك في بلاد صحراوية إذ تفضي الطرق الى الجهات كلها...". والإحاطة بفن خوض حرب عصابات في الصحراء ضد تحصينات تركية قوية وراسخة كانت في ما بعد ستُكسِب لورنس موقعاً على رأس الثورة العربية. وما لبث لورنس ونيوكومب ان انفصلا عن الآخرين لدى إتمام مسح المدن النبطية وتضاريس المنطقة، وارتحلا جنوباً لدراسة المنطقة المحيطة بالعقبة وإطلالتها على البحر الأحمر. واستكشاف هذه البقعة لم يكن مشمولاً في التصريح الممنوح لصندوق "استكشاف فلسطين"، ما أثار شبهات قائد الحامية التركية في العقبة، فمنع كلاً من لورنس ونيوكومب من إجراء اي استطلاع في المنطقة الخاضعة لسلطته. وتظاهر لورنس بالإذعان لمطالب القائد، ولكنه نفذ، على رغم ذلك، استكشافاً ليلياً خطراً بالقرب من قلعة إيل دو غري الصليبية الخربة، على مسافة بضعة اميال الى الجنوب من العقبة. وهذه كانت محاولته الوحيدة من هذا القبيل. فمخطط تحديد أماكن أودية غير معروفة من قبل تفضي الى خليج العقبة كان لا بد من إلغائه نظراً ل "أن أوضاع البلاد لم تكن مناسبة للاستكشاف" كما جاء في تقويم لورنس الهادئ. صحيح ان العناصر الآثارية والاستراتيجية لمسح "صندوق استكشاف فلسطين" باتت مطموسة بصورة متزايدة، غير أن نجاحه العام كان جلياً. فمع حلول شهر حزيران يونيو 1914 سَرّ كلاً من وزارة الحرب وصندوق استكشاف فلسطين أن يسمعا من النقيب نيوكومب أن "جميع الطرق عد عُلّمت على خريطة جديدة، ومعلومات مهمة معينة جرى الحصول عليها". تمت عملية مسح فلسطين الغربية. فامتداد فلسطين كله من الجليل الأعلى في الشمال الى مشارف العقبة في الجنوب كان جرى رسم خرائطه بعناية من قبل مساحي ومستكشفي "صندوق استكشاف فلسطين". ومع البعثة الأخيرة كانت القطعة الأخيرة دُست اخيراً في مكانها المحدد من المتاهة. بعد الإعلان عن إتمام مسح بادية صن بأقل من شهر، انزلق العالم في الحرب التي طالما هددت بالاندلاع على امتداد عقود من الزمن. ففي غضون خمسة اسابيع من اغتيال ولي العهد النمسوي فرانز فرديناند في سراييفو، أعلنت النمسا الحرب على صربيا، وغزت الجيوش الألمانية بلجيكا، وتورطت أوروبا بأسرها في النزاع. مفترضة ان الحرب كان من شأنها ان تمتد بسرعة الى الشرق الأوسط بدأت السلطنة العثمانية تعبئة سرّية لجيوشها وعقدت اتفاقاً غير معلن مع حليفتها العتيدة ألمانيا. كان الاختيار واضحاً. وعلى رغم أن الأتراك كانوا يعلمون ان من شأن انتصار ألمانيا في الحرب أن يحيل السلطنة الى ما ليس أكثر من كيان دائر في فلك ألماني، فإن ذلك الاحتمال كان أفضل من التعرض للتقطيع على أيدي بريطانياوفرنساوروسيا. وعلى المدى الأقرب وعدهم الألمان بإعادة اقليم مصر الذي اقتُطع من السلطنة منذ ايام نابليون. وبالتالي سمح الأتراك للبوارج الحربية الألمانية بالمرور عبر الدردنيل فدخلوا الحرب علناً في تشرين الثاني نوفمبر من عام 1914. وفيما كان الأتراك في فلسطين يستعدون لإنزال ضربة بالبريطانيين في مصر قطعوا اتصالاتهم كلها بالغرب. وخلال فصلي خريف وشتاء عام 1914- 1915م، أخذت القوات التركية مواقعها على امتداد حدود سيناء فيما بدأت سيول التعزيزات تتدفق على فلسطين نفسها. ومقر قيادة الجيش الثامن التركي أُقيم في القدس، وقامت قيادة عليا ألمانية - تركية مشتركة بوضع خطة المعركة. والقادة في القدس أصابوا حين أدركوا ان قناة السويس كانت قلب استراتيجية الحرب الملكية البريطانية فأعدوا قواتهم لمهاجمة الممر المائي