لعل أول ما يثير الدهشة لدى قراءة سيرة ابن بطوطة هو ذلك التشابه بين بعض سمات تلك السيرة، وبعض سمات سيرة رحالة آخر ينتمي الى العصر نفسه تقريباً هو الايطالي ماركو بولو. وقد يمكن ان نكتفي هنا بسمتين أساسيتين هما طول غياب كل منهما عن وطنه خلال الرحلة التي قام بها، أكثر من خمسة وعشرين عاماً تقريباً لكل منهما، من ناحية، والكيفية التي دونت بها رحلة كل منهما: بعد انقضاء الرحلة الطويلة كان نصيب ماركو بولو ان أودع السجن فنصّ من ذاكرته على مسجون مثله حكاية رحلته، لأن كل ما دوّن من يوميات كان سرق منه وضاع" أما ابن بطوطة فكان حظه أفضل، فهو لم يسجن، لكنه انضم الى حاشية السلطان ابي عنان وراح يحكي ما حصل له خلال تجواله، من الذاكرة أيضاً، لأن الهنود كانوا سلبوه أوراقه ومدوناته. وهنا أيضاً أملى ابن بطوطة حكايته على كاتب السلطان، محمد بن جزّي الكلبي "وهذا، في رأي كرم البستاني مقدّم احدى طبعات رحلة ابن بطوطة، ما يفسر لنا ما يرى في سياق رحلته من بعض هفوات جغرافية ومبالغات". وهو نفس ما يتسم به نصّ ماركو بولو. والحال ان هذا التشابه وغيره دفع عدداً من الكتّاب العرب الى "الاستنتاج" بأن ماركو بولو قد يكون نقل عن ابن بطوطة، غافلين - كما ينبه الدكتور غسان غصن - عن حقيقة مسلّية وهي ان ماركو بولو عاش ورحل وكتب، قبل ان يفعل ابن بطوطة ذلك!! يبدأ ابن بطوطة نص رحلته كما يلي: "كان خروجي من طنجةمسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وسبعمائة 1324م. معتمداً حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول". وينهيها هكذا: "... ثم خرجت فوصلت الى حضرة فاس، حضرة مولانا أمير المؤمنين أيده الله، فقبلت يده الكريمة، وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك، وأقمت في كنف احسانه بعد طول الرحلة". إذاً بين الانطلاق والعودة مر تسعة وعشرون عاماً، لكن رحلة ابن بطوطة لم تكن رحلة واحدة متصلة، بل كانت عبارة عن تسع رحلات، يشكل تفصيلها متن هذا الكتاب المدهش الذي يحمل في الأصل عنوان "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، واختصر اسمه دائماً الى "رحلة ابن بطوطة". والرحلات العشر كانت كما يلي: الأولى كانت تهدف الى الوصول الى مكةالمكرمة للحج، وذلك عبر المرور بشمال أفريقيا ومصر وأعالي النيل وسورية، وهو إذ بقي في الديار المقدسة شهرين انطلق بعد ذلك الى بغداد ثم الى انحاء ايرانفبغداد والموصل ثم بغداد فالجزيرة العربية حيث بقي هذه المرة ثلاثة أعوام. بعدها انطلق الى البحر الأحمر فاليمن فمقدايشو وأفريقيا الشرقية عائداً من هناك الى عمانفمكة. وفي الرحلة الرابعة زار مصر فسورية فآسيا الصغرى فبلاد المغول وجنوب روسيا، منطلقاً من هناك الى القسطنطينية فوسط آسيا وأفغانستان فوادي الهندوس، وصولاً الى دلهي التي أقام فيها تسعة أعوام قاضياً على المذهب المالكي. بعد ذلك توجه الى جزر المالديف حيث بقي عاماً ونصف العام في رحلة خامسة شملت سبلان فاسام فسومطرة والصين في رحلة سادسة تلتها رحلة سابعة الى بغداد وسورية ومصر والحج الى بيت الله الحرام. هذا لدى عودته الى الاسكندرية توجه بحراً الى سردينيا ومنها على متن سفينة كان لانية