البيت الأبيض: المؤشرات تؤكد أن الطائرة الأذربيجانية سقطت بصاروخ روسي    خيسوس يحقّق جائزة أفضل مدرب في الشرق الأوسط لعام 2024    المملكة تدين وتستنكر بأشد العبارات حرق قوات الاحتلال الإسرائيلية مستشفى في غزة    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    «سلمان للإغاثة» يوزع 526 حقيبة إيوائية في أفغانستان    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    اتهامات لنتنياهو بعرقلتها.. تضاؤل فرص إبرام هدنة غزة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    دار الملاحظة الأجتماعية بجازان تشارك في مبادرة "التنشئة التربويه بين الواقع والمأمول "    الذهب يستقر وسط التوترات الجيوسياسية ويتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية    مدرب اليمن يستهدف فوز أول على البحرين    مدرب العراق: سأواجه «السعودية» بالأساسيين    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    الأمن.. ظلال وارفة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    أهلا بالعالم    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    كرة القدم قبل القبيلة؟!    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    وسومها في خشومها    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    منتخبنا كان عظيماً !    استثمار و(استحمار) !    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السنة النبوية بين الرؤية الاستشراقية ورؤية ما بعد الحداثة
نشر في الحياة يوم 29 - 09 - 1998

في محاضرته عن الاستشراق وما بعد الحداثة، التي ألقيت في مؤسسة فولبرايت في الاردن بتاريخ 2-4-1998، تحدث الباحث بول هيك من جامعة شيكاغو معرباً عن دهشته من اختلاف نتائج الدراسات التي يقوم بها الباحثون عندما تكون مادة بحثهم واحدة وتتعلق بالتراث الديني. وكان ذلك احد الاسباب التي دعته للاهتمام بالتراث الديني الاسلامي وبخاصة بعد شيوع آراء مفكري ما بعد الحداثة في الجامعات الغربية حيث لاحظ اتساع الفجوة ما بين المستشرقي الأكاديميين وبين الباحثين المسلمين في ما يتعلق بفهم التراث النبوي.
فقد ظل المستشرقون متشبثين بمبدأ التحقق التجريبي، باحثين عن احداث مطابقة لما روي عن السنوات المبكرة للدعوة الاسلامية ومحاولين رسم صورة للاسلام انطلاقاً من المنهج الوضعي، الامر الذي جعل المسلمين يعلنون عن تشككهم في نيات المستشرقين، وعن عدم رضاهم عن اسلوب تعاملهم مع التراث الديني مما حدا بهم الى اتهامهم بلعب دور في البرنامج الاستعماري الغربي.
وقد صرح هيك بانه ينطلق في معالجته لمسألة التراث النبوي الاسلامي من نظرة دينية تسوي بين الوحي وبين التاريخ كموضع للوحي، فيقول: "انه حساس لمسألة التفريق بينهما بحكم انتمائه لتنظيم ديني تابع لكنيسة الروم الكاثوليك"، وقد لاحظ ان طالب الشريعة الاسلامية وطالب التاريخ في الجامعة الادرنية ينطلق من هذه النظرة في فهمه للوحي فكلاهما يعتقد ان التراث النبوي هو بحد ذاته إلهام او وحي وليس مجرد تاريخ للوحي.
ونظراً لأن منهجية اي بحث سواء أكان بحثاً تاريخياً ام دينياً ام علمياً ترتكز على أسس فلسفية معرفية، فقد تنبّه هيك للجانب الأبستمولوجي في الحوار الدائر حول البحث في التراث الديني وحاول ابراز هذا الجانب من خلال محورين تركزت حولهما محاضرته.
تناول في المحور الاول الحديث عن منهجية المستشرقين وموقفهم من التراث الديني الاسلامي،
وتحدث في المحور الثاني عن رؤية المسلمين لتراثهم الديني وفكرتهم عن رواة الحديث النبوي ومدوّنيه، ثم اقترح اسلوباً جديداً لفهم مصادر الشريعة الاسلامية ينطلق من نظرة مفكري ما بعد الحداثة للتاريخ وللتراث معتقداً، في الوقت نفسه، انه وفقاً لنظرتهم يمكن للباحث ان يصل الى موقف يوازن بين القيم العلمية المهمة للبحث وبين الاهتمامات الدينية للناس.
