يحدث ان يُقيّد الكاتب مخيلته الأدبية الى طور المراهقة أو سن الشباب. ويحدث ان يحصد شهرة واسعة بفضل رواية تقدم صورة غير متداولة لجيل من الاجيال. غير انه مع انقضاء السنين لا بد لمثل هذا الكاتب من مواجهة احدى حقائق الحياة البسيطة، والقاسية: حلول طور الرجولة الذي لا مفرّ منه. وإنه لمن الوارد جداً الاّ يكون الكاتب، ولا شخوص قصصه، مؤهلين لمواجهة هذه الحقيقة بما يؤدي الى وقوعهم جميعاً أسرى حالة تثبيت او حالة تشرد عاطفيّ وانعدام هوية. وكمثال على ذلك، فإن العزلة المبكرة التي لجأ اليها الكاتب الاميركي ج. د. سالنجر، ما هي، بحسب الاخبار الرائجة عن حياته، الاّ مظهر من مظاهر العجز عن مواجهة هذه الحقيقة. وسالنجر هو مؤلف "الحارس في حقل الشوفان"، احدى اهم الروايات المعنية بسن المراهقة وما ينطوي عليها من قلق واضطراب. وكما نعلم، فإن هولدن، بطل الرواية، يعلن رفضه لعالم الكبار باعتباره عالماً قاسياً وفاسداً. وهو الموقف الذي يُعزى الى الكاتب نفسه بعدما اقلع عن الكتابة وآثر الخلود الى عزلة تامة. والكاتب البريطاني حنيف قريشي يواجه المحنة نفسها. لقد اشتهر قريشي بمسرحيات وروايات وافلام سينمائية كان لها الفضل في تقديم صورة للاجيال البريطانية الشابة غير متداولة. بل ان روايته الاولى "بوذا الضواحي" تعتبر القصة النموذجية لجيل عقد السبعينات. ومن حيث انه ثمرة زواج الثقافتين الانكليزية والآسيوية وهو باكستاني الاب فقد افلح في اضافة بعد آخر الى هذا الضرب من الادب لم يكن متوافراً في اعمال من سبقه من الكتّاب البريطانيين. ففي روايته الثانية "ألبوم أسود"، كما في قصته القصيرة التي حوّلت الى فيلم سينمائي ناجح "ابني المتعصب"، نقع على صورة غير مسبوقة للجيل الجديد من الآسيويين البريطانيين الذي افضى به العجز عن استيعاب الهوية المعقدة التي يمثلها الى ان يقع فريسة سائغة بأيدي المتطرفين الدينيين. لكن اهتمام قريشي بمسألة الهوية او ازمة الانتماء، أو الى ما هنالك من قضايا ما برحت تُثار، لم يصدر يوماً عن اهتمام مسبق بالقضايا الثقافية والاجتماعية إن بالنسبة الى الآسيويين ام الى غيرهم. كما ولا يصدر عن التزام سياسي بقضايا هذه الجالية. فقريشي يعتبر نفسه بريطانياً، بل وانكليزياً كأي انكليزي آخر. وهو لا ينفك يروي كيف كان يتساءل في صباه عن سرّ عزوف اترابه البيض، من أتباع "الجبهة الوطنية"، العنصرية والمعادية للمهاجرين، عن اخذه معهم في طلعاتهم "الطقوسية" التي يَعْمَدُون خلالها الى الاعتداء على المهاجرين الباكستانيين. وهذا التساؤل لا يدل فقط على ان قريشي كان يحسّ بأنه لا يختلف عن اترابه البيض في أي شيء، وانما يبيّن حاجة المراهق البريطاني، الذي ما برح بطلاً لقصصه، الى انتماء ما ومن اية طبيعة كان. وعلى ما يُستشف من قصصه فكلما تمتع هذا الانتماء بطابع طقوسيّ موحّد، اي بمسلك وملبس ولغة ومعتقد من طراز واحد، كلما بدا هذا البطل على انسجام مع عالمه الشبابيّ. وشخوص قصص قريشي انما ينتمون الى جماعات شبابية، فهم جيل اواسط السبعينات وعشاق اغاني ديفيد بوي وقراء روايات كامو وسالنجر وجاك كيرواك. وهم سوية يتعاطون المخدرات، ويتسكعون بالقرب من "نوتينغ هيل"، احدى المناطق الذائعة الصيت في العاصمة البريطانية، ويترددون على نوادي الرقص، ويختلفون الى المقاصف والمقاهي الاميركية الشكل. إضافة الى ان جلّ هؤلاء الشخوص من ابناء الطبقة المتوسطة. وهذا كفيل أن يضمن لهم الحسّ بالامان في هذا الطور من حياتهم. ف"البوهيمي" في رواية قريشي، سواءً كان طالباً جامعياً ينتمي الى منظمة "تروتسكية" تزعم العمل على تقويض اركان نظام "الطبقة الحاكمة"، ام كان محض عازف موسيقي في احدى فرق الهواة المنتشرة بكثرة، فإنه في المساء، غالباً ما يعود الى بيت ذويه، فيغسل قدميه ويديه ويأوي الى فراش مريح. وهو ان لم يتوافر له مأمن كهذا عند عائلته، فإن "دولة الرفاه الاجتماعي" كفيلة أن تضمن له حقاً مماثلاً. غير ان رعاية هاتين المؤسستين، اي العائلة والدولة، لا تدوم طويلاً. فما ان يبلغ سن الرشد حتى يصير من المتوجب عليه ان ينضج ويتحمل مسؤولية نفسه. ومثل هذه الحقيقة لا مناص لشخوص قصص قريشي من مواجهتها. والكاتب الذي بلغ من العمر الخامسة والاربعين، واضحى زوجاً صالحاً وأباً لطفلين، أقبل منذ عهد قريب على كتابة قصص تصور الشبّان، الذين عرفناهم في اعماله السابقة، وقد صاروا رجالاً واصحاب مسؤوليات مهنية وعائلية. فالشاب الذي كان يحرص على اقتناء احدث ألبومات بوي، بات يستمع الى شوبرت وشونبرغ، وذاك المليء بالحيوية والمتردد على نوادي الليل يمكن ان نراه الآن في منتصف العمر يدفع عربة طفله متجهاً الى المتنزه المجاور، وإن الى لقاء عشيقته الجديدة، أو السابقة. غير ان دخول هؤلاء الى عالم الرجولة لا ينطوي على "وثبة إيمان" بحيث تجعلهم على وئام مع هذا العالم الجديد شأن ما كانوا عليه في عالم صباهم. فيبدو شخوص مجموعة قصصه الجديدة "منتصف الليل طوال النهار" اشبه من دخل عالم الكبار بالمصادفة، او من نهض ذات صباح ووجد نفسه عضواً في نادي الناضجين، يرتدي حلة ويتهيأ للذهاب الى العمل. فعلى رغم انهم امسوا اصحاب وظائف وعلاقات اجتماعية، الاّ ان "اطفال الستينات" و"فتيان البوب" هؤلاء، كما يُشار اليهم في اكثر من قصة واحدة، يبدون معزولين عزلة من يفتقد الحسّ بالإلفة والأمان. وليس هذا بالامر الغريب على من اضطر الى مغادرة عالم "القبيلة" او "الجماعة" بما يكفل له عضداً وتصوراً للعالم واضح المعالم ومحدداً، ومن ثم النزوح الى عالم المتعدد والمتسع اتساعاً يعصى على الإحاطة. فهو بعدما كان عضواً في جماعة لا يتوجب عليه سوى مجاراة الآخرين في مسلكهم، امسى فرداً مستقلاً يقع على كاهله عبء ان يختار ويقرر بنفسه. حيال هذا العبء مراراً ما ينتهي شخوص القصص في حالة نكوص الى حيث يحسون بالامان. في قصة "فتاة"، على سبيل المثال، لا يظهر لنا أن ثمة الكثير مما يجمع ما بين الطالبة الانكليزية والرجل الآسيوي الذي يكبرها بأعوام عدة. والارجح ان ما يجذب واحدهما الى الآخر ان الرجل يمثل صورة الاب المفْتَقَدِ عند الفتاة، وان الفتاة هي سبيل الرجل لاستعادة عهد شبابه المنقضي ايام كان طالباً في عقد الستينات. وفي قصة اخرى لا يجد الرجل والمرأة عزاءً في الحياة أشفى من تبادل الحديث. فهما يتحدثان طوال الوقت، وفي كل مكان، في المطبخ وفي غرفة النوم وفي الحديقة. بل