هل كان من قبيل المصادفة ان يعرض فريتز لانغ، أحد كبار مخرجي التعبيرية الألمانية، فيلمه الأشهر "متروبوليس" في العام 1926، أي العام نفسه الذي كانت النازية في ألمانيا تعيش فيه انعطافتها الأساسية نحو السيطرة على السلطة، وتحديداً برضى الشعب الألماني الذي كان خرج مهزوماً ومذلاً من أتون الحرب العالمية الأولى؟ بعد ذلك بسنوات كثيرة لم يفت فريتز لانغ أن يقول ان فكرة الفيلم جاءته في نيويورك وليس في ألمانيا، وقبل ذلك بزمن، إذ كان يعيش في الحاضرة الاميركية آنذاك، وشعر بأن هذه المدينة العملاقة تمثل عالماً جديداً وانه شاء التعبير في فيلمه ذاك عن هذا العالم بطريقة تذكر بسيمفونية دفوراك "العالم الجديد" التي كتبت هي الأخرى من وحي نيويورك. كثيرون رغبوا في تصديق لانغ يومذاك. ولكن، اذا كان ما يقوله صحيحاً فلماذا جاء موضوع الفيلم وشكله متطابقين تماماً مع الايديولوجية النازية؟ هذا هو السؤال الذي شغل نقاد السينما طويلاً. وشغلهم تحديداً لأن ما يقوله الفيلم، جاء مشابهاً تماماً للدعاية النازية. ففيلم متروبوليس يصور لنا عالماً مستقبلياً ينقسم الى مدينتين: مدينة عليا ومدينة سفلى. في العليا يعيش أصحاب الأملاك والمديرون والاطارات العليا والشبيبة الذهبية. أما في المدينة السفلى، التي لا يصلها ضوء النهار، فيعيش العمال والبائسون يسهرون ليلاً نهاراً لتسيير الأعمال وتأمين الانتاج. كل هذا يعتبر حتى الآن، مجرد ترجمة حرفية لمفاهيم الصراع الطبقي. والتوقف هنا يضعنا أمام ذلك الفرز الذي كثيراً ما تحدث عنه - وندد به - فلاسفة الاشتراكية في القرن التاسع عشر، ثم أتت الثورة الروسية في القرن العشرين متطلعة الى الغائه، لحساب الطبقة العاملة، ولكن إذ ينتقل لانغ في فيلمه الى مستوى تال هو مستوى ثورة العمال على مضطهديهم، لا ينصر الثورة أو ينتصر لها، بل ينهي الأمور بنوع من التصالح الطبقي، كان بشكل محور عمل الفكر النازي في ذلك الحين. والمصالحة تتم بعدما يكتشف "الأخ الأكبر" المسيطر والعمال معاً انهما مثل "العقل واليد لا يمكنهما أن يعملا الا اذا قام القلب بالتوفيق بينهما". حسناً، علينا هنا أن نضيف للتوضيح أن المسيطر يدعى "ميتلر" هتلر؟!، وان شخصيتين اثنتين تحملان الاسم نفسه وتتجولان بين الطبقتين: ماريا المبشرة بخضوع العمال بحسب مفاهيم الوداعة المسيحية الهادئة، وماريا الأخرى التي لا تني تحرض العمال على الثورة. فهل علينا هنا أن نوضح ان الفيلم يتعاطف مع الأولى، ويشجب الثانية معتبراً إياها شيطاناً مفسداً؟ هذا التفسير أنكره لانغ لاحقاً، غير ان اية قراءة للفيلم لا يمكنها أن تبتعد عنه. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أن ننكر ان "متروبوليس" الصامت هو واحد من أعظم الأفلام في تاريخ الفن السابع، وعلى الأقل بفضل نظرته التشكيلية الرؤيوية: تصويره الروبو في تفاصيل صناعته؟ تصويره لسلطة الأخ الأكبر، استخدامه لشبكة التصوير الداخلية في المصنع، هندسة الديكور المستقبلية والحديثة، ديكور غرفة الآلات في المصانع. وهذه العناصر الشكلية التي أبدع لانغ في تصويرها، وأعطته لاحقاً سمعته الأساسية كمهندس اساسي وفنان تشكيلي أبدع أدواته من طريق الفيلم، هذه العناصر تكمن أهميتها الأساسية في كونها لا تستخدم زينة، بل تشكل الجزء الأساس من الحبكة والموضوع. الشكل هنا ملتصق بالمضمون بشكل نادر وفاعل. ومن هنا، بعد غض الطرف عن ميول لانغ في أفكاره ناحية تبني الفكر النازي، وعلى الأقل ضد التحركات اليسارية العمالية التي كانت مستشرية في ألمانيا ذلك الحين، سنبقى أمام عمل استثنائي أسس لسينما من نوع خاص. وهذا الواقع في حد ذاته هو الذي جعل مؤرخي السينما يتسامحون مع لانغ، بالنسبة الى "متروبوليس"، ولكن أيضاً بالنسبة الى عدد من أفلام أخرى حققها في مرحلته الألمانية تلك نفسها وحملت دائماً ادانة للعمال وتحركاتهم، لمصلحة مصالحة طبقية تضع "المخربين" خارجاً بوصفهم غرباء مفسدين في "الجواسيس" الذي تلا "متروبوليس"، جعل لانغ من الأشرار، عملاء يعملون لمصلحة السوفيات، وجعل زعيمهم شبيهاً بلينين، ومنظمتهم نسخة عن "سبارتاكوس". ولد فريتز لانغ العام 1880 في فيينا وتوفي العام 1976 في لوس انجليس. بدأ حياته مهندساً، ثم تحول الى كتابة السيناريوات البوليسية قبل أن ينخرط في العمل السينمائي مخرجاً منذ العام 1919، وهي مهنة سوف يواصلها حتى الستينات، وينتقل خلالها من فيينا الى برلينففرنسا، حتى استقر به الأمر، بعد أن هرب من النازيين الأسباب ظلت غامضة على رغم اعجاب هتلر وغوبلز بأفلامه الأولى، في الولاياتالمتحدة الاميركية. وفريتز لانغ الذي يوضع عادة بين عشرة يعتبرون أهم المخرجين في تاريخ السينما في العالم، يقسم مساره السينمائي تبعاً لتنقله الجغرافي، فهو حقق أفلامه في موطنه الأصلي كما في ألمانيا، وحققها في فرنسا، وفي الولاياتالمتحدة الأميركية، ثم بعد عودته الى ألمانيا الغربية أواسط الخمسينات. ومهما يكن من الأمر فإن النقاد والمؤرخين يجمعون على أن مرحلته الأهم انما كانت مرحلته الألمانية الأولى، وان فيلمه الأكبر كان "متروبوليس"، الذي لا يزال حتى اليوم يتصدر معظم قوائم "أهم الأفلام في تاريخ السينما". ولانغ الذي أخرج الفيلم وصمم ديكوراته بنفسه، كتبه شراكة مع زوجته تيا فون هاربو، التي كانت، هي عضواً في الحزب النازي.