موقف المستشرقين
من التراث الديني الاسلامي
لاحظ هيك ان دراسات المستشرقين قد بدأت تنتشر وتتركز حول البحث في التراث النبوي في الوقت الذي تأثر فيه الاكاديميون في الغرب بالفلسفة الوضعية. فقد تهيّأ المستشرقون لدراسة تاريخ الاسلام كما يتهيأ العلماء لدراسة العلوم الطبيعية، متوقعين توقعاً ساذجاً ان تضاء لهم كل الحقائق عندما يوظفون المنهج العلمي في البحث، وأن يصلوا لمعرفة يقينية بمنهجيتهم التي لا تختلف عن منهجية عالم البيولوجيا. فالمنهج العلمي، بنظرهم، ينطبق على الخبرات الانسانية تماماً كانطباقه على ظواهر الطبيعة.
ويعتقد هيك ان الأبستمولوجيا الوضعية أثرت بشكل كبير في دراسة الاسلام وفي دراسة تاريخه، كما أثرت في دراسة تواريخ وحقول معرفية اخرى كعلم النفس. إلا أن نتيجة هذا التأثير قد اغفلت العوامل الذاتية التي تكمن في الخبرات الانسانية ولم يحسب لها اي حساب. بل ان التركيز انحصر فقط على حيادية الباحث وموضوعيته بغض النظر عن علاقة الباحث بالحقل الذي يدرسه.
وعلى رغم عدم قناعة هيك بالأطر الوضعية التي اخذ بها الباحثون، وهي أطر تقتضي ان يكون الباحث حيادياً وموضوعياً وأن يقتصر دوره على توظيف المنهج العلمي في البحث غاضاً النظر عن اي علاقة تربطه بالحقل الذي يدرسه، فقد اشاد هيك بما فعله اولئك الباحثون من اجل الثقافة التاريخية الحديثة، حين حللوا المصادر الاسلامية، واكتشفوا ما فيها من تعارض وحتى تلفيقات، ونشروها في طبعات نقدية جعلوها في متناول عدد كبير من الباحثين، الامر الذي مكّن الباحثين اجناتس جولدتسيهر الهنغاري وجوزيف شاخت الألماني من دراسة التراث النبوي وتقديم حجج تقول: ان هذا التراث يحكي كلمات وأفعال وقرارات تنسب الى النبي بينما هي ناتجة عن اهتمامات المسلمين انفسهم التي ظهرت بعد قرنين من عهد الرسول. وادعى الباحثان ان التراث النبوي مدبر وأنه يعكس ما يستجد ويجري في المجتمع ويعكس تطور الاهتمامات الايديولوجية، في المجتمع الاسلامي، بازاء الموضوع.
لقد تأثر الباحثان، على حد تعبير هيك، بآمال الوضعيين وابتغيا تخطيط التاريخ الاسلامي وزعما ان معظم التقارير حول النبي ليست لها صلة به على الاطلاق، ولكنها - تقريباً - نتيجة العادات المحلية والممارسات الادارية التي صارت تنسب الى النبي في مرحلة اصبحت الروابط المهمة الملموسة ما بين النبي وبين ممارسات الجماعة تبدو واضحة.
وهذا ما يشبه تماماً حال الجماعات المسيحية الاولى التي لم ترسخ موقفها الاساسي ووجهة نظرها إلا بعد انعقاد المجلس المسكوني في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. فالجماعات الاسلامية لم يترسخ فهمها بوضوح في القرون الاولى للدعوة الاسلامية لكنها تلمست تدريجياً طريقها نحو رؤية منسقة حفزها الجدل والحوار الدائر بين المسلمين من اصحاب الرؤى الدينية المتنافسة، اضافة الى حاجة المسلمين في القرنين الثالث والرابع الهجريين الى ربط ممارساتهم بشكل نظامي مع السنّة النبوية، فساعدهم ذلك على تشكيل منهج حاولوا بواسطته نقل التراث النبوي بأمان.
