لا نعني بالرواية التاريخية ما سطره جرجي زيدان من قصص وحكايات نسجها بخيال خصب، حتى تلقفها الآخرون كأحداث حقيقية جرت في أروقة القصور، وحاول مثل هذا الفن الشاعر والأديب العراقي علي الشرقي، وما زال الأديب اللبناني أمين معلوف يكتب في هذا الفن الروائي التاريخي. فعلي الوردي وإن نسج عدد من الروايات بهذا المعنى، مثل قصة "قرة العين البابية" لكنه لم يخرج عن الخبر المقتبس وروايته التاريخية، التي تعامل معها في كتبه، ما عدا باكورة أعماله كتاب "شخصية الفرد العراقي"، الذي نشره العام 1951. فابتداء من "خوارق اللاشعور" العام 1952، وانتهاء بكتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" الذي نشر الجزء الأول منه في العام 1969، ويومها قال: إنه "كتاب العمر بالنسبة لي"، لم يترك رواية تاريخية يلمح فيها قضية اجتماعية إلا أقتبسها ونسج أحكامه حولها. لا أدري إن شذ علي الوردي، من بين العلماء والباحثين الاجتماعيين، وعني كل هذه العناية بدراسة الحاضر عبر الماضي، ومع أن البحوث الاجتماعية تتطلب العودة الى تاريخ المجتمع، ولكن هل يتطلب ذلك كل هذه الكثافة الخبرية، إلى درجة يصعب على القارئ التمييز بين المؤرخ وعالم الاجتماع؟ وفعلاً التبس الأمر على البعض فعده مؤرخاً كبيراً على حساب تخصصه في علم الاجتماع. واجه أسلوب الوردي هذا انتقادات كثيرة، وكان جوابه عن ذلك: "أرى أن البحث في الأفكار القديمة قد ينير لنا احياناً سبيل الحياة الجديدة" منطق ابن خلدون، 105. وربما انهالت الانتقادات على دراسات الوردي الاجتماعية، في هذا المجال، بسبب دعوته للتجديد، ورفضه الممارسات العشائرية السائدة آنذارك الى مواقفه المتعلقة بالمرأة. ولكن اصحاب هذه الانتقادات لم يسبروا غور دراسات الوردي، فجعلوا من اعتماده الخبر او الرواية التاريخية مثلباً عليه، على رغم ان جمعه بين المؤرخ وعالم الاجتماع توصل الى القول ب"ازدواجية شخصية الفرد العراقي" التي وجد آثارها في العصر العباسي وربما أبعد من ذلك. وانصبت ملاحظات هؤلاء الناقدين أيضاً على عدم تمكن الوردي من قواعد النحو العربي، مع ان تحرره من تزمت النحويين جعل أسلوبه سلساً، فهو يكتب مثلما يتكلم، فنالت كتبه شعبية واسعة، مثلها مثل كتب سلامة موسى، الذي دعا، وتبعه الوردي في هذه الدعوة، للخروج الى حد ما على ازدواجية المكتوب والمحكي. ومع تلك الكثافة الخبرية التي استخدمها الوردي في كتبه، التي يكاد بعضها يظهر ككتاب تاريخ، مثل "وعاظ السلاطين" وأ"سطورة الأدب الرفيع" وغيرها، إلا أن كشفه لمساوئ كتابة التاريخ يضعف من استنتاجاته وأحكامه الاجتماعية المبنية على الرواية التاريخية. وظل الوردي أميناً لما قاله في منتصف الخمسينات في المؤرخين، حين نشر كتابه "مهزلة العقل البشري" في العام 1955، إذ قرأ الانتصار والهزيمة، من وجهة نظر المنتصر، ومع ذلك ظل منساقاً وراء شطحات الأخباريين. جاء انشغال الوردي في الرواية التاريخية لمصلحة اختصاصه الاجتماعي، فهو يفتش عن ضالته المنشودة بين النصوص، ولم يتأخر في اقتباسها، والتصرف فيها، من أي مؤرخ كان، مع عرضه بأسلوب سلس يقرأه المتعلم والمثقف، ولولا إخلاصه لمجاله العلمي لما نقصته مهارة المؤرخ والمحقق. ومع ذلك لو قارنا بينه وبين معاصره عباس العزاوي وكتبه "تاريخ العراق بين احتلالين"، و"الكاكائية في التاريخ" و"العشائر العراقية" وغيرها لوجدنا هذه الكتب مقارنة مع "لمحات اجتماعية" حافظة معلومات، خالية من مهارة المؤرخ المحلل. وحتى لا نظلم عباس العزاوي، أو عبدالرزاق الحسني، على رغم تخبطهما في كتابة تاريخ الأديان والمذاهب، فالأول كان محامياً يهوى التاريخ وربما الرغبة بالشهرة قادته الى ذلك، والثاني كان موظفاً في مجلس الوزراء، زرعت فيه مجلة "لغة العرب"، التي تأسست العام 1911، بذرة الرغبة في تسجيل الأحداث