الاسرائيليون لم يعودوا يتحدثون عن انتخاب رئيس الوزراء اليوم، بل عن "اليوم التالي"، والعبارة هذه مأخوذة من أفلام وكتب عن العالم في اليوم التالي لحرب نووية، وهي تلخص شعور الاسرائيليين إزاء الخيار المطروح، فهم لا يريدون ايهود باراك، إلا ان اختيارهم شبه الأكيد ارييل شارون قد يفتح أبواب الشر على مصراعيها، ويعرض اسرائيل والمنطقة لخطر حرب مدمرة، حتى لو بقيت محدودة. شارون كان يقول في تشرين الثاني نوفمبر ان السيد ياسر عرفات ارهابي، فهو لم يتوقع قبل ثلاثة اشهر ان يصبح مرشحاً لرئاسة الوزارة الاسرائيلية، ومرجحاً للفوز بها. وهو منذ ترشيحه أصبح يقول ان "الكل يعرف من هو عرفات"، من دون ان يوضح نوع هذه المعرفة. إذا كان هناك ارهابي واحد بين اسرائيل وفلسطين، فهو شارون قطعاً، واذا كان هناك رجل يعرفه كل الناس، فهو شارون، وسجله معروف، الى درجة انني لا أحتاج ان اسجل شيئاً منه هنا، لأن ترشيحه ترك وسائل الاعلام وأمامها مادة لا تنضب عن جرائمه، وفشله كعسكري محترف. اليوم، الاسرائيليون انقسموا بين متطرفين مصابين بهلوسة تاريخية ودينية يريدون من شارون ان يضرب العرب بالصواريخ، وقلة عاقلة تفكر بالهجرة من اسرائيل اذا انتخب رئيساً للوزراء. وشارون لا يريد ان يخسر المتطرفين، لذلك فهو يصدر بين حين وآخر تصريحات متطرفة تضمن أصواتهم. إلا انه يعرف ان الصورة من داخل مكتب رئيس الوزراء غير الصورة من خارجها، لذلك فهو في الوقت نفسه يصدر تصاريح مهادنة الى درجة مناقضة مواقفه الأخرى. وباختصار فشارون، في نسخته الانتخابية المشذبة والمنقحة، يقول انه لا يريد ان يدخل أراضي السلطة، وان كل ما يطلب هو فترة من الهدوء لا تشوبها اعمال عنف أو مواجهات، ثم يحاول ان يبني علاقة تراكمية مع الفلسطينيين، فهو يقول ان السلام لا يتحقق مرة واحدة، ويجب السير فيه خطوة خطوة. طبعاً هذا ما نصت عليه اتفاقات اوسلو التي يعتبرها شارون ميتة، وهو لا بد يعرف ذلك، الا انه سيقول أي شيء يفيده انتخابياً ثم يكون لكل حادث حديث. إذا بقي شارون رئيساً للوزراء فعملية السلام ستعود الى الوراء عشر سنوات، ولكن تعقيدات السياسة الاسرائيلية التي مهدت طريق رئاسة الوزارة أمام شارون، هي نفسها التي قد تنقذ عملية السلام، فالأرجح الا يستطيع رئيس الوزراء المنتخب تشكيل حكومة، وانه إذا شكلها فهي لن تعيش طويلاً، وستكون عاجزة خلال فترة حياتها القصيرة بسبب الاختلاف المستمر بين كتلها، ما يعني ان اسرائيل ستقبل خلال أشهر على انتخابات جديدة للكنيست ورئاسة الوزارة. في غضون ذلك، يمكن القول ان باراك أفضل لعملية السلام، وانه وصل مع الفلسطينيين الى نقطة لم يصل اليها رئيس وزراء اسرائيلي قبله. ولعلي لا أكشف سراً اذا قلت ان بعض المفاوضين الفلسطينيين في كامب ديفيد وطابا كان يريد الوصول الى اتفاق على اساس عرض باراك، حتى من دون عودة اللاجئين، اعتقاداً منه ان هذه العودة الى اسرائيل مستحيلة، وان أي حكومة اسرائيلية لاحقة لن ترفضها فقط، بل ستتراجع عن كثير مما قدم باراك خلال المفاوضات. ليس سراً كذلك ان أطرافاً فلسطينية مفاوضة، أو قريبة من المفاوضات، على اتصال بمساعدي شارون المقربين، بمن فيهم ابنه. وقد سمع الفلسطينيون كلاماً معتدلاً، إلا أنهم ابدوا عدم ثقة في صدق المواقف التي سمعوها، فهم يعتقدون ان شارون سيعود الى سياسة البطش والارهاب التي مارسها طيلة حياته، ولا يعرف غيرها. مع ذلك يصر أنصار شارون على انه ليس الرجل الذي عرفه العرب، قبل ثلاثين سنة أو عشرين، وهم يقولون انه تغير، وانه قد يثبت انه "ديغول" اسرائيل. وفي هذا الكلام اهانة لذكرى ديغول، ولذكاء المستمعين، فلم يكن في ماضي ديغول عندما سحب فرنسا من الجزائر ارهاب، بل سجل عسكري نظيف. اذا كان شارون هو من نعتقد لا من يزعم له أنصاره، فهناك انفجار قادم، ونحن نقول: "اذا ما كبرت لا تصغر"، فلعل الانفجار يؤدي الى تدخل عربي ودولي مكثف، وينتهي بحل سلمي مع الحكومة التالية لحكومة شارون. أما اليوم فالعرب يحتاجون الى أقصى درجة ممكنة من التضامن والتنسيق، وهناك آلية قائمة في القمة السنوية، والاجتماع الوزاري الشهري، فإذا استطاع القادة العرب مواجهة تحدي الهجمة الارهابية الاسرائيلية المتوقعة، فإنهم ينقذون أنفسهم مع الفلسطينيين، فالخسارة لن تدفع ثمنها السلطة الوطنية وحدها أو الشعب الفلسطيني وحده، لأن "اليوم التالي" سيكون من نصيب الجميع.