لقد اسهمت طريقة الباحثين جولدتسيهر وشاخت، على حد تعبير هيك، في فهم المجتمع الاسلامي في سنوات الدعوة الاولى وفي فهم نظام الحكم فيه، وفهم تولد قوانينه. لكن الادعاء بأن التراث النبوي يتضمن القليل فقط مما صدر عن النبي، يهدد ايمان المسلم الذي يرى شرعية الدين في تضخيم ما نقل من تراث نبوي. وقد حدثت نتيجة لهذا القول هوة ما بين دراسات المستشرقين وبين الدراسات الاسلامية، واتهم المسلمون المستشرقين بالتلاعب بالاسلام لتحقيق اغراض سياسية واقتصادية تخدم الاستعمار الغربي. وقد تزايدت شكوك المسلمين في نيات المستشرقين بعد اندماج آراء جولدتسيهر وشاخت مع وجهة نظر مفكري ما بعد الحداثة ومؤداها: أن لا شيء يمكن ان يعرف بشكل موضوعي، الأمر الذي حمل عدداً من الباحثين وانسبرو وكوك وكرون على مراجعة التراث الاسلامي والتصريح بأن المصادر الاسلامية لا تقدم إلا القليل عن احداث جرت في التاريخ الاسلامي، وأن التأكد من هذه الاحداث وتوثيقها يتطلب مراجعة وثائق ومصادر غير اسلامية عاصرت تلك الاحداث.
ان الاختلاف بين وجهتي النظر الاسلامية والاستشراقية في ما يتعلق بالتراث النبوي، كما يرى هيك، ليست نتيجة قصد خبيث لدى المستشرقين الذين كان هدفهم اقامة الحقيقة على اساس فلسفي، وليست نتيجة نقص في معايير البحث لدى الباحثين الاسلاميين، وإنما كان الاختلاف نتيجة تعريفين مختلفين للتاريخ، وفكرتين مختلفتين عن تطور المعرفة التاريخية. لهذا فانه على رغم وجود دراسات تعاطف اصحابها مع المسلمين الى حد كبير فان هذا كله لم يردم الهوة التي حدثت، ولم يلتق الطرفان، في نقاشهما، عند نقطة مشتركة، مما يعني ان النقاش المحتدم بينهما ليس نقاشاً سياسياً وانما هو نقاش فلسفي ابستمولوجي، نتج عن فكر سيطر عليه الاتجاه الوضعي، وان الفجوة القائمة بين محاولات المفكرين المستشرقين وبين المحاولات الفكرية الاسلامية لن يلغيها الا رؤية جديدة هي رؤية مفكري ما بعد الحداثة للتاريخ. لأن الحقيقة التاريخية، وفقاً لهذه الرؤية، تكمن في علاقة الناس بماضيهم، ذلك الماضي الذي يخلق وينظم من منطلق نظرة نابعة من شؤون اجتماعية واقتصادية، لهذا لا يمكن ان يقرأ تراث يتمسك به اصحابه إلا وفقاً لهذه النظرة.
ومع ان المحاولات التي جرت انطلاقاً من هذه النظرة لفهم الكتاب المقدس العهد القديم والتي اعتبرت الكتاب المقدس سجلاً لأحداث تاريخية اسسها رواة متأخرون، انطلاقاً من اهتماماتهم الايديولوجية والاجتماعية، لم ترض جميع المؤمنين، إلا ان هذا الاسلوب في فهم التراث الديني، على حد تعبير هيك، يبقى اكثر قبولاً من المطالبة بنقد تاريخي للوحي، ومن السؤال عن احداث تطابق ما روي في الكتاب المقدس. ذلك ان هذا النقد وهذا التساؤل يهددان الايمان ويعادلان الكفر بالله لدى جماعات من المسيحيين واليهود. لهذا يرى هيك ان دراسة التراث الديني وفق منظور ما بعد الحداثة سوف تكون اكثر عمقاً من الدراسة النقدية، وبخاصة ان الفهم الابستمولوجي الذي يفترضه الباحث في دراسة التاريخ يتأثر تأثراً واضحاً بالرؤية الدينية الفعالة في الجماعة، وهذه الرؤية تبدو اكثر وضوحاً عند الجماعات الاسلامية.
