"ليس أقل من حظر انتقال الحيوانات والمزارعين وتجار المواشي وكل ما يتصل بالحقول والبراري، أي في اختصار عزل الريف البريطاني، وربما بعض مناطق مدنية لها علاقة بالزراعة... بل لعل ذلك كله لن يفلح في وقف هذه الكارثة!". بدا تشاؤم البروفسور تيموثي لانغ، الاختصاصي في التدجين من جامعة تايمز فالي، بامكان السيطرة على الموجة الحالية من وباء الحمى القلاعية، متوازياً مع حال الاستنفار الكامل الذي سيطر على الاجتماع الطارئ ل"لجنة الخمسة"، أي وزراء الزراعة في الدول الكبرى في القارة الاوروبية، الذين التقوا في بروكسل أول من امس، واطلقوا موجة اجراءات شددت الحظر والحصار على المواشي البريطانية، في ما يشبه أوضاع حرب حقيقية، مترافقة مع اجراءات مماثلة في الولاياتالمتحدة. ويبدو ان الحذر وحده لا ينفع، فالفيروس الضاري نجح في عبور بحر المانش ووصل الى قلب اوروبا .... علماً أن الحظر فُرض فوراً على الماشية البريطانية منذ اكتشاف الإصابة الأولى لهذا الوباء، واحرقت فرنسا عشرة آلاف رأس ماشية جُلبت قبل شهر من انكلترا وهي تنوي القضاء على عشرة آلاف أخرى، وتخلصت المانيا وهولندا من 3500 رأس مشابهة... إضافة الى حال الهلع التي سيطرت على الجمهور العام في اوروبا وخارجها، وصرفته عن استهلاك لحوم الماشية. وظهرت اصابة واحدة بالحمى القلاعية في المانيا، وهذا مؤشر خطر تماماً. فالموجة السابقة للمرض في انكلترا، قبل ثلاثين عاماً، ابتدأت بإصابة واحدة، ثم التهمت مئات آلاف المواشي وكلفت عشرات الملايين من الجنيهات الاسترلينية! فما هي املاءات هذا الوضع على صناعة الماشية في انكلترا واوروبا وربما في العالم؟ ولماذا تبدلت صورة التدجين وصناعته الى مصدر مقلق لمخاطر تهدد صحة الانسان. وقد جاءت الحمى القلاعية عقب "جنون البقر" و"حمى الوادي المتصدع" و"فيروس غرب النيل"...الخ؟ وقبل ذلك، كان العلم الطبي شرع في التنبه الى ظاهرة عودة الأمراض الوبائية التي لكثير من جراثيمها منشأ حيواني. وفي حديث الى برنامج خصصته شبكة "سي ان ان" لمناقشة هذا الوباء المجتاح، لاحظ البروفسور لانغ ان الموجة السابقة من الحمى القلاعية سهل احتواؤها لأن درجة تطور المواصلات العامة وحركة انتقال البشر والماشية وعدد مزارع تدجين الماشية وتكثيرها، كانت اقل من الوضع الحالي بما لا يقاس. حتى ان فيروس الموجة الحالية هو من النوع "او" الذي اتى الى بريطانيا من اوروبا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية. اذاً، تؤدي العولمة دوراً في انتشار الحمى القلاعية، تماماً كالقول عن انتشار فيروس حمى وادي النيل في نيويوركوفرنسا، نهاية القرن العشرين. ويمثل تحول التدجين صناعة كثيفة موسعة، ومغرية للتوظيف المربح، الذراع الثانية في تبدل العلاقة مع المواشي، بما في ذلك الطيور والدجاج وما اليها. وفي وقت مماثل من السنة الفائتة، ثارت أزمة الدواجن الفرنسية والبلجيكية التي ثبت أن أرباب الصناعة دأبوا على خلط اعلافها مع مخلفات الصناعة. وبات معروفاً أن خلط اعلاف الابقار بهياكلها العظمية وغيرها من المخلفات البيولوجية، يشكل عنصراً مهماً في جعل "جنون البقر" مرضاً يصيب الانسان والحيوان، على حد سواء. وإذا كانت معدلات التكاثر المرتفعة في البشر، مع الميل المتنامي الى العمران المستقر والمتحضر، سبباً في تزايد الطلب على اللحوم، خصوصاً الرخيصة منها، فان صنعة التدجين والتكاثر الحيواني المكثف باتت محلاً للخطر. وتعج الارض بملايين القطعان التي تشارك البشر في المساحات الصالحة للعيش والكلأ والماء، وتلوث نفاياتها مياه الشرب والري، والأخطر انها باتت مرتعاً للفيروسات والاوبئة. فهل تحمل الحمى القلاعية بداية النهاية لصناعة التدجين؟ وهل نشهد عودة قوية الى أساليب التدجين "التقليدية" لزمن ما قبل الصناعة؟