وتعطيله. في أواسط كانون الثاني يناير من عام 1915، اندفعت قوة تركية مؤلفة من حوالى مئة ألف جندي محتشدة حول بئر السبع الى قلب سيناء. لم يقلل عدم نجاح هذا الهجوم من أهميته الاستراتيجية بنظر الجنرال الألماني كرس فون كرسنشتاين، الذي أمر بهجوم آخر، أقوى، على القناة في صيف عام 1916. وهذه المرة كانت قوات صاعقة تركية مؤلفة من خمسين ألفاً، معززة بفرق رشاشات ألمانية، وبمدفعية ثقيلة، وبطائرات، رُدت على أعقابها بعد محاولتين يائستين لاختراق الدفاعات البريطانية حول قناة السويس. ولكن مأزق الجبهة الشرقية طويل الأمد بات واضحاً، فطالما بقيت قوات معادية في فلسطين، لا بد من أن محاولات إضافية ستُبذل للنيل من عصب حياة الامبراطورية البريطانية. ما لبث الفيلد مارشال هوراشيو كيتشنر، مستكشف "صندوق استكشاف فلسطين" السابق، ووزير الدولة الحالي لشؤون الحرب، أن رأى أن تحركاً جريئاً ما كان مطلوباً، وهو الذي طالما أدرك الأهمية العسكرية لبرنامج "صندوق استكشاف فلسطين" الخاص بوضع الخرائط. كما فعل الصندوق نفسه، في الحقيقة، في وقت مبكر يعود الى عام 1915. كتبت "النشرة الربعية" تقول: "إن المسح، ووضع الخرط، وكل ما من شأنه ان يسهم في تحقيق معرفة افضل لأي بلد، ولموارده، ولأهله، تنطوي، كما نرى بوضوح، على أهمية عملية كبيرة جداً، وما أنجزه صندوق استكشاف فلسطين كان مفيداً من نواح كثيرة لقضايا نثمنها، ولسنا بحاجة لتعدادها تخصيصاً...". وتم استدعاء كل من نيوكومب، ولورنس، ووُلي جميعاً للخدمة في جهاز الاستخبارات التابع للقوات البريطانية في مصر لدى اندلاع الحرب، والعملية الأخيرة لرسم واستكمال خرائط بادية صن كانت احتلت أعلى مراتب الأولوية. وتلقى المشتركون في "صندوق استكشاف فلسطين" نسخاً من التقرير الأثري لذلك المسح، إذ لن يجد الأتراك شيئاً كثيراً يساعدهم". غير أن باقي المادة بقي سراً عسكرياً. ومما قاله امين السر الفخري الجديد تشارلز وطسن: "نحن لا نريد ان يحصل الأتراك على خرائط قد تفيدهم في محاولاتهم الهزيلة الرامية الى الوصول الى مصر". مع ذلك فإن الآفاق على المدى الطويل لم تكن مظلمة قط بالنسبة الى الصندوق. ففي اجتماع عقد احتفالاً بالذكرى السنوية الخمسين لتأسيس الصندوق علق رئيس أساقفة كنتربري قائلاً: "لن تتاح بعد الآن فرصة أفضل لدراسة أشياء وجدنا حتى الآن أنها صعبة الدراسة". أما في ذلك الوقت، فقد كان على مساعي "صندوق استكشاف فلسطين" أن يعلق بيع كل خرائطه ونشراته الجغرافية، وبادر قادة الصندوق الى الامتثال للطلب. وهم حين فعلوا ذلك، إنما كانوا يعبرون عن امتنانهم الراسخ منذ أمد طويل للمهندسين الملكيين الذين أنجزوا هذا القدر الكبير من عملهم ويتطلعون الى الوقت الذي سيتم فيه استئناف الاستكشاف البريطاني للأراضي المقدسة من "دون تأخيرات رسمية طويلة". جاء صيف عام 1916 ليشهد وفاة اللورد كيتشنر على ظهر باخرة الملك المعروفة باسم هامبشاير التي كانت في مهمة الى روسيا، وانعطافاً حاسماً نحو الأسوأ في مجرى الحرب بأوروبا. غير ان التأييد لفكرة كيتشنر القائمة على إمكان كسر الجمود في خنادق فرنسا عن طريق إحراز انتصار صاعق في الشرق الأوسط ما لبث ان تنامى مع سقوط حكومة اسكويث المحافظة وتولي ديفيد لويد جورج منصب رئيس الوزراء. ثمة آفاق واعدة لاحت حول قيام ثورة عربية ضد الأتراك في شبة الجزيرة العربية، والضعف المحتمل للعثمانيين في فلسطين أقنع الحكومة البريطانية