التاريخية المعاصرة، وكان موفقاً في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"، الذي ذكر فيه تاريخ حكومات العهد الملكي. وكلاهما لم يعرفا منهجاً للبحث العلمي، بل انتهجا منهج الكرملي في جمع المادة التاريخية وكانت مفيدة للباحثين وممتعة للقراء. وبينما خط الوردي لمحاته الاجتماعية - التي صدرت بستة أجزاء ونشرت بثمانية كتب وشملت تاريخ العراق في العهد العثماني وتاريخ البلدان المجاورة بما له علاقة في تلك الفترة - بمنهج أكاديمي زادتها استنتاجاته بفوائد جمة، مع تضمينها الرواية المقارنة، فكانت مادة متكاملة لم يغفل تسلسل أحداثها التاريخية، وانعكاساتها الاجتماعية، ويشعر القارئ وكأنه يعيش الأحداث يوماً بعد يوم. ومع كل المهارة التي ميزت الوردي عن أقرانه، من الذين سبروا غور تاريخ العراق الحديث، إلا أنه في تعامله مع التاريخ القديم اعتمد أسهل الطرق للحصول على الرواية التاريخية. ولأنه ليس مؤرخاً أو محققاً مثل جواد علي، على سبيل المثال، لا يلام على اقتصاره على كتب المعاصرين كمراجع لبحوثه، وأبرزهم عباس محمود العقاد، وأحمد أمين، وخالد الخالد، وطه حسين، وجرجي زيدان وغيرهم. وهذا ما جعل الرواية التاريخية المستخدمة في استنباط بعض استنتاجاته الاجتماعية غير ذات قيمة احياناً. ومع أن الوردي ليس مؤرخاً، لكن التفاته لبعض عثرات المؤرخين جعله سبباً لدراسات قيمة نهض فيها غيره، وربما من مناوئيه. وفي هذا المجال، أحسب أن مرتضى العسكري، صاحب كتاب "ابن سبأ وأساطير أخرى" التفت الى هذا البحث المهم بتأثير من الوردي. فالعسكري بدأ البحث في هذا الموضوع بعد صدور كتاب "وعاظ السلاطين"، وكاشف الغطاء أفصح عن هذه الأكذوبة منذ الثلاثينات، ثم تبعه على المنوال نفسه طه حسين في نهاية الأربعينات. وجرى سجال طويل بين العسكري والوردي، فالأول صنف كتاباً رد فيه على كتاب الثاني "وعاظ السلاطين" بعنوان "مع الدكتور علي الوردي". وكان جوهر الخلاف ان النقمة ثارت ضد الوردي بسبب موقفه من حجاب المرأة. وعزا العسكري، كرجل دين، ظاهرة الشذوذ الى الخلفاء والأديرة المسيحية، فجاء رد الوردي في "مهزلة العقل البشري" بالقول: "إن الانحراف الجنسي لا ينتشر بين الناس بتأثير أمير أو دير فهو ظاهرة اجتماعية" ص12، والغريب في الأمر، إذ عزا العسكري ظاهرة الشذوذ الى الرهبان والمتنسكين بالأديرة اتهم الوردي المتصوفة بهذا السلوك، بناء على روايات علاقتهم بالأحداث أسطورة الأدب الرفيع، 76، ولو حقق الوردي بمصدر الرواية لوجد الأحداث الذين كانوا يعاشرون المتصوفة، هم على أغلب الظن، من المريدين، الذين يتدربون على التصوف. ومقابل ذمة للمتصوفة واعتبارهم العقل "منبع الأوهام والأباطيل" الأحلام بين العقل والعقيدة 35 أثنى على مقالات المعتزلة ايما ثناء، معجباً في ميولهم العقلية وموقفهم من العامة، التي يسميها الغوغاء، وفي نفيهم لحقيقة الأحلام. ولكنه يعود في كتابه "أسطورة الأدب الرفيع" ويختصر جهود المعتزلة الكلامية والفلسفية بمراوحتهم حول منطق ارسطو وقانونه الثالث المرفوع، وبذلك يتهمهم بالبعد من العقلانية، التي تتمثل عادة بالوسط من الأمور. ومع ان المعتزلة لم يتأثروا بالفلسفة اليونانية، بل بمقالات أنتجتها المنطقة. فمثلاً مقالة "نفي الصفات" لها جذورها العرفانية عند الصابئة المندائيين، والوردي إذ يتحمل وزر ما ذهب إليه، بسبب اعتماده على المؤرخين المعاصرين أو رواية مؤرخ واحد. في رأي غريب اعتبر الوردي نظريات الفارابي وابن سينا وابن طفيل، وفلاسفة تلك الحقبة، مجرد لغو الأطفال قياساً بأفكار العصر الحديث مهزلة العقل البشري، 37. وفي رأيه هذا كان منفعلاً من الانتقادات العنيفة التي انهالت عليه، بسبب أفكاره الحداثية. ولكنه سريعاً ما ينقلب، بعد صفحات عدة من الكتاب نفسه مهزلة العقل البشري، 73 فيعتبر الفارابي