ان المرأة تقرر الاستقالة من عملها لكي يتسنى لهما فرصة اكبر للحديث، وبذا فإنهما يستعيضان عن الحياة نفسها بالكلام بحيث ان قضاء ابسط الحاجات يبدو لهما بمثابة عمل شديد الارهاق. ولا تصدر متعة الكلام عندهما مما يسرّ فيه لواحدهما الآخر، او مما يُقيّض لهما اكتشافه من خلال هذا الكلام، وانما من حقيقة انهما لا يختلفان ابداً. فهما اشبه بطفلين، لا يطيقان الخلاف في الرأي، ومن ثم يحرصان الاّ يخالف واحدهما الآخر، ومن ثم فإن حياتهما تتحول الى ما يشبه السرد الخيطيّ الذي لا يشوبه انقطاع ولا تردد. وقريشي بارع في تصوير حالات النكوص هذه في قالب كاريكاتوري، بما يعفي قصصه من شبهة الميلودرامية ويمنحها قسطاً من التهكم والسخرية. ففي قصة "مظلة" مثلاً، يبدو روجر بمثابة المثقف الذي لا شاغل له سوى القضايا الانسانية الكبرى. فهو محاضر جامعي لا يني ينتقل من بلد الى آخر محاضراً في مسائل مثل "حقوق الانسان في القرن العشرين" و"تطور مفهوم الفرد" و"فكرة استقلال النفس" وغيرها من المسائل المهمة. غير اننا سرعان ما نراه في نهاية القصة منضوياً في عراك بالايدي مع زوجته السابقة لانها رفضت ان تعيره المظلة. ان طور النضج الذي يجد شخوص قريشي انفسهم فيه هو مرحلة منتصف العمر بكل ما تنطوي عليه هذه المرحلة من هواجس واضطرابات. فالمرء عندئذٍ لا يحس بانعدام الإلفة والانسجام مع محيطه وانما مع نفسه اساساً، مع ما آلت اليه صورته الجسمانية وعواطفه واحاسيسه. فمثلاً يحس "اين"، بطل القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، بأن ترهلاً قد اصاب جسده ونفسه: "لمح نفسه في مرآة الخزانة، ورأى انه اشبه بشخصية في احدى لوحات لوسيان فرويد: رجل في منتصف العمر، يرتدي معطفاً شتائياً رقيقاً ضارباً الى الصفرة، رمادي الوجه، يقف بمحاذاة قِدر نبتة ميتة، زائد السمنة، ولدهشته، كانت في عينيه نظرة تعبر عن امل، مثيرة للضحك، او تنم عن رغبة في الإرضاء. وكاد ان يضحك لولا انه لم يفقد روح الدعابة..." ولئن بدت الرجولة صورة لمنتصف العمر المضطرب بأية حال، فإن في العصر نفسه، لا سيما اخلاق عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ما يجعل المرء الناضج اقل جاذبية. فأن تبلغ هذا الطور في ذروة سيادة اخلاق السوق الحرة وما تلاه من صراع سياسي على احتلال منطقة الوسط، فإنك لا تفقد حرارة الطموحات ومثالية المبادىء المبكرة، وانما تُقبل ايضاً على عالم لا أثر كبيراً فيه لسلطة تقاليد او لإملاءات عاطفية، وتجد ان معاني مليئة مثل الالتزام والولاء والإخلاص آخذة في التقلص والانعدام. ولعل أوضح ما يُظهر هذا الامر بالنسبة لشخصيات هذه القصص هي طبيعة العلاقة التي تربط النساء بالرجال. فالعلاقة ما بين الزوج والزوجة، او الشريك والشريكة، وهي العلاقة الشائعة في اوساط المجتمعات الغربية، ولا ضير في ذلك، ليست هي العلاقة الثنائية المتينة التي تستوي على اساس التزام الواحد بالآخر، بل انها ليست بعلاقة ثنائية في معظم الاحيان. فكثيراً ما يكون للزوج عشيقة او للزوجة عشيق. غير ان شيوع مثل هذه العلاقة الثلاثية لا يصدر عن نزوع الى اباحية جنسية، كما كان الامر عليه في عهد "الثورة