يستقبل المركز الثقافي "والوني - بروكسيل" معرضاً لأربعة فنانين تونسيين بارزين، ضمن اطار المهرجان الثامن للفرانكوفونية وهم: قويدر التريكي ورفيق الكامل، وأحمد الحجري وحبيب بو عبانا، ويستمر المعرض شهرين. يبتدىء المعرض بلوحات قويدر التريكي، وهو من مواليد 1949 وخريج المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس، أقام عام 1978 معرضاً شخصياً في "متحف بومبيدو" للفن المعاصر، فعرف كفنان تجريدي متميّز قريب من هنري ميشو ومن أستاذ الحفر لافرابخ، وهو يتخلّى فجأة عن نجاحاته الباريسية، ليعود الى حقل طفولته في تونس، يعيش من الزراعة، فتظهر الملامح الشعبية في تجريداته الخلويّة أو البيولوجية. وهو يستغرق بالتدريج في حشود العناصر الحلميّة والإشارات المتزاحمة المرتبطة بالذاكرة الصورية والسردية التي تسكن اللاشعور الجمعي، حتى بدت وكأنها يوم حشر كبير، وعاء يطفح بالكائنات الأسطورية المنتزعة من ذاكرة قرطاجة والتراكمات الرمزية المسجلة في الأوشام وسواها. ينجز الفنان أعماله الورقية بالألوان الزيتية بقياسات طباعية، مما يشير الى علاقته الحميمة مع ممارسته العريقة لفن الحفر. تبدو خصائص هذا الفنان من خلال توقيعه الموسيقي لتواتر "نفس" الشكل أو المفردة واشتقاقاتها المتبدلة بصورة رهيفة. ويؤكد هذا التوقيع الحدسي علاقته بانشغالات المحترف التونسي الدؤوبة بمشكلة "المفردة التشكيلية" التي تحاول أن تجد توليفاً بين الأنظمة البصرية الجبرية في معادلات زخارف السجاجيد والبنائية الغربية، ولكنه ورغم انتظام حشوده وتلوّناتها الموسيقيّة تظل محكومة بأشكال بيولوجية طفولية، تداعيات هذيانية كابوسية جنينية مقمطة - تشبه حركة وحيدات الخلية في وسط سيميائي كوني، وكأنه يقتصر من العالم على مقطع مجهري، تمتد جمهراته في كل الاتجاهات، وبحكايات لا تكفيها صفحات ألف ليلة وليلة. أما الثاني فكان رفيق الكامل من مواليد تونس 1944، خريج مدرسة الفنون الزخرفية العليا في باريس، ومدرس في معهد فنون تونس. يبدو هذا الفنان اليوم من أبرز ممثلي التجريد على رغم ممارسته بشكل متزامن للتعبيرية ذلك أن تجريده يتجاوز حدود التجريد الغنائي والهندسي الشائع في المحترف التونسي وسواه. تتعملق قياسات لوحاته على عكس زميله قويدر لأنها تعتمد على المدى الفلكي في التكوين وهو ينجز مصادفاتها اللمسية والحركية بمواد صدفوية عاصفة من الأكريليك على القماش. يبتدىء من وحدات أولى، ثم يتبعثر نواظمها في حركة انبثاقية في الفراغ، فتبدو غير متماثلة، تتشظّى وتفرّخ كائنات خلوية تشكيلية أخرى، وتتواتر المراجعات حتى يتوقف عند مرحلة تحولية تشارف الاستقرار من دون أن تطرح حالة يقينية حاسمة. ذلك أن قوة أشكاله تنبع من أصالة قدرتها على التحول. وهنا نعثر على ارتباط تسارع فرشاته مع آلية "الحدس" الذي يرفد الأشكال بعكسها، ويقترح بتداعياته أنماطاً وجدانية - وجودية من الأداءات ومصادفات المادة الصباغية - ثم إن خطوطه تعربد خارج المساحات في حرية تذكّر بالتجريد الأميركي التعبيري منه أكثر من الغنائي الفرنسي. أما الثالث فهو أحمد الحجري المولود عام 1948، وهو فنان عصامي لم يتعلم الفن لأنه هاجر في بداية الستينات الى باريس ليعمل في الكهرباء، ثم اكتشفه أحد الفرنسيين المثقفين، ثم أكّد أهميته الفنان جان دوبوفي مؤسس تيار "الفن البكر"، وأصبح الحجري أحد نماذجه الذائعي الصيت. ذلك قبل أن تستردّه تونس بجهود بعض المنوّرين، خاصة الناقد علي لواتي الذي قدّم كتاب المعرض من خلال نص تحليلي بالغ الرهافة. كثيراً ما كان رفيق الكامل يشير الى أهمية الحجري عندما لم يكن معروفاً في تونس بعد. هناك جسور تمتد بين عوالم قويدر التريكي وعوالم الحجري. يرتبط الإثنان بصور اللاوعي الجمعي الذي أنتج عرائس مسرح الظل والرسم على الزجاج في الفنون الشعبية. تبدو حساسية الحجري السردية أشد براءة، يتمركز أشخاصه في مجتمع العائلة والأقرباء، والكائنات الحية الحميمة، التي تمثل جزءاً منها، عالم داخلي "ذاكراتي" تطيّري يصل حدّ الهمود والعصاب، تعوم أشكاله في حيّز من الحلم والهذيان، وضمن منطق متوحّد لا علاقة لخرائطه بوعاء الواقع. وتكشف أخطاؤه التشريحيّة تواضع كياسته في التخطيط والنسب وبحتمية صادقة تجعل من الأشياء وجوداً لا يقبل الشك، ولا يمكن أن يكون إلا كما هو عليه. يعتمد منهجه مثل الفن البكر عموماً على التقرّح الداخلي، وعمق صدوعها أكثر من بلاغة التقنية. يعوض عن ذلك بإحكام لوني غامض، بالغ الرهافة والحنين، وبقدر كبير من الدهشة التي تثيرها موضوعاته، يؤنسن الحيوان ويحوّل الإنسان الى كائن أبدي بحيث تدور شخصياته في فلك الذات والطفولة المريرة، ويعتبر الناقد لواتي أن محصّلة كل هذه المواصفات عبارة عن صيغة شعرية خاصة. تبدو تجربة الرابع الحبيب بوعبانا من مواليد 1944 غريبةً عن زملائه، لأن خصائصه التعبيرية تجريبية لا تخلو من التردد وملامسة بعض سياقات الفن الغربي خاصة المنسّقة منها التي تتبع لونيات هنري ماتيس وفان رونجين، ولكنّها بالطبع أقل تمايزاً بسبب تبعيتها المحسوسة، قد يكون لسطوع ألوانه المشرقية علاقة بممارسته فن السيراميك. ولهذا السبب ربما أفرد للوحاته قاعة خاصة منعزلة. بقي أن ننوّه بأن المعرض أقيم مدة شهرين في بروكسيل آذار / مارس - نيسان - ابريل وسيقام شهرين في باريس، وسينقل في شهر كانون الأول ديسمبر، في نهاية العام الى تونس، وهذا ما يفسّر العناية الظاهرة في اختيار مادته واطاره النقدي والإعلامي. ولعل أهم خصائص المعاصرة في الفن التشكيلي التونسي أنه لا يفرق بين التجريد والتشخيص.