لقد غفل هيك، في اعتقادي، عن ملاحظة ما يخفيه الجانب الابستمولوجي من النقاش من ابعاد سياسية عند الباحث المسلم بخاصة. وذلك لأن هناك عدداً كبيراً من الصيغ والعبارات والمفاهيم التي تضمنها التراث الديني الاسلامي عبرت عن مبادئ وقواعد وأحكام لها دلالات وأبعاد سياسية تتعلق اما بالنظام المدني للمجتمع الاسلامي، اي السياسة الداخلية للمجتمع، واما بعلاقة المسلمين مع غيرهم من الامم، اي بالسياسة الخارجية لهذا المجتمع، حيث يعتقد عدد كبير من المسلمين ان هذه المبادئ والقواعد والاحكام تصلح لكل زمان ومكان، مما يدفع الباحثين المسلمين الى قراءة تراثهم الديني باستمرار، ليس بحثاً عن معلومة تاريخية، وانما بحثاً عن حكم يتعلق بوقائع تحدث، او مراجعة لأحكام يعتقد الباحث انها لم تعد تناسب الاحداث الآنية باحثاً عن الشروط التاريخية لصدور تلك الاحكام.
ولا شك ان البحث عن معرفة ما تجد اساسها في نصوص مقدسة الوحي او النقل بغرض اقامة معرفة عملية على اساس معرفة دينية يمثل موقفاً ابستمولوجيا. لكن هذا الموقف، كما هو واضح، تكمن وراءه اغراض ودوافع سياسية عند الباحث المسلم على وجه الخصوص. فالهاجس السياسي كان وما يزال قوياً لدى الباحثين الاسلاميين.
لهذا ارى ان مثل هذا الباحث الذي يسعى الى اهداف كهذه لا يناسبه قراءة التراث الديني وفق منظور ما بعد الحداثة وحده، وانما يحتاج الى قراءة عقلانية نقدية ذات رؤية موضوعية وشمولية يمكن ان تفضي الى صيغ ايجابية.
كما ارى ان اصرار هيك على التأكيد بأن الاختلاف ما بين الباحثين الاسلاميين والمستشرقين الأكاديميين هو اختلاف ابستمولوجي، يوحي بأن المنهج العلمي هو السبب في اختلاف وجهات النظر، متناسياً ومغفلاً السبب الحقيقي وراء الاختلاف، وهو انه يبدو في الانحراف عن هذا المنهج، وتحيز بعض المستشرقين لسياسة دولهم الاستعمارية التي سخرتهم للحصول على معلومات تمكنها من الهيمنة على الشرق بما فيه العالم الاسلامي. بخاصة وأن المستشرقين قد قدموا صورة عن الشرق غير موضوعية عززت المقولتين، الشرق الوجداني والغرب العقلاني، المشحونتين بالمواقف العنصرية والفوقية، مما ادى الى انعدام ثقة الباحثين المسلمين بالمستشرقين، واتساع الفجوة بين كلا الطرفين.
التراث النبوي
من منظور ما بعد الحداثة
يقول هيك: "ان انتصار فكر ما بعد الحداثة على الوضعية اتاح لي الدخول بالعمق في اطار المراجع الاسلامية وأتاح لي التفكير في الاسلام وكأنني فرد مسلم. ذلك ان فكر ما بعد الحداثة وصل الى الخبرات الانسانية كقوة فاعلة لتحريرها من ضلالة الاستعلاء الثقافي. فالمعرفة لدى مفكري ما بعد الحداثة هي اطار مرجعي وليست مجرد محاولة لفهم مجموعة حقائق بطرق معقولة.
