وفى زعيم الليكود، ورئيس الحكومة الإسرائيلية المنتخب آرييل شارون بوعده حين باشر مهمات منصبه الجديد بمباحثات مع حزب العمل لتشكيل حكومة "وحدة وطنية". وما قام به يبدو في السياق الإسرائيلي العام خطوة ضرورية، سبق لأسلافه في العمل والليكود، ان قاموا بمثلها، بحثاً عن ائتلاف سياسي موسع، يضمن للحكومة الاستقرار وطول العمر، ويضمن لإسرائيل مواجهة الاستحقاقات السياسية المترتبة على العملية التفاوضية مع الأطراف العربية. ففي حزيران يونيو 1996 أجرى رئيس الحكومة المنتخب بنيامين نتانياهو مشاورات موسعة نجح عبرها في تشكيل حكومة ضمت الى جانب الليكود 6 أحزاب تمكنت من الإمساك بزمام الحكم لمدة 3 سنوات كاملة تقريباً. وبعد اكثر من أربعين يوماً قضاها في المباحثات والمشاورات تمكن إيهود باراك من ان يقدم للكنيست في 6/7/1999 حكومته التي ضمت الى جانب العمل 7 أحزاب هي الأخرى. وها هو شارون يجري مباحثاته التشاورية لتشكيل حكومته، مبتدئاً بخصمه العمل، ومتجاوزاً حدة المعركة الانتخابية والاتهامات التي وجهها على مسمع الناخبين. ويلاحظ ان الطرفين تمكنا من الوصول الى نقاط تفاهم مشتركة، تجاوز عبرها كل منهما برنامجه الخاص، وخطا خلالها خطوات واسعة نحو الطرف الآخر على رغم تباين مواقفهما إزاء العملية التفاوضية. وهكذا، تبدو إسرائيل عبر احزابها، وهي تبحث لنفسها عن عوامل القوى "الداخلية" تضيفها الى عوامل القوة "الخارجية"، في استقبال استحقاقات الحل مع كل من سورية ولبنان... والفلسطينيين. الصورة الأخرى على المقلب الآخر من الصورة يبدو المشهد مختلفاً. فقد بادرت السلطة الفلسطينية الى تهنئة شارون بفوزه، بعد ان ساندت علناً خصمه باراك، انطلاقاً من تقديرها لموقف كل من الرجلين. وهي بذلك وضعت نفسها في موقع الشريك في هزيمة باراك، مع ان الأخير غلب المصالح العليا لبلاده على مصالحه الحزبية ورضي بالبحث في حكومة موسعة يرأسها شارون. وفي أول خطوة سياسية لها نحو شارون، ارتكبت السلطة الفلسطينية خطأ حين دعت لاستئناف المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها، وهي تحاول بذلك ان تستعير الموقف السوري من مسألة استئناف المفاوضات، لترد على شارون الداعي الى مفاوضات من نقطة الصفر. وتجاهلت السلطة ان المسار السوري يستند الى القرارين 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام أي الانسحاب الى حدود حزيران 1967 بينما يستند المسار الفلسطيني الى تفاهمات كامب ديفيد - 2، التي نحّت جانباً قرارات الأممالمتحدة، وقامت على بدائل تنازلية. وفي خطوتها هذه، لا تبشر السلطة الفلسطينية بأنها مقبلة على تغيير ما يأخذ في الاعتبار مستوى الحدث السياسي الذي شهدته إسرائيل. كما لا تبشر بأنها بصدد استخلاص الدروس من الجولات التفاوضية مع باراك، التي وصلت الى الطريق المسدود. ويبدو أيضاً أنها لم تستوعب حتى الآن الموقف الأميركي الجديد، الذي تبرأ من مقترحات الرئيس كلينتون وأفكاره، وكأنه بذلك يفسح في المجال لأفكار شارون ان تكون أساس التفاوض في وقت لاحق. وإذا كانت السلطة ما زالت مسكونة بهاجس تأكيد حسن نياتها نحو العملية التفاوضية، ومسكونة بهاجس تبرئة نفسها من مسؤولية تعطيل هذه العملية، فإن المرحلة الجديدة التي دخلتها إسرائيل، وما صدر عنها من إشارات، يفترض ان توفر الفرصة للسلطة للتحرر من هذا الهاجس. فشارون لم يخف رغبته في وضع مفاوضات الحل النهائي جانباً، واعتماد مفاوضات المراحل، الأمر الذي يشير الى مفاوضات طويلة الأمد، تحول الوضع الحالي، الى ما يشبه الوضع النهائي، خصوصاً أن شارون لا يمانع، من حيث المبدأ، أن تعلن السلطة قيام دولتها فوق رقعة الأرض التي تدير شؤونها حالياً، وأن توقع مع الجانب الإسرائيلي اتفاق "عدم اعتداء" يشكل تمهيداً للمفاوضات المرحلية. ومثل هذا الاقتراح لا يعني في الحقيقة سوى امرين: الأول وقف الانتفاضة بما هي عامل القوة الفلسطينية، والثاني ترسيم الوضع الراهن الموقت واعتباره نهائياً. فالسلطة بسياستها المترددة هذه تضع نفسها امام مفترق يمكن إذا ما أخطأت الخيار السليم، أن يقودها نحو تنازلات جديدة تفرض عليها. ويوفر الوضع المستجد، على الصعيدين الأميركي والإسرائيلي، للسلطة الفلسطينية فرصة غنية لتعيد النظر في حساباتها ولتعيد تقويم العملية التفاوضية السابقة، لمصلحة خيارات بديلة تخدم المصلحة الفلسطينية. فبعد ان أعلنت الإدارة الأميركية "تحررها" من مقترحات كلينتون، و"تحرر" شارون من مقترحات باراك، على السلطة بدورها ان تعلن تحررها من كل القيود التي فرضتها عليها العملية التفاوضية. فالمرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو انتهت قانوناً منذ 4/5/1999، والفترة الإضافية لهذه المرحلة انتهت هي الأخرى منذ نهاية العام 1999. لا شك في أن الإدارة الأميركية لن تبقي الساحة التفاوضية فارغة، وهي على رغم ادعائها انها لن تقحم نفسها في التفاصيل اليومية للمفاوضات إلا أنها ستحرص في الوقت نفسه على أن تتسلح باقتراحات تدفع بها نحو طاولة المفاوضات في اللحظة التي تراها مناسبة. بدوره أطلق شارون في سماء العملية التفاوضية أفكاره المعروفة، وحتى لا تبقى الكرة في مرمى الجانب الفلسطيني يفترض بالسلطة هي الأخرى ان تطلق افكارها، وهذا يفترض ان تتراجع، أولاً، عن مقولة استئناف المفاوضات من حيث انتهت إليه، لأن في هذا عودة الى كامب ديفيد. إن الخيار التفاوضي الوحيد الذي يضمن للجانب الفلسطيني مصالحه وحقوقه هو الخيار المبني على قرارات الشرعية الدولية، وهو يفترض في السياق مجموعة من الإجراءات التمهيدية واللاحقة، من بينها تسليح الانتفاضة ببرنامج سياسي واضح يعكس نفسه على مجموع هيئات ودوائر السلطة وأجهزتها، وهو ما يفترض فتح باب التغيير والاستبدال، بما في ذلك التغيير على مستوى الحكومة الفلسطينية الحالية، بعد ان اكدت وقائع الأشهر الخمسة الأولى من عمر الانتفاضة عجزها عن مواكبة فعل الشارع ودوره، وتأمين مقومات صموده السياسي والاجتماعي والأمني. * كاتب فلسطيني.