الى الجزائرففاس ثم مملكة غرناطة، قبل ان يعود الى المغرب ثانية ومن ثم ينطلق في رحلته الأخيرة الى وسط أفريقيا، الصحراء وبلاد النيجر. بهذا يكون ابن بطوطة قد تجول طوال سنوات عديدة في كامل تلك الرقعة الجغرافية التي تمثل، في ذلك الحين ديار الإسلام، وهو في معرض وصفه لعادات وأحوال الشعوب التي زارها، حرص دائماً على ان يقارن بين ما أتى به الإسلام اليها، وبين ما كان من وحشية وضراوة فيها قبل وصول الإسلام. وحرص دائماً، ولا سيما عند الحديث عن مناطق الأطراف، ان يصف كيف يتجاور الإسلام مع ما قبله، ولا سيما في أفريقيا. وبالنسبة اليه كان كل ما يراه من عجائب وغرائب هو ما يبدو خارجاً وغير مألوف للعالم الإسلامي الذي ينتمي هو اليه. ترى أفلا يمكننا تشبيهه، في ذلك، بأولئك العلماء الانتروبولوجيين الذين طفقوا، بعد ابن بطوطة بقرون عديدة، يزورون العالم الخارج عن المركزية الأووربية أو مركزية الرجل الأبيض، إذا صح التعبير ليصفوا كل ما هو غير مألوف لديهم، بشكل مدهش ومستنكر أحياناً؟ من الواضح في نص ابن بطوطة ان المسكوت عنه، انما هو اعتبار ما هو حاصل في مركزية عالم الإسلام المغرب العربي في زمنه القاعدة العقلانية الحضارية، وكل ما هو خارج عنها، ضرب من التوحش والنزعة الغرائبية. اننا في ازاء العالم الذي يصفه ابن بطوطة، نجد أنفسنا متسائلين، ولا سيما امام ما يدهشه بشكل قاطع، عما إذا كان حقاً شاهد الأمور كما يصفها أم انه انطلق دائماً من تفسير ذاتي لأحوال شعوب كل ما في الأمر انها ترى الوجود والكون وأحوالها رؤية لا تتجانس مع رؤيته. لقد جرت العادة ان تقارن رحلة ابن بطوطة، برحلة ابن جبير الذي سبقه زمنياً، لكن رحلة ابن جبير لم تتعد نطاق المركزية العربية الإسلامية، ولا تحفل بعنصر الادهاش الذي يقول كل ما يمكن ان يكون مسكوتاً عنه. من هنا فإن ثمة من الدارسين من يرى ان من الأفضل مقاربة رحلة ابن بطوطة بمقدمة ابن خلدون، إذ يبدو النصان متكاملين، يغوص أولهما جغرافياً في المكان، فيما الثاني يدور تاريخياً في الزمان. والتكامل بين النصين يشي أصلاً بما كانت عليه حال العالم العربي في عهدي الرجلين المتقاربين. إذ ان عصرهما كان عصر اضمحلال الدولة الإسلامية، أي العصر الذي وجدت فيه تلك الحضارة نفسها في حاجة الى أن تؤرخ ذاتها، عن طريق المقارنة إما بالأمكنة الأخرى وإما بالأزمنة الأخرى. و"الرحلة" و"المقدمة" تفعل هذا بالتأكيد. ولد ابن بطوطة، واسمه الكامل عبدالله اللواتي الطنجي، في طنجة العام 1304، وفيها سيموت في العام 1368، وهو في الأصل لم يكن عالماً أو كاتباً، بالأحرى كان تاجراً، تخلى بالتدريج عن تجارته وجعل من نفسه رحالة، ومكنته علوم نالها باكراً من ان يستخدم انتماءه الى المذهب المالكي ليعمل قاضياً أو فقيهاً في الهند والصين. وثمة من الدراسات ما يرى اليوم، انه أصلاً كان يعمل في خدمة السلطان جاسوساً مثلاً وان رحلاته انما كانت لجمع المعلومات عن ديار الإسلام في وقت كان فيه السلطان أبو عنان يرى من حقه أو من واجبه توحيد ديار الإسلام بعد انهيار الخلافة العباسية وتدهور أوضاع الأندلس، ولكن من المؤكد ان مثل هذا المشروع يفوق طاقات ابن بطوطة، وبالكاد يشي به نص كتابه.