انها اكثر من مجرد التحرك بين ثقافات الآخرين وخبراتهم، وحتى اكثر من ان يسمح الفرد لنفسه ان ينظر ويختبر العالم انطلاقاً من وجهة نظر الآخرين، لأنها ليست عملاً اكاديمياً فقط وانما هي خبرة معيشة. وانطلاقاً من هذه الرؤية سوف ادخل عالم الاسلام، وتاريخ الاسلام وفق تعبيراته... فقد كشف لي الاستغراق في دراسة التراث النبوي عالماً متسعاً ومدهشاً ورؤية متميزة عن الحقيقة الانسانية العامة".
من هذه المقولة ارى ان موقف هيك وتصريحه بأنه يدخل عالم الاسلام كأنه فرد مسلم يجنبه استخدام حجج منطقية في عرضه وجهة نظره. وربما اعتقد بأنه يمكنه ان يقنع عدداً من المسلمين بقبول اقتراحه عن طريق استثارة مشاعرهم الدينية وعواطفهم، متأثراً بالمقولة التي تتردد في الاوساط الثقافية الغربية بأن الشعوب الشرقية وبخاصة المسلمين يتحمسون كثيراً لتراثهم الديني ويغلبون الجانب الوجداني في الدفاع عنه. او ربما اراد هيك ان يحذو حذو الباحث والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي نال رضا عدد من الباحثين العرب حتى وصفه ادوارد سعيد قائلاً: "انه راح يدرس الاسلام بانسانية لا متناهية، وحنو عميق، وتعاطف قوي مكّنه من فهم داخلي للقوى الحية التي تعطي الثقافات طابعها الخاص".
لخص هيك بإيجاز محيط رؤية الباحث المسلم للتراث النبوي، كما وصف عملية جمع السنّة وتدوينها التي تمت في القرن الثالث الهجري بعد ان تناقلها المسلمون شفوياً لمدة قرنين، وقال انها في مجملها عملية شاقة تولاها رجال مسلمون مخلصون بذلوا جهوداً مضنية وهم يتنقلون من بلد الى آخر لسماع حديث روي عن الرسول او للتأكد من صحة حديث سمعوه.
وقد عرف عن هؤلاء الرجال انهم ناضجون مستقيمون اخلاقياً فطنون، لا ينسون المعرفة الثمينة التي تناقلها صحابة الرسول وتابعوهم الأوفياء من جيل الى جيل، كما سجلوا كل ما نقلوه مما صدر عن الرسول من قول او فعل او تقرير في سجلات مختلفة لكي يحفظها المسلمون في عقولهم وتظل معياراً لسلوكهم.
ويرى هيك ان هدف الباحثين تركز في ترسيخ الصلة التاريخية بين ما فعله المسلمون وما يفعلونه وبين ما كان يفعله نبيهم، لهذا أسسوا علماً مضبوطاً غير عادي في دقته وحساسيته، تضمن فيضاً من الاحكام والشروط والاختبارات النقدية من اجل قبول او فحص كفاءة ناقل للرسالة النبوية يوثق به.
وكانت الثقة بالراوي هي المعيار الذي صنف على اساسه ما نقل عن الرسول من احاديث، فصنّفت الاحاديث الى صحيحة وحسنة وضعيفة وكاذبة وفقاً لرواتها الذين كان منهم من يوثق به ويعوّل عليه، ومنهم الكاذب، ومنهم المنتحل. وأسس المسلمون مكتبات ضمت كتب الحديث وكتباً اخرى تناولت الحديث عن الفترة المبكرة من الدعوة الاسلامية، وكرّست لترسيخ اصلة بين ما تمارسه الجماعة المسلمة وبين نبيها.