بأن الوقت حان لقبول نصيحة كيتشنر، بعد وفاته، والمبادرة الى استئصال الخطر المهدد لقناة السويس استئصالاً لا عودة بعده. بادرت قوة "الحملة المصرية" من الجيش البريطاني، مسلحة بالدعم الكامل من جانب حكومة لويد جورج، الى الخروج من قواعدها في سيناء لدى حلول آخر شهر كانون الأول من عام 1916. واتبعت القوة الطريق التي اعتمدها نابليون بونابرت في عام 1799 ذاتها، فاحتلت العريش ورفح من دون ان تواجه الا القليل من المقاومة. وبالتالي فإن شبه جزيرة سيناء كله بات الآن تحت السيطرة العسكرية البريطانية الراسخة، غير أن ذلك الاجتياح بقي عديم الفائدة، ما لم تتوافر إمكانات احتلال الجزء الجنوبي من فلسطين أيضاً. لقيت قوة الغزو البريطاني مقاومتها الحازمة الأولى في غزة. فالمدينة المرفئية القديمة كانت محاطة بخنادق محصنة تحصيناً قوياً، وتم صد الهجوم البريطاني الأول مع تكبيده خسائر كبيرة. كان فصل الجفاف يقترب بسرعة مما جعل تحقيق فوري للأهداف العسكرية للحملة امراً ضرورياً، قبل أن يصبح الحر والعطش أخطر عدوين بالنسبة الى البريطانيين. ولتسريع الأمور اصدر قائد قوة الحملة المصرية، سير ارتشيبالد موري امراً قضى بجلب مؤن وتعزيزات جديدة الى الجبهة على خط حديد تم مده عبر سيناء. وفي نيسان ابريل صدر امر بشن هجوم آخر على غزة، ولكن مواقع العدو كانت الان أقوى أيضاً، بعد ان جرى تعزيزها بوحدات فيلق آسيا الألماني، فأثبتت انها مستعصية على البريطانيين في الهجوم الثاني، مرة اخرى كانت الخسائر البريطانية كبيرة، ومثلما حصل مع نابليون، فإن زخم الاقتحام ما لبث ان تلاشى بين ثنايا حصار مكلف. صدمت هذه الهزيمة غير المتوقعة في معركة غزة الثانية الحكومة البريطانية، وأثارت غضبها، وجعلتها أكثر تصميماً من أي وقت مضى على تحقيق نصر معين في فلسطين. فالجنرال موري جرى إعفاؤه من قيادة قوة "الحملة المصرية" وتم استبداله بالجنرال إدموند اللنبي، وهو قائد صارم حصل على لقب "الثور" في خنادق الجبهة الغربية ومجالها الضيق المحصور. ومنذ تعيين اللنبي توقفت أوجه الشبه مع الغزو النابليوني لفلسطين كلها. وكان سيتم توفير كل ما هو ضروري لتحقيق النصر. ولدى اجتماعه باللنبي قبيل مغادرة الأخيرة لإنكلترا، كان رئيس الوزراء كشف صراحة عن نيات الحكومة البريطانية. وكان يتعين على الثور ان يكرس كل طاقته في الأشهر القليلة المقبلة على إعداد هدية ميلاد مناسبة للشعب البريطاني. فحسب تأكيدات لويد جورج كان لا بد من احتلال مدينة القدس مع حلول نهاية العام. ما إن وصل اللنبي الى مصر في حزيران عام 1917، حتى نقل مقر قيادة قوة "الحملة المصرية" من رخاء القاهرة الى قسوة جبهة سيناء المغبرّة. وما لبث ان رأى بسرعة ان من شأن أي هجوم آخر مباشر على الخنادق المحيطة بغزة ان يكون محكوماً بالإخفاق، غير أنه لاحظ إمكان العثور على نقطة ضعف تركية في الطرف الشرقي من الخط التركي إذ انتهى عند بئر السبع في أرض كانت فرقة مسح بادية صن استكشفتها قبل أقل من أربع سنوات. وفي آب اغسطس علمت القيادة البريطانية ان لورنس على رأس عصبة من البدو غير النظاميين، نجح في الاستيلاء على ميناء العقبة وأسر المدافعين الأتراك. ولورنس هذا كان في العقبة من قبل ومن المؤكد ان استكشافه الوجيز للمنطقة وفر أحد مفاتيح انتصاره. وعكف اللنبي على دراسة منشورات "صندوق استكشاف فلسطين" جنباً الى جنب مع مكتبة واسعة من المؤلفات التاريخية الكتابية والصليبية، حتى