في مراجعة نقدية للسجالات الفكرية والايديولوجية على الساحة العربية في الثلث الأخير من القرن الماضي يتبين ان باعثها ومحركها الأساس انما كان ولا يزال في الصراع على التنوير من كل وجوهه وتجلياته، من الصراع على الديموقراطية والعلمانية والاعتراف بالآخر، الى الصراع على القومية والوطنية والعدل السياسي والاجتماعي، الى الصراع على مفهوم الانسان وموقعه في النظام الكوني وتاريخية النظم والأحوال والأفكار التي بها ومن خلالها يتفاعل مع هذا النظام الكوني ويؤكد وجوده وغايته. هذه الصراعات ما هي في الحقيقة إلا تجلٍّ للإشكالية المركزية في الفكر العربي المعاصر، اشكالية الصراع على العقل ومرجعيته. هل يُحتكم اليه أو الى ما دونه أو ما عداه أو سواه من مرجعيات سياسية وايديولوجية وايمانية. والعرب الذين ولجوا اشكالية التنوير من جانبها الإصلاحي لم يذهبوا في تبنِّيهم التنوير الى حدّ الاحتكام المطلق لسلطة العقل أو التشكيك في الدين ومسلماته. وانما جاءت أفكارهم التنويرية والعقلانية ردَّاً على تخلُّف القرون الوسطى واستبدادها السياسي. ولم يكن ثمة تعارض في نظر أكثرهم بين العلم والدين، بينما التوفيق بينهما ممكن وبديهي. العقلانية التنويرية النهضوية العربية ظلَّت - عدا استثناءات محدودة - في هذا الاطار التوفيقي لم تتجاوزه الى حد الشجاعة على استخدام العقل في الاتجاه الذي تطلع اليه فكر التنوير الغربي. إلا ان نهايات القرن العشرين مع ذلك عرفت ما يشبه الانقلاب على المنحى التنويري في فكر النهضة العربية ان على أرض الممارسات الواقعية وان في الفكر والثقافة، حيث حصل تراجع في تداول السلطة وفي واقع المرأة وفي حقوق الإنسان العربي عامة بالترافق مع ردّة على مسلّمات التنوير وبداهاته، فرفضت الثقافة الغربية باعتبارها غزواً يهدد القيم ويمهد لانحطاط أخلاقي وهيمنة استعمارية، ونُظر بالريبة والشك الى العلمانية والديموقراطية بوصفهما مروقاً أو أفكاراً وافدة غريبة عن التاريخ العربي، وطُرح البحث عن "مشروع حضاري بديل"، وصولاً الى المصادرة والسجن والنفي والاغتيال واعادة محاكمة رموز التنوير من جديد. نموذجان ما كتبه جلال أمين في "قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر" مركز دراسات الوحدة العربية 1999، يمثِّل نموذجاً معبِّراً لنقد التنوير. يقول أمين: "كل هذه الشعارات التي رفعها تنويريو الغرب - الحرية، التسامح، العقلانية، الموضوعية - كانت لها لدى الغرب استخدامات معينة وحدود لا تتعداها، وتفسيرات تناسب الظروف التي نشأ فيها التنوير في الغرب ولا تناسبنا نحن". ويستطرد أمين ليثير الشك في "السياسة الاقتصادية الغربية التي طبَّقت مبدأ الحرية الاقتصادية، وفي التنظيم السياسي الذي اعتبر نظام البرلمان الغربي أعلى صور الديموقراطية، وفي تبنّي فكرة الدولة الوطنية باعتبارها المحل الأسمى لولاء الفرد". نموذج معبِّر آخر كتبه عبدالغفار مكاوي، في حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، 1993. يقول مكاوي: "لقد دمَّر التنوير نفسه وانتهى الى البربرية. ولم تأت هذه البربرية من أعداء الحضارة والإنسانية، ولا من قوى خارجية، بل جاءت من العقل نفسه. ومن ثم لم تكن النزعة الشمولية والتسلطية في النظم المختلفة وليدة اتجاهات لا عقلية. وانما نشأت عن "التنوير" الضارب بجذوره في العصر الأسطوري وفي منطق أرسطو وذاتية ديكارت". هذان النموذجان يمثّلان اتجاهاً نقدياً للتنوير في الفكر العربي الراهن يؤكد أولاً: عدم ملاءمة قيم التنوير الغربية - الحرية، الديموقراطية، التسامح، العقلانية، الموضوعية - للواقع العربي باعتباره مختلفاً اختلافاً جذرياً عن الغرب، وربط هذه القيم بالحضارة الغربية والتاريخ الغربي تحديداً. وثانياً: رفض الشكل المؤسس للديموقراطية الغربية المتمثِّل في المجالس النيابية والحرية الاقتصادية والدولة الوطنية. وثالثاً: القاء تبعة النظم الشمولية والتسلطية والعنصرية على العقل والعقلانية وتحويل فلسفة التنوير الى قفص الاتهام فيما آلت اليه الحضارة الغربية من حروب ونزاعات دموية. حتى لا نوضع في موقع الدفاع عن الغرب، لا ننكر ما طرأ على الحضارة الغربية من انحراف أورث الحرب والخراب والعنف الدموي إلا اننا لا نستطيع إلا ان نتساءل: لماذا يُركَّز على نقد التنوير في هذا المنعطف التاريخي بالذات؟ وما الهدف من نقد الديموقراطية والعقلانية تحديداً؟ هل تطورت مجتمعاتنا وتطوّر التفكير العقلاني عندنا الى حد طرح الديموقراطية والحرية والعقل ذاته على بساط البحث والتساؤل؟ لا ريب في ان طرح الأمور على هذا الشكل يهدف الى طمس الأسئلة التي يثيرها العقل في وقت بات القمع والاستبداد ونفي الآخر سمة الأنظمة التسلطية العربية بعد ان سقطت في ميدان التنمية والتحرير ولم تفلح في أن تقدم لجماهيرها غير الأمية والأوهام والبؤس الاجتماعي. وكذلك لا بدّ من أن يؤدي شعار التنوير "لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك" الى تعرية الوصاية التي تمارس على الفكر باسم الأصولية والى تهافت الأسس التي تقوم عليها الامتيازات السياسية والاجتماعية والطبقية. ان نقّاد التنوير والعقلانية لا يجهلون حتماً ما تحقق بهما للإنسانية وللعرب كذلك، من تقدم في كل المجالات، وهم لا يجهلون حتماً ان استبعادهما يكرِّس الخلل في العلاقة بين السياسي والديني ويمدِّد أجل الدولة التسلطية ومعها أجل كل الذين يبنون سلطانهم وامتيازاتهم على تغييب العقل وقمعه. ها هنا سر معاداة العقل في نظرنا. ومن هنا يجب ان تبدأ المواجهة. * كاتب لبناني.