وكتبت مجلدات سجلت سيرة حياة الرواة العدول وذكر فيها اسماء الرواة الذين لا يعول عليهم، ولا يستحقون ان يندرجوا في سلسلة ناقلي التراث النبوي.
ان هدف هيك من تصويره لرؤية المسلمين لتراثهم النبوي، على حد قوله، هو امعان النظر في معنى هذا التراث بالنسبة للمسلم. فالتراث يمثل للمسلم صدى الرسالة النبوية. انه ضمانة للدين اكثر من كونه المحتوى الفعلي له. اي انه الرابطة التاريخية بين الجماعات الاسلامية في كل عصر وبين حدث اساسي بالنسبة لها وهو الوحي الذي انزله الله على النبي وكلّفه بنقله الى العالم.
ان التراث النبوي صدى يربط الدين بأصوله، وبفقدان هذا الصدى، تفقد الجماعة الاسلامية صلتها بالوحي النبوي ومكانه، وهذا يفسر انكباب المسلمين على دراسته باستمرار.
لكن المأزق الذي ينبثق عند دراسة هذا التراث، كما يرى هيك، يكمن في سؤال الباحث عن الاحداث المطابقة للوحي. ولتجنب هذا المأزق يقترح هيك قبول الاحداث كما رويت بقيمها الظاهرة، وإعطاء الأهمية الكبرى لتسلسل عملية النقل اكثر من اعطائها للاحداث المروية. فتقبل الوحي على انه حقيقة يفترض الاعتقاد بان الاحداث قد حدثت بالفعل وبالضبط كما رويت.
لهذا كان هدف المسلمين الاوائل يتمركز حول معنى التراث اكثر من مضمونه كما كان ابقاء الجماعات الاسلامية على صلة بالوحي، ليظل الوحي نقطة انطلاقها، هو الامر المهم بالنسبة لهم. ولهذا ايضاً عظم المسلمون وما يزالون، اولئك الباحثين الابطال الذين حافظوا بما نقلوه عن النبي على الرابطة الحيوية بين الجماعات الاسلامية وبين الوحي. وقد برزت نتيجة ذلك، وفي وقت مبكر في التاريخ الاسلامي، ثقافة تعنى بأدب السيرة وتمجد ناقلي السنّة النبوية، فبدت مكانة هؤلاء الناقلين تحاكي مكانة القديسين في التراث المسيحي.
ومن هنا يمكن تصور مشاعر المسلمين عندما يلمسون الشك وهو يتطرق الى شرعية الرسالة النبوية، اضافة الى وجود موروث نبوي بالفعل قبل مرحلة التدوين.
ان هذا الشك، في رأي هيك، يعادل القول لدى المسيحيين بان الروح القدس غير موجود ويهدد ضمانة الدين نفسه. فيما يحافظ على الدين قبول السرد المنقول كحقيقة تاريخية، بغض النظر عن مضمونه، اي ان يؤخذ السرد بقيمه الظاهرة من دون اي تساؤل نقدي يهدد الدين ويزعزع الايمان.
يتصور هيك ان القول بان الحقيقة التاريخية هي تعبير عن علاقة الناس بماضيهم يمكن ان يلقى قبولاً لدى عدد من الجماعات الاسلامية، رغم اختلاف فهم المسلمين للحقيقة التاريخية الماثلة في التراث النبوي عن فهم مفكري ما بعد الحداثة للتراث وللتاريخ.
ذلك لأن المسلمين لن يسمحوا بالقول ان التراث النبوي تدبير انساني، ولن يقبلوا نقد التراث الديني، فقد يأخذ فهم التراث عندهم مساراً يختلف عن مساره عند الجماعات المسيحية التي اختارت الالتزام للجماعة الاكاديمية في فهمها لتراثها الديني.
لقد نظم المسلمون تراثهم وفقاً لأساليب دقيقة ومعقدة وذلك لتأكيد هوية خاصة بهم، واعتبروا تراثهم الديني مصدراً للمعلومات، لكنهم ظلوا عاجزين عن تجسيد الاحداث التي وصفها الرواة وتضمنتها المصادر الدينية. لهذا فان النقد الذي وجهه مفكرو ما بعد الحداثة لنظريات المعرفة التقليدية قد يفيد في موقف كهذا.