أصبح، مع حلول فصل الخريف، مستعداً لتنفيذ خطة جريئة. في 31 تشرين الأول تعرضت الدفاعات التركية المحيطة بغزة لقصف مكثف من جانب الأسطول البريطاني، في تمهيد واضح لهجوم جديد. وفي اليوم نفسه اكتشف الحراس الأتراك، بعيداً الى الشرق من أطراف بئر السبع، حقيبة وثائق سقطت من عنصر استطلاع بريطاني هارب. وبين الأوراق الموجودة في الحقيبة كانت خطة حربية بريطانية، سرية ظاهرياً، تفصّل تحركات قوات كبيرة تمهيداً لهجوم وشيك على غزة. ورداً على هذه المعلومات الاستخباراتية، سارعت قوات تركية الى التحرك فوراً من بئر السبع غرباً لتعزيز الخنادق في غزة، تاركة بئر السبع نفسها دونما أية حماية تقريباً. تم جلب حشد كبير من القوات البريطانية، سراً عبر الصحراء، إشارة الى الهجوم. وقامت هذه القوات مسترشدة بخرائط تضريسية دقيقة، باحتلال آبار المدينة الحيوية في حركة سريعة كالبرق، وبإخلاء مربض رماة رشاشات ألمان من تل السبع الواقع الى الشمال من المدينة، وبإجبار القوات التركية المتبقية على الانسحاب العشوائي غير المنظم. بعد تحطيم خط الدفاع العثماني في الشرق، بادر اللنبي الى إطلاق هجوم استهدف غزة نفسها. وكانت قوة الحملة المصرية مزودة للمرة الأولى، بالطائرات لأغراض الدعم والاستطلاع، بينما اثبتت الدبابات المصفحة، التي لم يسبق لها ان استُعملت في الأراضي المقدسة من قبل، إنها شديدة الفعالية في عملية الانقضاض على الخنادق المحصنة بكثافة، والتغلب على مقاومة رماة الرشاشات الألمان والنسمويين. وفي فترة زادت قليلاً عن أسبوع كان خط الدفاع التركي انهار، وأمر اللنبي قواته بمطاردة العدو بالسرعة القصوى شمالاً على امتداد الساحل. كان الكثير من اسماء المكان المذكورة في التقارير الحربية المثيرة الآتية من الشرق مألوفاً بالنسبة الى قراء صحف "صندوق استكشاف فلسطين" وتقاريره. ففي 11 تشرين الثاني نوفمبر من عام 1917 قامت القوات البريطانية باحتلال تل حاسي، وبعد أقل من أسبوع تمكن فصل آخر من قوات اللنبي من إخلاء تل جازر من المواقع الألمانية التي كانت أقيمت بين مخلفات خنادق وأثلام مكلستر الأثرية. وبينما تابع الألمان والأتراك تراجعهم، كسب البريطانيون مزيداً من الأراضي في سائر أرجاء فلسطين الشمالية، فارضين سيطرتهم على المناطق التي كان علماء الآثار أشبعوها استكشافاً. وبعد التوجه شرقاً من يافا والتقدم للتوغل في أعالي مرتفعات "يهوذا"، وجه اللنبي قواته نحو التركيز على الهدف الرئيسي: القدس. بعد معركة بئر السبع واحتلال غزة ما لبث جو من الرعب والفزع شبه الكامل ان سيطر على القيادة العليا التركية - الألمانية في القدس. فالمدينة كانت ملأى بأسرى الحرب والجرحى من الطرفين، والقسم الأكبر من السكان المحليين عانوا مما يشبه المجاعة. والقوات البريطانية كانت تتقدم من الغرب، والجنوب، والشمال حين أصدر جمال باشا، في مواجهة احتمال الهزيمة الوشيكة، أمراً قضى بالجلاء التركي عن المدينة بادر ضباط اركان مقري القيادة الألمانية والتركية الى مصادرة السيارات، العربات البدائية، وحتى الجمال، لنقل الأثاث، والسجاد الشرقي، والسجلات الرسمية، والسبائك الذهبية، في أثناء الانسحاب المذعور الى دمشق. وكل ما له قيمة ولم يستطيعوا أخذه معهم خبؤوه أو حطّموه. وهكذا فإن نُزُل أوغسطا فكتوريا الفاخر ذات يوم على جبل الزيتون، الذي كان مجهزاً لصالح الألمان بأضواء كاشفة ومدافع مضادة للطائرات، بقي الآن خالياً