الجنسية" في الستينات، وانما تنم عن استقلالية فردية مفرطة وعن انعدام رضا. فوجود كل واحد في هذه العلاقة كثيراً ما يكون مجانياً، او اشبه بحصيلة مصادفة. فليس لاي واحد منهم حق او امتياز يكفل له موقعاً افضل في هذه العلاقة. فليس للزوج إدعاء اولوية باسم رباط الزوجية "المقدس"، وليس في وسع العشيق إملاء شروط بذريعة حرارة العاطفة التي يكنها لعشيقته. وفي احدى القصص يلتقى الزوج بالعشيق لكي يتداولا امر موقفهما المحرج، غير ان سرعان ما يتبيّن لهما ان ليس هناك ما يمكنهما حسمه. وهذا انما يتضح لهما من خلال اكتشافهما خواء مفردات مثل الخديعة او الولاء او الاخلاص. كل ما في الامر انهما طرفان في علاقة ثلاثية وليس منهما من هو على يقين بأن علاقته بالمرأة هي الأحق. على رغم ان قصص قريشي تنطوي على رحلة الانتقال من طور الى آخر، كما ذكرنا، الاّ ان السرد عنده لا ينزع عموماً الى التسجيل التاريخي، او الى اي شكل من اشكال الوصف او الإخبار الذي يسعى الى الإلمام بخلفية تاريخية او اجتماعية ما. وهو الى ذلك لا يتوخى التوغل في نفوس شخصيات القصة بحيث يُقدم النفسي على اي بُعد آخر من ابعادها، وانما تراه يكتفي بملاحقة مسلسل الحوادث الطارئة في سياق حياتهم. لذا فإن السرد يبدو اشبه بأغصان عارية. وهو ان أُعتبر، من وجه، بمثابة دليل على ضعف فني، فإنه، من وجه آخر يبدو السرد الملائم لقصة لا ترمي الى الاسهاب في وصف او تحليل حياة شخصياتها بما يلتمس الاعذار والتبريرات لهم. فمن خلال ضرب من السرد كهذا يظهر شخصيات القصص على صورة مجردة كمحض افراد متروكين لتدابيرهم الخاصة. في قصة "غرباء حينما نلتقي" وهي اطول قصص المجموعة، يتبيّن لنا، وبفضل الاسلوب السرديّ نفسه، ان توزع بطلة القصة ما بين عالم زوجها، وكيل العقارات، وعالم عشيقها، الممثل المسرحيّ الشاب، هو ما ينم عن انعدام نضج حتى وإن ادعت خلاف ذلك. فهذا التوزع انما يصدر عن سوء افتراض أن عالم الاول هو عالم الناضجين والكبار بينما عالم الآخر هو عالم الشباب والمراهقين. وهي اذ تقف على الحدّ ما بين الطورين، المراهقة والنضج، تحسم امرها بضرورة الالتزام بزوجها مخالفة بذلك رغبتها الاعمق وهواها الدفين. غير انها، بعد انقضاء اعوام عدة، تعود لكي تُحيي تلك الرغبة وذلك الهوى. والعلاقة ما بين الفن والنضج هي من تيمات قصص وروايات قريشي، وهي ما تجعلها مصدر جاذبية كبيرة للكثر من القراء الشباب. فحيث ان جلّ شخوصه هم ممن يقبلون في شبابهم على ممارسة فن من الفنون، او من يوطنون الامل على ان يصيروا فنانين، فإنه لا بد لهم مع انقضاء عهد الشباب من ان يرتابوا في صحة الاستجابة لهذه الرغبة واتخاذ الفن مهنة. وشأن بطلة قصة "غرباء حينما نلتقي"، يحدث ان العديد منهم يُسلّم أن الفن ليس الاّ من اهواء الشباب الذي لا مناص لمن بلغ طور النضج من الاقلاع عنه. وكذلك يحدث ان الكثر من القراء ممن يتهافتون في مطلع شبابهم على قراءة "بوذا الضاحية" او نظرائها من الروايات، املاً بالعثور على صورة لانفسهم في مرآة الرواية، يقلعون بعد حين، عن قراءتها إيذاناً ببلوغهم طور النضج. او ربما توهماً منهم أنهم بلغوا هذا الطور. * كاتب فلسطيني مقيم في لندن.