عالم اجتماع، مع نقده لطوباوية مدينته الفاضلة، وفي كتاب آخر قال عنه: "من أكبر فلاسفة الإسلام" منطق ابن خلدون، 156. اقتبس الوردي الكثير من ابن خلدون، فكان موضوع اطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، واعتبره كغيره من المعاصرين، مؤسساً لعلم الاجتماع، ومع أنه أشار الى استفادة صاحب المقدمة من رسائل إخوان الصفا، إلا أنه لم يقتبس منها، ولم يستدعيه ذلك الى السؤال عن عدم ذكر ابن خلدون لرسائل هذه الجماعة. وربما ورد رأيه التالي عبر مصدر معاصر، ولعله طه حسين، قال الوردي: "يغلب على ظني ان ابن خلدون قد استمد فكرته عن الدورة الاجتماعية من اخوان الصفا، إنما هو طورها وأخضعها لمنطقه الجديد". كان من نواقص الوردي في تعامله مع الرواية التاريخية استناده في بعض الأحيان، وفي قضايا مهمة، الى الشائع من الروايات، حتى أنه يذكرها احياناً وكأنه أخذها من المقاهي والطرقات. وهو في هذا الأمر ينظر الى تأثير تلك الرواية في الذاكرة الشعبية من جهة، ومن جهة أخرى يأخذه التعود على استنطاق الناس فيسوق الرواية التاريخية وكأنها معلومة. في هذا المجال نذكر تعامله مع ما شاع عن علاقة العثمانيين بالمذهب الحنفي، وحرصهم على أن يكون مذهب الدولة الرسمي. قال الوردي: "الشائع ان السبب الذي جعل الدولة العثمانية شديدة التمسك بالمذهب الحنفي هو أن أبا حنيفة كان لا يأخذ بهذا الحديث الأئمة من قريش، ويرى من الجائز أن تكون الخلافة في غير قريش" لمحات اجتماعية، 1/49، وهذا يتنافى تماماً مع ما روي عن الإمام أبي حنيفة النعمان في هذه المسألة بالذات. أما لماذا اعتمد العثمانيون الحنفية كمذهب رسمي الى جانب تعاملهم مع المذاهب الثلاثة الأخرى، يعود الى أن المذهب انتشر بين المسلمين في ايران وما بعد النهر والقفقاس من حيث انحدر العثمانيون، وأنهم ظلوا على ما هم عليه. وليس من المعقول انهم ظلوا الى تاريخ ظهورهم بلا مذهب. كذلك ان قاعدة المذهب في الدولة العباسية كانت قوية حتى مجيء السلاجقة، الذين مالوا الى المذهب الشافعي بتأثير وزيرهم نظام المُلك. كان رأي الإمام أبي حنيفة في الإمامة السياسية: أن "لا تصلح الإمامة إلا في قريش، كل من دعا منها الى الكتاب والسنة، والعمل بالعدل، وحيث إمامته ووجب الخروج معه، وذلك للخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: "الأئمة من قريش" النوبختي، فرق الشيعة، 10، الأشعري، مقالات الإسلاميين، 8. وذكر الناشئ الأكبر ت293ه، قول أبي حنيفة في الإمامة: "لا يجوز ان يكون الإمام إلا رجلاً من قريش" الكتاب الأوسط، 62- 63. وقال المكي، معبراً عن الحنفية عموماً، وهو أحد شيوخها في القرن السادس الهجري: "قولهم الأئمة من قريش، فلا يخلو ما يريد به الأئمة في الصلاة، أو في العلم، أو الخلافة، لا وجه يريد في الصلاة، لأن مخالفة السنّة والجماعة، فتعين أن يريد به التقديم في الخلافة" مناقب أبي حنيفة، 1/399. وفي المعنى نفسه قال الكردري: "رجع الكل الى هذا الحديث، دل أن المراد بالإمامة الخلافة الكبرى بالإجماع، فلا يراد غيره. وأما قولهم: قوله عليه السلام: تعلموا من قريش ولا تعلموها، فلا أصل له" مناقب أبي حنيفة، 2/65. وفي كل الأحوال، لو أن أبا حنيفة أو تلامذته حاولوا نقض هذا الحديث لما تبنى العباسيون مذهبهم فترة من الزمن، وجعلوا صاحب أبي حنيفة أول قاضي قضاة، ومن بعده كثر القضاة الحنفيين. كان علي الوردي واسع الاطلاع على صفحات التاريخ، وما توصل إليه من استنتاجات وشواهد تاريخية في تفسير ظواهر الحاضر كان محل إعجاب، لكن كثرة استخدامه لأخبار الأولين، الى حد الإفراط، مع قلة صبر في تحقيقها أو تدقيقها جعله عرضة للنقد، وعذره أنه لم يكن مؤرخاً بل كان عالم اجتماع، والتاريخ عنده وسيلة وليس غاية. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.