ومهجوراً، إلا من العدد القليل من الشمّاسات اللوثريات اللواتي كنّ يخدمن القيادة العليا الألمانية. وبالقرب من بوابة يافا كانت ثكنات الحامية التركية، التي شكلت مركز السلطة العثمانية في القدس منذ عام 1516 سائبة من دون حراسة. بدا وكأن كل أثر للحكم التركي في القدس تم تكنيسه بصورة مفاجئة. مع حلول اليوم التاسع من كانون الأول، كانت الفلول الأخيرة للقوات التركية جَلَت عن القدس، وبقي السكان وحدهم لفترة وجيزة من الوقت، منتظرين الهجوم البريطاني النهائي. وبقي رئيس البلدية المدني الحاج أمين النشاشيبي المصدر الرسمي الوحيد للسلطة. وفيما كانت القوات البريطانية تطوّق المدينة والقناصة الأتراك يلوذون بالمخابئ، استعار النشاشيبي شرشفاً من البعثة الأميركية وخرج من المدينة عبر بوابة يافا، متبوعاً بحفنة صغيرة من الصبية المحليين. وعلى جرف صخري قاحل عند أطراف المدينة تعثر الوفد المتواضع بكشافين مذعورين من البريطانيين. تبودلت بضع كلمات بالإنكليزية المكسرة حتى باتت نيات رئيس البلدية واضحة، جاء الرجل ليُسلّم المدينة. وفي غضون ساعات قليلة شقت فصائل كبيرة من القوات البريطانية طريقها الى داخل المدينة على أصوات تهليل وصلوات شكر سائر الجاليات الدينية. وجال الضباط البريطانيون على المدينة واتخذوا ترتيبات أولية لاحتلال عسكري، اما المقدسيون المساكين فرحبوا بكل ما استطاعوا من حماس بالجنود البريطانيين القادمين. وتطلعت كل واحدة من الجاليات بأمل الى التلبية الوشيكة لطموحاتها القومية. فالمسلمون المنتشون بنجاح الثورة العربية ضد الأتراك، وبالتأييد البريطاني، نظروا الى القوات البريطانية القادمة نظرتهم الى حماة دولة عربية مستقلة. أما الأكثرية الصهيونية من السكان اليهود فقد حيوا الغزو البريطاني بوصفه خطوة كبرى على الطريق الى الوطن القومي الذي وعد به وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور قبل أقل من شهر. والجالية المسيحية التي طالما كانت رهينة بيد السلطة الإسلامية بادرت الى رفع صلواتها الخاصة بالمشبعة بالارتياح. في 11 كانون الأول 1917 وصل الجنرال ادموند اللنبي الى بوابة يافا في موكب نصر رمزي. ومترجلاً عن جواده ورافعاً قبعته العسكرية عن رأسه، خطا عبر بوابة يافا بينما كان برج الساعة ونواقيس الكنائس في المدينة تدق مدشنة بداية حقبة جديدة. وعلى أدراج القلعة التركية قرأ بياناً موجهاً الى سكان القدس المباركة اكد فيه على ان قوة الاحتلال ترمي الى الدفاع عن حرية كل الطوائف الدينية وتحرص على حماية المزارات المقدسة لكل منها أشد الحرص. وبعد ذلك، في الباحة المكشوفة للحامية التركية، حيث كانت الميليشيا الانكشارية العثمانية تمارس هيمنتها على أهل المدينة منذ قرون عدة، قدم اللنبي رسمياً تحياته الى كبار الحاخامين، والمفتي، والمطارنة اللاتين والأرثوذكس، وقادة كل الأديان والمذاهب والطوائف الأخرى في المدينة. ومع حلول شهر أيلول سبتمبر التالي كان احتلال الأراضي المقدسة اكتمل بالانتصار البريطاني في معركة مجدُّو، موقع الحفريات الألمانية ورؤيا هر مجدون. وهكذا فإن مسعى العالم المسيحي القديم قدم الزمان للسيطرة على الأراضي المقدسة تكلل بالنجاح. وبالتالي فإن الحملات الصليبية انتهت أخيراً على ما بدا. الكتاب: بحثاً عن إله ووطن صراع الغرب على فلسطين وآثاره 1799- 1917. الكاتب: نيل سليزمن ترجمة: فاضل جتكر مراجعة: زياد متى إصدار: دار قدمس للنشر، دمشق 2001.