لقد شكك مفكرو ما بعد الحداثة في مقدرتنا على معرفة او تجسيد الاحداث في حالة غياب الوثائق وكذلك في حال وجودها. وذلك لشكّهم، في الحال الاخيرة، بمقدرة الباحث المتخيل للحدث الذي عبّرت عنه الوثيقة على رؤيته بالوضوح الذي كان يبدو به للأجيال التي عاصرته.
ان هذا النقد، في نظر هيك، يفسح المجال لطريقة مختلفة في فهم المصادر الاسلامية. فالاختلاف مطلب من مطالب ما بعد الحداثة. لان فهم الناس ليس واحداً وعلاقتهم بماضيهم ليست واحدة ما دامت العلاقة تتشكل نتيجة اهتمامات اجتماعية وايديولوجية لديهم. وهذا يعني انه بامكان كل من الباحثين المسلمين والغربيين، الاتفاق على ان التاريخ لا يحدد باعتباره سجلاً لاحداث الماضي، بل هو، تقريباً، علاقة الناس بذلك الماضي.
ووفقاً لهذه الرؤية لا ينظر الباحث الى المصادر على انها اقتطاف لمعرفة موضوعية عن حوادث حدثت في الواقع، وانما ينظر اليها كمساحة لتوضيح تطور الاهتمامات الاجتماعية المشتركة للمسلمين، ويجعل العنصر الاكثر اهمية في تعريفه الحقيقة التاريخية، فهم علاقة الناس بماضيهم. وفي هذه الحال يصبح تأكيد او انكار الاحداث التي رويت، على انها قد حدثت على هذه الطريقة تماماً امراً تافهاً لا قيمة له.
ويؤكد هيك ان هذه الرؤية لا تنكر وجود حقيقة وبالتالي لا يترتب عليها اي موقف عدمي، بل ستتيح للباحثين المسلمين والمستشرقين قراءة التاريخ في سياقات مختلفة، ويهدفون الى معرفة فهم الكاتب لماضيه، او بتعبير أدق، معرفة الماضي كما يراه الكاتب ويجسده في عمله، وبذلك يستطيعون ان يدخلوا الى عالم الكاتب ليس من اجل اكتشاف احداث تاريخية عاصرت الكاتب بل من اجل اكتشاف العالم كما يراه هو وكما عبّر عنه.
ونظراً لأن لكل كاتب اسلوبه في فهم الاحداث وتجسيد رؤياه يستطيع الباحث ان يقرأ لأكثر من كاتب عاش الاحداث نفسها وشارك الكاتب في رؤياه، وبذلك تكتمل الصورة لدى الباحث ويقترب من الحقيقة. فالحقيقة ليست محاولة لتحليل الموضوع واقتطاف اجزاء منه، بل هي طريقة لفهم الآخر كما يقدم نفسه واصغاء له.
ان هيك، كما يبدو لي، يمثل موقفاً يعتبر فيه الفلسفة نوعاً من الابستمولوجيا الاجتماعية. فالحقيقة التاريخية في نظره لا تجد تطبيقاً لها إلا في الممارسات الاجتماعية، اي ضمن سياق ايديولوجي اجتماعي معين. اي انها حقيقة بالنسبة لهذا السياق وحده، محدودة باطار ثقافة معينة، وعلى هذا الاساس تكون الحقيقة جائزة نسبية متغيرة متعددة بتعدد الثقافات.
وقد حاول هيك تجنب المأزق الذي يمكن ان يؤدي اليه موقف كهذا فاقترح، وربما متأثراً الى حد ما بنظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، قراءة اكثر من عمل لكاتب او ناقل للتراث النبوي بغية الاقتراب من الحقيقة،
لكن اقتراحه هذا، كما ارى، يبقي الامر معلقاً ولا يصل فيه الى موقف عقلاني، وذلك لان قراءة عدد من الاعمال لا يقرب من الحقيقة في ظل غياب اي معيار عقلاني يمكن للباحث على ضوئه ان يقرر اي عمل اكثر صحة او معقولية من الآخر، فتشابه الاعمال وتشابه الظروف التاريخية والاجتماعية للناقلين او الكتّاب ليس مؤشراً على صحة ما نقلوه او ما كتبوه.
ان موقف هيك نابع من تبنيه اتجاه ما بعد الحداثة الذي جاء رد فعل على الاتجاه التنويري العقلاني والرؤية العقلانية للتاريخ وللتقدم البشري. فالاتجاه الذي يتبنى هيك رؤياه للتاريخ، يرفض مفهوم التاريخ ومفهوم التطور ويدّعي ان الازمة ازمة ابستيمولوجية، ولهذا السبب يؤكد على اللغة وتحليل الخطاب ويقوم على منهجية تفكيكية تعنى فقط بتحليل المفاهيم وتصويبها.
وفي اعتقادي، ان رؤية تقوم على اساسه قد تفيد في فهم تراث لم يعد يعنينا امره بل نعتبره تاريخاً مضى ويتعين علينا ان نقيم فاصلاً بيننا وبينه. لكن تراثاً كالتراث النبوي الاسلامي، يتمسك به اصحابه ويصرّ عدد كبير منهم على اقامة حاضرهم على اساس قيمه ومبادئه ويطالبون بتطبيق ما ورد فيه من احكام، لا تناسبه رؤية كتلك التي يقترحها هيك.
ذلك ان الموقف الفلسفي الذي تقوم عليه تلك الرؤية يفرز، كما هو معروف، قطيعة ابستمولوجية مع التاريخ تعزل كل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي عن الدراسات الابستيمولوجية، ويعزز التعددية الثقافية، وهي مبدأ "انغلاق دفاعي"، على تعبير شتراوس، ولا يقربنا قيد انملة من الحقيقة، بل يجعلنا نشك في موقف كل الباحثين بما فيهم هيك نفسه. وذلك لاننا وفقاً للرؤية التي يقترحها لا نستطيع ان نفهم آراءه وآراء الباحثين الغربيين بمعزل عن المؤثرات الاجتماعية والثقافية والايديولوجية في مجتمعاتهم.
لقد عاش هؤلاء الباحثون في مجتمعات تحمل صورة مشوّهة عنا، وتدين بعقائد غير عقائدنا، وتمارس دولهم سياسات عنصرية مدعومة بعقدة التفوق والرغبة في الهيمنة. انه وفقاً للرؤية التي يقترحها هيك، لا يمكن لباحث تأسست ثقافته وتأسس تفكيره في اجواء كهذه ان يقرأ تراثنا وأن يكتب عنه من دون ان تنعكس ثقافته وايديولوجيته على اعماله.
ان تراثاً يتمسك به اصحابه لا تناسبه رؤية تقوم على اساس موقف فلسفي يقبل بسياسة التجزئة والتشظي والفوضى الفكرية بحجة التعددية وقبول مبدأ الاختلاف، ولا يسمح بتسويغ عقلاني للمواقف السياسية والاجتماعية والاخلاقية، ويكتفي بتحليل وتصويب العبارات المكوّنة للتراث.
ان المنهجية المناسبة لقراءة التراث الديني الاسلامي، في نظري، يتعين ان تنطلق من موقف فلسفي عقلاني نقدي، شمولي الرؤية، لا يتخلى عن القيم العلمية، ويأخذ في الاعتبار الاهتمامات الاجتماعية والايديولوجية التي عاصرت تدوين التراث، ويسمح في الوقت نفسه للباحث او المفكر الحكم على الموازنة الصحيحة بين الرؤى وفق معيار عقلاني تتفق عليه معظم العقول. بهذه المنهجية على الارجح ندنو من الحقيقة.
* باحثة من الأردن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.